الجمعة 30
مايو 2025م
(لُطف الله)
قصةٌ مؤثرةٌ
عن (لُطف الله) ورحمته بعباده رواها أحد الدُعاة السوريين المشهورين، قال -رحمه
الله-:
وقع لي مرةً
أن دعانا كبير أُسرتنا، الذي تُوفي من زمنٍ بعيدٍ -رحمة الله عليه- إلى جمعٍ في
بيته يضم أفراد الأُسرة جميعاً، وأعدَّ لنا مائدةً وضع فيها كل ما لذَّ وطاب، وهيأ
لنا كل ما يسرنا ويُرضينا. ذهبتُ إلى الاجتماع وكنتُ مُنشرح الصدر، فما لبثتُ فيه
إلا نصف ساعةٍ حتى ضاق صدري، وأحسستُ كأن دافعاً يدفعني إلى الخروج وأنني إن بقيتُ
اختنقت! استأذنتُ بالانصراف فعجبوا مني، وكنتُ أنا أعجب من نفسي ولا أعرف سبباً
لهذا الذي حلَّ بي! وفسد الاجتماع وضاع ما كانوا يتوقعونه من المسرة والانبساط،
وألقوا اللوم عليّ، وأنا أعذرهم ولا أدري لما فعلتُ سبباً.
كانت دار
المضيف في سفح "جبل قاسيون" في منطقة اسمها "حي العفيف"،
وخرجتُ، ومرَّ بي الترام وكان فارغاً، وهممتُ بأن أصعد إليه ثم أحسستُ كأن يداً
قويةً تصدني عنه وتمنعني من ركوبه، فمشيتُ على رجليّ ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب!
ثقوا أني أصف لكم ما وقع كأنه وقع بالأمس، وقد مرَّ عليه الآن أكثر من ثلاثين سنة.
ما مشيتُ
إلا قليلاً، وكان الطريق مُقفراً والليل ساكناً، فوجدتُ امرأةً تحمل ولداً وتسحب
بيدها ولداً آخر، وهي تنشج وتبكي وتدعو دعاءً خافتاً لم أتبينه، فاقتربتُ منها
وسألتها: "ما بكِ يا أختي؟"، فنفرت مني، وحسبتني أبتغي السوء بها، ونظرت
إليّ فلما رأت أنني كهلٌ وأنه لا يبدو عليّ ما تخشاه، نفضت لي صدرها وشرحت لي
أمرها، فإذا قصتها أنها من "حلب"، وأن زوجها يعمل موظفاً في
"دمشق"، وأنه طردها من بيته، وهي لا تعرف أين تذهب، وما لها إلا خالٌ لا
تستطيع الوصول إلى مكانه. فقلتُ لها: "أنا أُوصلكِ إلى بيت خالكِ، واذهبي من
الغد إلى المحكمة فارفعي شكواكِ إلى القاضي"، فازداد بكاؤها وقالت:
"وكيف لي بالوصول إلى القاضي وأنا امرأةٌ مسكينةٌ، والقاضي لا يستقبل مثلي
ولا يستمع إليه؟"، وكنتُ أنا يومئذٍ قاضي دمشق؛ فقلتُ لها: "لقد استجاب
الله دعاءك يا امرأة؛ لأنك مظلومةٌ ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجابٌ، وأنا
القاضي، وقد استخرجني الله من بين أهلي وجاء بي إليكِ لأقضي إن شاء الله حاجتكِ،
وهذه بطاقتي تذهبين بها غداً إلى المحكمة فتلقينني".
أحبتي في
الله.. تُذكرني هذه القصة بقصةٍ أخرى كان قد رواها نفس الداعية -رحمه الله- وهي
تُبين وتوضح مدى (لُطف الله) بعباده، قال شيخنا:
حدثني سفير
الأفغان سابقاً في "مصر"، أنه كُلف مرةً بمهمةٍ سياسيةٍ عاجلةٍ في
"روسيا"، وخاف أن يمر ببلدٍ لا تؤكل ذبيحة أهله شرعاً، وكانت عنده في
البيت دجاجتان فأمر بذبحهما، وأعدتهما زوجته لتكونا زاداً له في سفره، فحملهما
معه. ولما وصل إلى "طشقند" دعاه شيخٌ مُسلمٌ إلى الغداء بمنزله، فكَرِهَ
أن يأخذ الدجاجتين معه إلى دار الشيخ، ورأى في طريقه امرأةً تبدو -من لبسها- أنها
مُسلمةٌ فقيرةٌ، معها أولادها، ورأى الجوع بادياً عليهم وعليها، فدفع إليها
الدجاجتين. لم تمضِ ساعةٌ حتى جاءته برقيةٌ "أن ارجع فقد صُرف النظر عن المهمة".
فكانت هذه الرحلة لأمرٍ واحدٍ، هو أن الدجاجتين اللتين كانتا في داره، لم تكونا له
ولا لأهله، إنما كانتا لهذه المرأة وأولادها، فطبختهما زوجته وحملها هو بنفسه
أربعة آلاف كيلومتر ليوصلهما إليها!".
إنه (لُطف
الله)؛ فمن أسماء الله الحسنى ومن صفاته سُبحانه وتعالى أنه "اللطيف"،
وهو وصفٌ يُفيد أنه المحسن إلى عباده في خفاءٍ وسترٍ مِن حيث لا يعلمون، ويُسبب
لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون، وهذا من لُطفه سُبحانه بعباده. وقد تكرر
ذِكر هذا الاسم في القرآن الكريم سبع مراتٍ؛ خمسٌ منها متبوعةٌ باسم
"الخبير"؛ ليركن العباد إلى الله تعالى، ويطمئنوا للُطفه سُبحانه مهما
عظمت الكروب والشدائد، وازدادت الأخطار والمخاوف؛ ذلك أن علم المؤمن بلُطف الله
تعالى به يُعينه على ذلك كله.
وكما أن من
أسماء وصفات الله سُبحانه وتعالى أنه "الخبير" الذي يختص بأن يعلم ما
يكون قبل أن يكون، فإنه هو "العليم" ومعناه تعميم عِلمه سُبحانه بجميع
المعلومات، وأنه "الحكيم" يختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، وأنه هو
"الشهيد" يختص بأن يعلم الغائب والحاضر؛ فلا يغيب عنه شيءٌ، وهو أيضاً
"الحافظ" فهو لا ينسى، وهو "المحصي" لا تشغله كثرة مخلوقاته
عن العِلم؛ مثل أن حركة الشمس ودوران الأرض واشتداد الريح وتسخير السحاب وهطول
الأمطار وسريان المياه في المحيطات والبحار والأنهار -وغير ذلك كثيرٌ- لا تشغله
جلَّ وعلا عن العِلم بأدق الأمور في البِر والبحر كسقوط أوراق الشجر، وأماكن الحَب
في ظلُمات الأرض؛ يقول تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا
إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ
وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.
وعن (لُطف
الله) يقول تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾،
يقول المفسرون في معنى هذه الآية: إن الله سُبحانه وتعالى استدل بدليلٍ عقليٍ على
عِلمه؛ فقال: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا
يعلمه؟! ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر
والضمائر، والخبايا والغيوب، وهو الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾. ومن معاني
اسم "اللطيف"، أنه الذي يلطف بعباده، فيسوق إليهم البِر والإحسان من حيث
لا يشعرون، ويعصمهم من الشر من حيث لا يحتسبون، ويُرقيهم إلى أعلى المراتب بأسبابٍ
لا تكون منهم على بالٍ، حتى إنه يُذيقهم المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة،
والمقامات النبيلة.
يقول أهل
العلم إن لطفه سُبحانه يدور على معنيين عظيمين يحتاجهما المؤمن، وهما: أن علمه
سبحانه دقَّ ولَطُف حتى أدرك السرائر والضمائر والخفايا، والمعنى الثاني: أنه
يُوَصِّل لعباده المؤمنين مصالحهم، ويدفع عنهم ما أهمهم من أخطارهم بطُرقٍ لا
يشعرون بها ولا يتوقعونها. وكم في هذين المعنيين من طُمأنينةٍ لقلوب المؤمنين،
وربطٍ عليها، وتثبيتٍ لها.
وفي المعنى
الأول آياتٌ عدةٌ تدل على دقة علم الله؛ يقول تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ:
﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
. أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.
وأما المعنى
الثاني للُطفه سُبحانه، وهو إيصال المصالح لعباده بحيث لا يشعرون ولا يتوقعون؛
فيتجلى في رزق العباد، فهو سُبحانه خلقهم ويرزقهم، ورزقه لعباده بما يحتسبون وما
لا يحتسبون، وبما يظنون وما لا يظنون، وما لا يحتسبونه ولا يظنونه من رزق الله
تعالى هو من لُطفه سبحانه، قَدَّره لهم من حيث لا يشعرون؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ
لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾.
كما أن
(لُطف الله) تعالى عامٌ وخاصٌ؛ فالعام يشمل كل خَلْقه مؤمنهم وكافرهم، بَرهم
وفاجرهم؛ فهو سُبحانه خَلَقهم ويرزقهم ويشفيهم ويُعافيهم، ويدفع عنهم؛ لأنه
سُبحانه ربهم فهو لطيفٌ بهم. ولطفٌ خاصٌ بأهل الإيمان يُحيطهم به، ولا يُقدِّر لهم
إلا ما هو خيرٌ لهم ولو كرهوه؛ لأنه عليمٌ بما يُصلحهم، خبيرٌ بما ينفعهم، فإذا
أصابهم بما يُحبون لَطُف بهم فرزقهم الشكر عليه ليتضاعف أجرهم، ويُبارك لهم فيما
رزقهم، وإن أصابهم بما يكرهون لَطُف بهم فأنزل عليهم الصبر والرضا ليُوَفَوْا
أجرهم بغير حسابٍ؛ فهو القائل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وعن (لُطف
الله) يقول الشاعر:
وكَمْ
للهِ من لُطْفٍ خَفيِّ
يَدِقُ
خَفَاهُ عَنْ فَهُمِ الذكيِّ
وَكَمْ
يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسَرٍ
فَفَرَّجَ
كُرْبَةَ القَلْبِ الشَّجِيِّ
وكَمْ
أمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً
وَتَأْتِيْكَ
المَسَرَّةُ بالعَشِيِّ
إذا
ضاقَتْ بِكَ الأحْوالُ يَوْماً
فَثِقْ
بِالواحِدِ الفَرْدِ العَليِّ
أحبتي.. إنّ
ألطاف الله تعالى هي ما يبعث في قلوبنا الشعور بالأمان، ويُقوي فينا الثقة
بالمستقبل؛ فجميع الأقدار تمضي بألطاف الله وعِلمه المطلق وقُدرته الواسعة. إن
(لُطف الله) تعالى يُحيط بنا في كل شئوننا، ويُسعفنا في كل المخاطر، ويؤمنّا من كل
المخاوف، ولولا هذا اللُطف لامتلأت قلوبنا وحشةً وخوفاً ورُعباً.
اللهم لكَ
الحمد على نعمة اللُطف بنا، ولكَ الحمد على كلّ ما أنعمتَ به علينا، ونسألك أن
تزيدنا من بركات ألطافكِ، نحيا بها وننجو بها، ونسألك اللهم أن تُعيننا لنكون
لُطفاء مع أنفسنا ومع غيرنا، وأن تهدينا إلى أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا
أنت.