الجمعة، 21 أكتوبر 2022

إيجابية المسلم

 

خاطرة الجمعة /366


الجمعة 21 أكتوبر 2022م

(إيجابية المسلم)

 

 

في حِقبة الثلاثينات من القرن الماضي، أي قبل حوالي تسعين عاماً، التحق طالبٌ جديدٌ بكُلية الزراعة في إحدى الجامعات المصرية، وعندما حان وقت الصلاة بحث عن مكانٍ ليُصلي فيه؛ فأخبروه أنه لا يوجد مكانٌ مُخصصٌ في الكُلية للصلاة، إنما توجد غرفةٌ صغيرةٌ في القبو تحت الأرض يُصلي فيها من يريد! ذهب الطالب وهو في قمة الذهول والاستغراب من العاملين بالكُلية ومن طلابها لعدم اهتمامهم بموضوع الصلاة، وتساءل تُرى هل هُم يصلون أم لا؟! دخل الغرفة فوجدها صغيرةً ضيقةً غير مرتبةٍ ولا نظيفة، مفروشةً بحصيرٍ قديمٍ، ووجد فيها عاملاً يُصلي وحده، فسأله: "هل تُصلي هنا دائماً؟"، فأجاب العامل: "نعم، لا أحد غيري يُصلي، ولا يوجد مكانٌ للصلاة في الكُلية سوى هذه الغرفة"، فقال الطالب مُعترضاً: "أما أنا فلن أُصلي في هذا المكان تحت الأرض"، وخرج من القبو إلى الأعلى، وبحث عن أكثر مكانٍ واضحٍ في الكُلية ووقف وأذّن للصلاة بأعلى صوته!

تفاجأ الطلاب بما حدث؛ وأخذوا يضحكون على هذا الطالب الجديد ويُشيرون إليه بأيديهم، واتهمه بعضهم بالدروشة والجنون، غير أنه لم يبالِ بذلك، جلس قليلاً ثم نهض وأقام الصلاة وبدأ يُصلي وكأنه لا يوجد أحدٌ حوله، صلى وحده. استمر هذا الحال من ضحك الطلاب واستهزائهم عدة أيام.. بعدها قَلّ ضحكهم عليه وكأنهم اعتادوا على ما يفعله كل يوم، ثم اختفى صوت ضحكاتهم وتندرهم عليه، ثم حصل تغييرٌ صغيرٌ؛ إذ خرج العامل الذي كان يُصلي في القبو للصلاة معه جماعةً، ثم أصبحوا أربعةً، وبعد أسبوعٍ صلى معهم أحد أساتذة الكُلية!

انتشر الموضوع وكثر الكلام عنه في جميع أرجاء الكُلية؛ فاستدعاه عميدها وقال له: "لا يجوز أن يحدث هذا؛ أنتم تُصلون في وسط الكُلية! بدلاً من ذلك سنبني لكم مسجداً عبارة عن غرفةٍ نظيفةٍ مُرتبةٍ يُصلي فيها من يشاء في أوقات الصلاة"، وهكذا بُني أول مسجدٍ في كُليةٍ جامعيةٍ بمصر. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ أن طلاب باقي الكُليات أحسوا بالغيرة وقالوا: "لماذا لا يكون لدينا مسجدٌ مثل مسجد كُلية الزراعة؟"؛ فبُني مسجدٌ في كل كُليةٍ من كُليات الجامعة.

 

أحبتي في الله.. لا أحد يذكر الآن اسم ذلك الطالب، ولا أحد يعلم إن كان حياً أم ميتاً، لكن المؤكد أنه يأخذ كل يومٍ حسناتٍ، ويكسب ثواباً عن كل مسجدٍ بُني في جامعات مصر يُصلى فيه ويُذكر اسم الله، كما أنّ له أجراً مستمراً متزايداً عن كل من يُصلي في تلك المساجد من الطلاب والإداريين والعمال والأساتذة، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]. لقد كان هذا الطالب مثالاً على (إيجابية المسلم)؛ فتصرفه بإيجابيةٍ في هذا الموقف كانت له نتيجةٌ أعظم بكثيرٍ مما كان يتوقع، لقد جعل بإيجابيته لنفسه أثراً باقياً خالداً إلى ما شاء الله، وأضاف للحياة معنىً مُتميزاً.

 

وليس بعيداً عن معنى هذه القصة ما يُروى عن ملكٍ في غابر الأزمان، أراد أن يختبر شعبه؛ فأمر جنوده بوضع صخرةٍ كبيرةٍ في إحدى الطُرق المُهمّة التي تمرّ منها قوافل التجّار ويرتادها الكثير من الناس، ثمّ توارى خلف بعض الأشجار في مكانٍ قريبٍ مُختبأً ليرى ما إن كان أحدٌ من الناس سيقوم بإزالة الصخرة. مرّ عددٌ كبيرٌ من الناس من الطريق، لم يُبعدوا الصخرة وفضلوا العبور من حولها، فيما أبدى بعضهم تذمّره وانزعاجه من ملك البلاد الذي لم يقم بمتابعة طُرق مملكته وإصلاحها، لكن ما من أحدٍ منهم كان إيجابياً وأخذ زمام المبادرة وحاول إزاحة الصخرة. بعد مرور عدة ساعاتٍ، ظهر فلاّحٌ بسيطٌ يحمل سلالاً من الخضار على ظهره، وما إن وصل إلى حيث الصخرة الكبيرة، حتى وضع حمولته جانباً، وراح يدفع الصخرة بأقصى قوّته محاولاً إبعادها؛ فنجح في ذلك بعد جهدٍ كبير. عاد الفلاح إلى سلاله ليحملها، لكنه فوجئ بوجود كيسٍ قُماشيٍ مُلقىً في المكان الذي كانت الصخرة فيه، فالتقطه بيده وفتحه؛ فإذا به يمتلأ بالدنانير الذهبية! اندهش وعيناه لا تكادان تُصدّقان ما يرى، ثم رأى مع الدنانير بداخل الكيس ورقةً صغيرةً مطويةً، فتحها وقرأ ما فيها: “هذا الكيس هديةٌ مني -أنا ملك البلاد- للشخص الذي يُبعد الصخرة عن الطريق”.

العبرة المُستفادة: كل عقبةٍ نواجهها في حياتنا هي فرصةٌ لنا لتحسين ظروفنا، وفي الوقت الذي يكتفي فيه الكُسالى بالتذمر والشكوى، لا يُفوت الأشخاص الإيجابيون هذه الفرصة جيّداً ليقوموا بمُساعدة الغير.

 

يقول العلماء إن المسلم إنسانٌ إيجابيٌ يكره السلبية، ويسعى إلى إصلاح الكون بكل ما يستطيع؛ لأنه يُدرك أن (إيجابية المسلم) هي الروح التي تدبُّ في الأفراد فتجعل لهم قيمةً في الحياة، وتدب في المُجتمع فتجعله مُجتمعاً نابضاً بالحياة، وهي جماع عدة فضائل: من أمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر، وبرٍّ ووفاءٍ وصدقِ عهدٍ مع الله سُبحانه وتعالى. أما الإيجابية فهي تعني الاستجابة والتلبية، والطاعة والمسارعة إلى الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. والإيجابية حالةٌ في النفس تجعل صاحبها مهموماً دائماً بأمرٍ ما، ويرى أنه مسئولٌ عنه تجاه الآخرين، ولا يألو جهداً في العمل له والسعي من أجله. والإيجابية تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء. والشخص الإيجابي هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه. إنه شخصٌ لا يهدأ له بال، ولا تَنطفِئ له جَذوة، ولا يكلُّ ولا يملُّ؛ حتى يُحقِّق هدفه الذي يَسعى إليه وغايتَه المنشودة.

لقد جاء القرآن الكريم ليغرس الفضائل في نفوس المؤمنين ويشحذ الهمم إلى معالي الأمور وينهى عن السلبية، ويحض على (إيجابية المسلم)؛ يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ويقول تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

وفي السُنة المشرفة حثٌ على الإيجابية والمبادرة وعدم الركون للسلبية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه].

 

طريق الإيجابية لا يبدأ إلا بالمبادرة؛ قال الشاعر:

بادرِ الفرصة َواحذر فوتَها

فَبُلُوغُ الْعِزِّ في نَيْلِ الْفُرَصْ

فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ

بادرَ الصيدَ معَ الفجرِ قنصْ

ولنا في النملة عبرةٌ؛ فقد كانت نموذجاً يُقتدى به في المُبادرة والإيجابية، فرغم أنها كائنٌ ضعيفٌ لا يأبه به الإنسان، إلا أن الله سُبحانه وتعالى سمى سورةً في القرآن الكريم باسمها، وأورد إلينا قصتها مع نبي الله سليمان عليه السلام، لنتعلم منها درساً عظيماً في المُبادرة والإيجابية؛ يقول تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ َ... ﴾. كما كان للهُدهد هو الآخر قصةٌ مع سليمان عليه السلام فيها درسٌ لنا جميعاً عن المبادرة والإيجابية.

 

لن يعود للمسلمين مجدهم، ولن تعود لهم عزتهم، إلا إذا تمسكوا بإيجابيتهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر -إذ أن هذا شرط خيريتهم- يقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، ولا يسكتون على مُنكرٍ يرونه؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ].

 

أحبتي.. إن (إيجابية المسلم) تبدأ بالمُبادرة إلى عمل الصواب، ولو بدا غريباً في نظر الآخرين، نسير في الطريق الصحيح ولو كُنا قِلةً، ونبتعد عن طريق الضلال ولو سار فيه مُعظم الناس؛ علينا أن نسلك طريق الحق ولا نأبه بقلة السالكين، ونتجنب طُرق الباطل ولا تغرنا كثرة الهالكين. ولنكن مؤثرين في أي مكانٍ نتواجد فيه؛ نعمل على تصحيح الأخطاء التي من حولنا، ونكون قدوةً إلى الخير والرشاد لغيرنا، ولا نستحي من قول الحق، لا نكتفي بالأماني، وإنما نُبادر بالعمل ونأخذ بالأسباب، نلتزم (إيجابية المسلم) فندعو الله سُبحانه وتعالى أن يوفقنا ويُسدد خطانا، ولا نُقصِّر في دعوة غيرنا إلى طريق الحق والرُشد والصواب، وهذا من الجهاد في سبيل الله. عسى أن نكون ممن وصفهم الله في كتابه الكريم بأنهم قومٌ ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾.

اللهم اجعلنا هداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، وأعنّا على الثبات وتحمل أذى المُثبطين والُمشككين والغافلين والمُغيَبين.

https://bit.ly/3VMVaXT