الجمعة، 7 أغسطس 2020

كيف تكسب من الإنترنت؟!

 

الجمعة 7 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة /251

(كيف تكسب من الإنترنت؟!)

 

في مجلس علمٍ ضم عدداً من رجال الدعوة وشيوخها، دارت مناقشةٌ حول أسلوب أحد الدعاة، الذي كان له تأثيرٌ إيجابيٌ على قطاعٍ مهمٍ من المسلمين؛ فسأل أحد الحاضرين: "يا أستاذ، مِن وجهة النظر التربوية، ما رأيك في منهجية وإرشادات الداعية فلان؟"، فقال: "إنه يملك موهبةً فذةً وظَّفها في خدمة دينه"، قلتُ له: "بعض الناس يرى أنه ليس عالماً؛ ومِن ثَم لا يجوز أن يأخذ هذا الحجم من الانتشار"، قال: "كثيرٌ من العلماء عبارةٌ عن خزانة معلوماتٍ مغلقةٍ، أو نسخةٍ من مكتبة، أما هذا الداعية فلم يقل إنه فقيهٌ، وكوْن عليه ملاحظاتٌ، فمن ذا الذي ليس عليه ملاحظاتٌ؟ علينا النصح والتجاوز عن هذه العثرات في سبيل الانتفاع من الخير الكثير الذي يعطيه للناس، لأن المقابل هو الخزانات المغلقة والنسخ المكتبية"!

علق شيخٌ من الحاضرين قائلاً: "علينا ألا نحصر معنى كلمة «فقه» في مدلولها الاصطلاحي، وإنما الفقه في اللغة يعني الفهم، فكما أن هناك فقه الأحكام، هناك فقه الدعوة، وفقه السيرة، وفقه المعاملة، وما يقوم به فلانٌ في جذب الناس ومعرفة كيف يخاطبهم هو أيضاً نوعٌ من أنواع فقه النفوس".

توجهت بالسؤال إلى فلانٍ نفسه فقلتُ: "حدثنا عن أكثر ما أثَّر فيك من نتائج بثك الفضائي"، فأحنى رأسه وسكت قليلاً، ثم تدفق قائلاً: "بعد أن تكلمتُ عن معنى «العفة» في إحدى القنوات الفضائية اللبنانية جاءتني رسالةٌ، عبر البريد الإلكتروني، من فتاةٍ تقول: "أنا فتاةٌ اسمي «سارة» والدي لبنانيٌ مسلمٌ، وأمي لبنانيةٌ مسيحيةٌ، انتقلا إلى «فنزويلا»، وبعد فترةٍ انفصلا عن بعضهما ليتزوج كلٌ منهما بمن يناسبه، وبقيتُ أنا حائرةٌ شاردةٌ، وقد رزقني الله جمالاً أخاذاً؛ فانزلقت قدمي لأنضم إلى مسابقات ملكات الجمال هناك، حتى انتهى بي المطاف إلى العمل في «بار» وصار لي «بوي فرند»، نسيتُ ديني، بل نسيتُ أني مسلمةٌ، ولم أعد أعرف عن الإسلام إلا اسمه، ولا عن المصحف إلا رسمه، وصدفةً كنتُ أتابع تلك القناة من «فنزويلا»؛ لأنها قناةٌ لبنانيةٌ، رأيتك تتكلم عن «العفة»؛ فلأول مرةٍ أشعر بالخجل من نفسي، وأنني أصبحتُ سلعةً رخيصةً في أيدي الأوغاد، انشرح صدري، وأنا لا أعرف مسلماً سواك". ثم قالت: "سؤالي لك: هل يقبلني الله وأنا الغارقة في الموبقات والآثام؟!"، بينتُ لها سعة رحمة الله وفضله وحبه للتائبين، فأرسلت تقول: "أريد أن أصلي، وقد نسيتُ سورة الفاتحة، أريد أن أحفظ شيئاً من القرآن"، فأرسلتُ لها بالبريد المستعجل ختمةً مسجلةً كاملةً بصوت إمام الحرم المكي الشريف، بعد ثلاثة أيامٍ أرسلت لي تقول: "إنني حفظتُ سورتي: «الرحمن» و«النبأ»، وبدأتُ أصلي"، ثم أرسلت تقول: "لقد هجرتُ «البوي فرند» وطردته، كما أنني انفصلتُ عن مسابقات الجمال و«البار»". بدأت الفتاة تُقبل على الله سبحانه وتعالى بصدقٍ، لقد وجدت ذاتها لأنها عرفت ربها.

بعد أسبوعين من المراسلات، أرسلت تقول: "إنني متعبةٌ؛ لهذا انقطعتُ عن مراسلتكم، أصابني صداعٌ وآلامٌ شديدةٌ، وبعد الفحوص والكشف الطبي، اتضح أنني مصابةٌ بسرطانٍ في الدماغ"، العجيب أنها قالت: "أنا لستُ زعلانةً بل فرحانةٌ، لأنني عرفتُ ربي وأحببته وأقبلتُ عليه قبل المرض والبلاء، وأنا داخلةٌ على عمليةٍ جراحيةٍ بعد يومين، وأخاف ألا يغفر الله لي إذا متُ"، فقلتُ لها: "كيف لا يغفرُ الله للتائبين؟ لقد أكرمك اللهُ بهذه العودة إليه، وبحفظ سورة «الرحمن» وأنت الآن بين يدي الرحمن أرحم الراحمين"، وفتحتُ لها أبواب الرجاء، وطردتُ من نفسها اليأس، فقالت: "لقد وضعتُ في المسجد أشرطتي لترتيل القرآن بصوت إمام الحرم مع أشرطتك، لأنني قد أُودِّع الحياة، لتكون لي صدقةً جاريةً". وبعد يومٍ أرسلت لنا صديقتها المسيحية تقول: "لقد ماتت «سارة»".

 

أحبتي في الله .. علَّق الكاتب على قصة «سارة» بقوله: نحن الآن في عصرٍ أصبح العالم فيه بيتاً صغيراً؛ فهل كان هذا الداعية -وفقه الله- يعلم أن فتاةً في «فنزويلا» سوف تعود إلى الله بسبب محاضرةٍ له نقلتها الأقمار الصناعية إلى هناك؟! وهل كان إمام الحرم يدرك أنه قد يكون نائماً في فراشه في منتصف الليل في «مكة»، وصوته يصدح بالقرآن في مناطق شتى من العالم، منها «فنزويلا» النائية في آخر العالم؟! هذا معناه حسناتٌ لا تنتهي، ﴿ذلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ﴾، سوف تقولون عنهم إنهم محظوظون! وأنا أقول لكم: نحن أيضاً قد أنعم الله علينا بنعمة الإنترنت؛ فلنغتنم الفرصة ما دام القلب ما زال ينبض!

 

صدق الكاتب حين قال إن الله أنعم علينا بنعمة الإنترنت؛ فلنغتنم الفرصة، وأقول: نعم، إنها فرصةٌ سانحةٌ أمامنا نستطيع -لو أحسَّنا الاستفادة منها- أن نُعوض كثيراً مما فاتنا، ونأمل في كسب رضا الله والفوز برضوانه. وكما تطالعنا الكثير من الإعلانات بعبارةٍ تجذب الانتباه (كيف تكسب من الإنترنت؟!) فإن المسلم الذكي الكيِّس الفطن، لا يُفوِّت أبداً فرصةً مثل هذه إلا واقتنصها؛ عندما نوظِّف الإنترنت في نشر العلم المفيد، فقد يقرأ شخصٌ ما -نعرفه أو لا نعرفه- في مكانٍ ما -قريبٍ أو بعيد- في وقتٍ ما -سواءً الآن أو بعد موتنا- آيةً قرآنيةً نشرناها، أو حديثاً نبوياً شريفاً عممناه، أو كلمةً أو عبارةً كتبناها، أو قد يشاهد مقطعاً مرئياً قمنا بإرساله، أو يستمع إلى شريطٍ صوتيٍ نصحنا بالاستماع إليه، أو يرى صورةً ثابتةً معبرةً، تكون سبباً في صلاح حاله وإنقاذه من التيه والضياع والغفلة والهلاك.

وإلى جانب نشر العلم المفيد، يقوم المسلم الكيِّس الفطن بتصحيح وتصويب ما يصله من رسائل وما يطَّلع عليه من منشوراتٍ بها أخطاءٌ فيما يتعلق بالعقيدة أو السيرة النبوية، أو بها سوء تفسيرٍ لبعض الآيات أو تحريفٌ لها، أو بها أحاديث باطلةٌ موضوعةٌ مكذوبةٌ ومنسوبةٌ إلى رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام.

كما يمتنع المسلم الكيِّس الفطن عن نشر ما لا يفيد من الموضوعات، فضلاً عن نشر ما يضر، مهما حَسُنت النوايا.

 

فلنراجع أنفسنا؛ كم من أوقاتنا نقضيها في إرسال واستقبال ما لا يفيد من رسائل وصورٍ ومقاطع مرئيةٍ ومسموعة؟ أليس في ذلك مضيعةٌ لأوقاتنا التي هي أعمارنا؟ ألا نتذكر وقت تضييع هذه الأوقات أننا محاسبون عنها؟ ألم نقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ]؟ فهل حضَّرنا الجواب عن سؤالنا عن عمرنا فيما أفنيناه؟

كم من الوقت نخصصه للتعامل مع شبكة الإنترنت دون أن يسأل أحدنا نفسه: (كيف تكسب من الإنترنت؟!).

عشرات الرسائل -وربما مئاتٌ منها- نرسلها ونستقبلها يومياً بواسطة برامج وتطبيقات التواصل الاجتماعي: واتس آب، فيس بوك، يو تيوب، ماسنجر، تيليجرام، إنستجرام، سناب شات، تويتر، سكايب، ڤايبر، لاين، إيمو، وغيرها، فهل فكرنا في استثمار هذه الفرصة لكسب المزيد من الحسنات؟

نعم، نحن لسنا من الدعاة المشهورين الذين تُفتَّح أمامهم أبواب القنوات الفضائية، لكن يمكن لكلٍ منا أن يكون داعياً -ما استطاع- من خلال مدونةٍ يُنشؤها، أو مقاطع ڤيديو ينشرها، أو صورٍ مفيدةٍ يعممها، أو كتاباتٍ على مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي يبث من خلالها خبراته في الحياة، أو مقتطفاتٍ يقتطفها من كتبٍ مفيدةٍ، أو آيةٍ قرآنيةٍ مع تفسيرها، أو سُنةٍ نبويةٍ يحيها ويُعرِّف بها. وإن لم نستطع عمل ذلك فإنه يمكنا على الأقل أن نُعيد نشر ما يصلنا من الآخرين -شرط التأكد من صحته- لتعم الفائدة وتتسع دائرة المنتفعين بالعلم، وهذه كلها أعمالٌ طيبةٌ يمكن لأيٍ منا أن يستثمر فيها وقته، ويُثقِّل بها ميزان حسناته، فيكون من الذين كسبوا من الإنترنت.

 

الوقت هو وعاء العمر، وهو أغلى ما نملك، وما يذهب منه لا يعود أبداً، ولا يمكن شراؤه ولا استعارته ولا تأجيره ولا تخزينه، إنه نعمةٌ يوميةٌ متجددةٌ من رب العالمين. والوقت شاهدٌ لنا أو شاهدٌ علينا؛ إما أن نملأه بما يُرضي المولى عزَّ وجلَّ فيتفضل علينا بثوابه، أو نملأه بما يُغضبه فيكون سخطه وعقابه، أو نتركه بلا أي عملٍ، لا نافع ولا ضار؛ فنخسره بإهداره هباءً.

 

ما يزال الأمر في أيدينا، وما تزال الفرصة سانحةً أمامنا؛ ما دامت لنا أنفاسٌ نتنفسها، وما دام لنا قلبٌ ينبض.

فلينظر كلٌ منا إلى حياته، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب؛ يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ}.

 

أحبتي .. الإنترنت نعمةٌ لمن يُحسن استخدامه، وهو نقمةٌ لمن يسيء هذا الاستخدام. لا تُضيعوا أوقاتكم في نشر ما يضر، وفي تعميم ما لا يفيد. أعمارنا -وإن طالت- قصيرةٌ مقارنةً بحياة الخلود في جنات النعيم برحمةٍ من الله، أو في النار والعياذ بالله. أعمالنا في أوقاتنا المحدودة هي التي تحدد مصيرنا؛ فإن كنتم أحبتي ممن يستخدمون شبكة الإنترنت، كونوا أذكياء؛ وليسأل كلٌ منكم نفسه: (كيف تكسب من الإنترنت؟!).

هدانا الله وإياكم إلى ما فيه صلاحنا وفلاحنا.

اللهم اهدنا رشدنا واجعلنا من الفائزين.

 

https://tinyurl.com/y2e3o8r2