الجمعة، 16 سبتمبر 2022

رجال صدقوا

                                                      خاطرة الجمعة /361


الجمعة 16 سبتمبر 2022م

(رجال صدقوا)

 

يقول الداعية الكويتي الدكتور/ عبد الرحمن السميط، رحمه الله: كنتُ أقف ذات يومٍ فسمعتُ بكاء سيدةٍ إفريقيةٍ ونحيبها وتوسلاتها لأحد الأطباء القائمين على مساعدة الأطفال الصغار وعلاجهم في بعثتنا في إفريقيا؛ وللحق تأثرتُ لشدة إصرارها وتمسكها بتحقيق مطلبها، فتحدثتُ مع الطبيب، فقال لي: "إن ابنها الرضيع في حُكم الميت ولن يعيش، وهي تُريدني أن أضمه إلى الأطفال الذين سنرعاهم، والمال الذي سننفقه على طفلها لا فائدة منه؛ إنه طفلٌ لن يعيش إلا أياماً معدوداتٍ، والمال أولى به غيره"، قال السميط: "نظرتْ إليّ الأمُ بنظرات توسلٍ واستعطافٍ -والطبيب يحكي لي؛ فقلتُ للمترجم: اسألها كم تحتاج من المال كل يومٍ؟"، فأخبرته بالمبلغ، ووجدتُه قليلاً جداً، يُساوي ثمن مشروبٍ غازيٍ في بلدي!! فقلتُ: "لا مشكلة؛ سأدفعه من مالي الخاص"، وطمأنتها فأرادت المرأة تقبيل يدي، فمنعتها وقلتُ لها: "خذي هذه نفقة عامٍ كاملٍ لابنك، وعندما تنفد النقود -أشرتُ إلى أحد مُساعديَّ - سيعطيك ما تحتاجينه"، ووقعتُ لها صكاً لتصرف به المبلغ المتفق عليه. وللحق أنا اعتبرته فعلاً طفلاً ميتاً، وما فعلته كان فقط لكي أُهدئ الأم المسكينة، وأجبر خاطرها، لاسيما أنها حديثة عهدٍ بالإسلام.

تمر الشهور والسنوات، وقد نسيتُ الموضوع برمته، وبعد أكثر من اثني عشرة عاماً كنتُ في المركز، وحضر لي أحد الموظفين، وقال لي: "هناك سيدةٌ إفريقيةٌ تُصر على لقائك، وقد أتت عدة مراتٍ"، فقلتُ له: "أحضرها"، فدخلت سيدةٌ لا أعرفها، ومعها طفلٌ هادئٌ جميلُ الوجهِ وقالت لي: "هذا ابني عبد الرحمن، وقد أتم حفظ القرآن، والكثير من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتمنى أن يُصبح داعيةً للإسلام معكم"، تعجبتُ وسألتها: "ولماذا تُصرين على هذا الطلب مني؟!!"، رد عليّ طفلها، فوجدته يتحدث اللغة العربية بهدوء، وقال لي: "لولا الإسلام ورحمته ما كنتُ أعيش وأقف بين يديك الآن، فقد حكت لي أمي قصتك معها، وإنفاقك عليّ طوال مُدة طفولتي، وأريد أن أكون تحت رعايتك، وأنا أجيد اللغة الإفريقية وأعرفها تماماً، وأحب أن أعمل معكم كداعيةٍ للإسلام، ولا أحتاج سوى الطعام فقط، وأحب أن أُسمعك تلاوتي للقرآن"، وأخذ يتلو آياتٍ من سورة البقرة بصوتٍ شجيٍ، وعيناه الجميلتان تنظران لي متوسلةً أن أوافق، وهنا تذكرتُ وسألتُ الأم: "هل هذا هو ذلك الطفل الذي رفضوا ضمه إلى الرعاية؟"، فقالت: "نعم نعم!"، وعقَّب هو: "لذلك سمتني أُمي باسمك عبد الرحمن، وأصرت أن تُقدمني إليك".

يقول د. السميط: "لم تحملاني قدماي، خررتُ على الأرض وأنا شبه مشلولٍ من هول الفرحة والمفاجأة، وسجدتُ لله شكراً وأنا أبكي وأقول: ثمن مشروبٍ غازيٍ يُحيي نفساً، ويرزقنا بداعيةٍ نحتاجه!". أصبح هذا الطفل من أكثر دعاة إفريقيا وبين قبائلها شهرةً وقُبولاً لدى الناس.

 

أحبتي في الله.. الدكتور/ عبد الرحمن السميط -رحمه الله- كان واحداً من (رجال صدقوا) الله فأعانهم، كان طبيباً، أسس جمعية العون المباشر وترأس مجلس إدارتها، قضى مُعظم عُمره ينشر الإسلام في القارة السمراء، وأسلم على يديه أكثر من أحد عشر مليون شخصٍ في إفريقيا. كتبتُ عن إنجازاته خاطرة الجمعة رقم 5، ونشرتها على فيس بوك بتاريخ الجمعة 6 نوفمبر 2015م، تحت عنوان: "رجلٌ بأمةٍ"، وهذا هو رابطها: https://goo.gl/xmE7qe

 

أما خاطرة اليوم فأخصصها لعرض بعض مواقف حدثت له، هو وزوجته، وهما يعملان معاً لنشر الإسلام في قارة أفريقيا؛ ومن ذلك:

-يقول الدكتور السميط كانت البداية عام1980م حينما ذهبتُ مع اثنين من الإخوة إلى ملاوي وجلسنا هناك مدةً. كُنا نعرف أنّ هناك فقراً وجهلاً وأمراضاً في ملاوي، وفي إفريقيا بصفةٍ عامة، لكن لم نكن نتصور أن يكون الفقر والجهل والمرض منتشراً بهذه الدرجة! ما رأيناه بأعيننا كان صفعةً لنا أيقظتنا؛ فبدأتْ رحلتنا التي استمرت لأكثر من رُبع قرنٍ، وشملت إلى جانب ملاوي كلاً من موزامبيق وكينيا ومدغشقر وزيمبابوي وجيبوتي والسودان والصومال وإثيوبيا وغيرها من بلاد إفريقيا المملوءة بالمجاعات والأمراض.

-ويقول: إنه كان هو وزوجته أم صهيب جالسين في ليلةٍ خارج أحد الأكواخ بإحدى قُرى أفريقيا، سألته زوجته: "هل إذا -بإذن الله ورحمته- دخلنا الجنة هل سنكون سُعداء مثل هذه السعادة؟"؛ لأننا كنا نخرج إلى القُرى ونُكلم الناس عن الإسلام، وكانت أسعد اللحظات إذا جاء رجلٌ أو امرأةٌ وأخذوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

-ويقول: في إحدى زياراتنا لأفريقيا نزلنا في فندقٍ حُكوميٍ، وكان نظيفاً نسبياً، غير أنه من الناحية الأخلاقية غير نظيفٍ تماماً، وأصرّت زوجتي علي ألا نقيم لحظةً في هذا الفندق، ولأننا كنا مُتعبين من جراء السفر؛ حيث قطعنا طريقاً يمتد لأكثر من 1500 كيلومتر في طرقٍ وعرةٍ وصعبةٍ، قلتُ لها: "البديل هو أن ننام في الغابات"؛ فقالت: "هذا أفضل من فندقٍ من هذا النوع"، وفعلاً ونزولاً على رغبتها تركنا الفندق، وفي طريقنا وجدنا مسجداً قديماً ومُهدماً ومهجوراً، قضينا الليل فيه، وكنا ضيوفاً على البعوض الذي كان موجوداً بكمياتٍ هائلةٍ جداً، وأذكر أننا حينما استيقظنا وجدنا وجه ابننا الرضيع عبد الله متورماً جراء لسعات البعوض، أُصيب على أثرها بالملاريا.

-ويقول: منذ سنواتٍ قادني حبّ الاستطلاع لزيارة قريةٍ نائيةٍ في أفريقيا اسمها "مكة”. ثم بدأتُ بحثاً علمياً مُوسعاً عن قبيلة الأنتيمور ذات الأصول العربية الحجازية، وهي نموذجٌ من العرب والمُسلمين الضائعين في أفريقيا، مثلهم مثل قبيلة الغبراء في شمال كينيا، والبورانا في جنوب إثيوبيا، وبعض السكلافا في غرب مدغشقر، والفارمبا في جنوب زيمبابوي، وملايين غيرهم قد يشتكون الله علينا أننا لم نفعل شيئاً لإنقاذهم من الضلال والشِرك وأغلبهم ذوو أصولٍ إسلامية؛ فمَن يُنقذنا من الحساب يوم يشكونا الناس في إفريقيا بأننا لم نسعَ إلى هدايتهم؟

-ويقول: أثناء المجاعة التي صارت عام1983م رأيتُ في إحدى قُرى إثيوبيا عائلةً جاءت تطلب معونةً من مُنظمةٍ مسيحيةٍ من شمال أميركا، وكان الشخص الذي يوزع المعونات شاباً أميركياً مُتحمساً، عرف أن هذه أسرة إمام المسجد فقال له: "غيِّر دينك وأُعطيك طعاماً"، رفض الإمام، فقال له: "فما رأيك لو أنك قلتَ أمام الناس -بالكذب فقط- إنك تخليتَ عن الإسلام وقبلتَ المسيحية؟"، رفض الإمام؛ فقال له الشاب: "إذاً أنا آسف، لن أُعطيك أي طعام". علماً بأن هذا الطعام كانت توزعه مُنظمة الغذاء العالمية التي تتبرع لها الحكومات في جميع الدول العربية! بعد ثلاثة أشهرٍ ذهبتُ إلى هذه القرية -وكان أهلها قد هاجروا منها- توجهتُ إلى بيت الإمام وفتحتُ الباب فوجدتُ الهياكل العظمية للإمام وزوجته وأولاده، كانوا قد ماتوا من عدة أشهر!

-ويقول: من الطريف أن أحد القساوسة أتى إلينا يوماً غاضباً يقول إن الكنيسة لاحظت انتشار الإسلام في منطقته، وطلبت منه، الكتابة ضد الإسلام، وتحذير الناس من هذا الدين؛ وطلب منا أن نُمده بكُتيبات عن الإسلام كي يتمكن من مهاجمته! فقلنا له: "أهلاً وسهلاً"، وشرحنا له تعاليم الإسلام، وقدمنا له كُتيبين عن الإسلام، فذهب وعاد بعد يومين ليُشهر إسلامه رغم إنه قسيس!

-ويقول: خلال سنوات عملي في إفريقيا كان أكثر ما يُدخل السرور إلى قلبي، أن أرى شخصاً يرفع السبابة إلى أعلى ويُعلن شهادة التوحيد، وكان أكثر ما يؤثر فيّ إلى حد البكاء حينما أذهب إلى منطقةٍ ويدخل بعض أبنائها في الإسلام ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأُمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، ويسألون: "أين أنتم يا مُسلمين؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟". كانت هذه الكلمات تجعلني أبكي بمرارةٍ، وأشعر بجزءٍ من المسئولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكُفر.

-ويقول: سألتُ يوماً أحد زعماء القرى في مدغشقر لماذا أسلم؟ فقال: "منذ وصولكم لقريتنا لم تتكلموا كثيراً عن دينكم، بل حدثتمونا عن مكارم الأخلاق التي كان يتمتع بها أجدادنا، فشعرتُ أنه لا يُمكن أن تقطعوا كل هذه المسافات وتتعبوا أنفسكم لمجرد الحديث عن أجدادنا، لولا أن ما يؤمن به أجدادنا هو دينكم. إنكم لم تُهاجموا المسيحيين، كما يفعل المسيحيون عندما يزوروننا ويُهاجمون الإسلام، ولم تنتقصوا من الآخرين الذين يخالفونكم، ولم تضغطوا علينا حتى نُسلم، فكيف لا تتوقع بعد هذا أن أُسلم؟".

 

وأختم بهذا الموقف المُشرف لأمير الكويت الأسبق الشيخ/ جابر الأحمد الصبّاح، مع الدكتور/ عبد الرحمن السميط. تبدأ أحداث هذا الموقف حين حدد الديوان الأميري بالكويت ربع ساعةٍ فقط لمقابلة صاحب السمو أمير البلاد للدكتور عبد الرحمن السميط؛ حتى يشرح له دور وأعمال جمعية العون المُباشر في أفريقيا، لكن المقابلة امتدت لنحو ساعةٍ ونصف. سأل الأمير الدكتور السميط عن الدافع وراء كل هذه الجهود والتي كثيراً ما عرضته هو ومن معه للمخاطر؛ فكان جوابه أن لذة القيام بهذه الأمور أكثر بكثيرٍ من التعب وعواقبه، وتكفي روعة الإحساس برؤية الأطفال المُشردين والمرضى والمُعدمين بعد تقديم يد العون لهم، وقد انقلب حالهم، وأصبحوا أطباء ومهندسين ورجال أعمال. فلمساعدة المُحتاجين لذةٌ خاصةٌ لا يشعر بها إلا من يقوم بها، لذلك نتحمل من أجل الحصول على هذه اللذة أية عوائق أو مخاطر. في نهاية اللقاء سأل الأمير الدكتور عن موعد مُغادرته إلى أفريقيا، فأجابه: "بعد أسبوعٍ"، وحين اقترب موعد السفر اتصل موظفٌ بالديوان الأميري وطلب من الدكتور تذاكر السفر الخاصة به، وأخبره أن يحضر إلى المطار مُبكراً لترتيب سفره، وعندما حضر وجد طائرةً ملكيةً بانتظاره، فصعد السُلم واتجه نحو مقاعد الجلوس فوجد ستة أشخاصٍ مُتواجدين بالطائرة، وعندما حاول الجلوس معهم، أخبروه بأن مقعده بالأمام فتقدم ليجد الأمير جابر الأحمد الصباح بانتظاره، يرتدي ثوباً كويتياً عادياً، كذلك لم يكن هناك أي مُرافقٍ من الصحافة والإعلام، وسافر الأمير مع الدكتور عبد الرحمن إلى أفريقيا باسمٍ مُستعارٍ لا يُعرف منه شخصيته الحقيقية. قام الأمير -ولمدة يومٍ كاملٍ دون توقفٍ- بالتجوال مع الدكتور عبد الرحمن السميط من أجل الاطلاع على جميع الأعمال الخيرية بأفريقيا، ثم غادر في المساء عائداً إلى الكويت. قام بعدها بالتبرع لجمعية العون المباشر بمبلغ وقدره 23 مليون دينارٍ كويتيٍ.

 

أحبتي.. أعتذر لكم عن الإطالة، وأعتذر للدكتور السميط عن التقصير، ولا أجد ما أقوله سوى أن الدكتور عبد الرحمن السميط -رحمه الله- وأمثاله (رجال صدقوا) تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. رجالٌ سعوا للوصول إلى رضا الله تعالى، فهل يستطيع أيٌ منا أن يكون مثلهم ويكون سبباً لنُصرة الإسلام؟ سؤالٌ أطرحه، أما الإجابة فستكون عهداً بين كلٍ منا وبين الله سُبحانه وتعالى؛ أن نتقرب إلى الله وننصر دينه بكل ما نستطيع من جُهدٍ، بإخلاصٍ وتفانٍ ودون رياء، ونبذل في سبيل ذلك كل رخيصٍ وغالٍ. وتكون البداية لحظة صدقٍ مع النفس؛ عسى الله أن يُعيننا وينفع بنا غيرنا، ونكون سبباً في نُصرة دين الله. والله ولي التوفيق.

https://bit.ly/3Sb9lU2