الجمعة، 16 فبراير 2024

ذنوب الخلوات

 

خاطرة الجمعة /434

الجمعة 16 فبراير 2024م

(ذنوب الخلوات)

 

طالبٌ مغتربٌ عن وطنه، يدرس في إحدى الدول الغربية، كتب في أحد مواقع التواصل الاجتماعي يعرض مشكلته الشخصية، يقول: صباحٌ مُختلفٌ، صباحُ غربةٍ عن الأهل والوطن، مساءُ أحلامٍ لا نقدر على البوح بها، مساءُ أملٍ بالله سبحانه وتعالى، صباحُ شابٍ يحلم بخدمة دينه وأمته ووطنه ومجتمعه، صباحُ دموعِ فرحٍ بقُرب الفرج من الله -سبحانه وتعالى. مشكلتي لا أعرف كيف أصفها ولكني سأفعل، أرهقتني (ذنوب الخلوات) وأنا الملتزم في الجلوات، بدأت مشكلتي منذ تسعة أشهرٍ -تقريباً- عندما بدأتُ بمتابعة القنوات الفضائية الإباحية، والتي من السهل جداً متابعتها في بلاد الغُربة. البداية كانت -في ذلك اليوم المشؤم- بدايةً سيئةً لطريقٍ غريبٍ، خاصةً بأنني شابٌ مؤثرٌ على من حولي من أقاربي، يعتبرونني قدوةً لهم، يتمنون أن يكون أولادهم مثلي! وأكاد أُقسم بالله، أنهم لا يتوقعون مني فعل هذا الأمر، وأنا الشاب الملتزم، الحافظ لأجزاءٍ من القرآن الكريم، المواظب على الصلاة، لا أعرف ما جرني إلى هذا الطريق؟!

بعد ثمانية أشهرٍ من ذلك اليوم المشئوم بدأ اهتمامي يزداد بمشاهدة الأفلام الإباحية، ليس فقط من خلال القنوات الفضائية بل واتجهتُ إلى مشاهدة تلك الأفلام من خلال مواقع الإنترنت باستخدام حاسوبي، وتطور الأمر إلى تنزيل بعض المقاطع على هاتفي المحمول، ولكم أن تتخيلوا ما كان يُصاحب ذلك من ممارسة عادةٍ رذيلةٍ لا أريد حتى أن أذكر اسمها. أنا الذي أنصح غيري بالتقوى والعفة والنقاء أجد نفسي -وأنا في خلوتي بعيداً عن الناس- أسيراً لشهواتي؛ مُدمناً على مشاهدة المواقع الإباحية وممارسة تلك العادة! كيف وصل بي الحال إلى أن أعصي الله سبحانه وتعالى في السر؟ كيف وأنا المُعتمد عليه في كل أموري، والملتزم في العلن؟!

أحلامي كبيرةٌ، وأملي بالله ورجائي في رحمته وفضله؛ فقد نويتُ التوبة، وعندما أقرأ الآية الكريمة: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ يتقطع قلبي، وأُحس أن طريقي طويلٌ وصعبٌ، ومع ذلك فإني واثقٌ أن الله سيكون معي، لقد قررتُ الآن -ومن هذه اللحظة-، الرجوع إلى ما كنتُ عليه، الرجوع إلى شخصي القديم، النظيف النقي التقي المتفائل، المعتمد على الله سبحانه وتعالى، القوي به؛ سأبدأ مشروعاً كبيراً، سأترك هذه العادة السيئة المحرمة، وأرجع لأكون أفضل بكثيرٍ، أبتعد عن الاستجابة للشهوة وهوى النفس، وسأعمل كل شيءٍ يُخلصني من تلك العادة. أُعلنها -من الآن- توبةً كاملةً، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني، خاصةً وأنا في غُربتي وعائلتي -خاصةً أمي- بانتظاري. صحيحٌ أني ضعيفٌ وفقيرٌ، ولكني قويٌ وغنيٌ بالله سبحانه وتعالى؛ فيا ربِ لا تحرمني أجمل ما عندك بسوء ما عندي.

 

أحبتي في الله.. يقول أحد الشباب وقد ابتُلي بالنظر للحرام وارتكاب (ذنوب الخلوات): سمعتُ خشخشةً في الباب، فبلغ قلبي حُنجرتي، وانقطع نفَسي، فأغلقتُ جهازي، وفتحتُ الباب؛ فوجدتها هِرَّة! ألم يعلم هذا المسكين أن الله ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، وأن ليس بين الرجلِ وبين خِزيٍ تلك الذنوب إلا جدار مراقبة الله والتي هي أعظم واعظٍ وأكبر زاجرٍ؛ فمن هدم الجدار فقد تجرَّأ على الله، وما أقبح هذه الجرأة.

 

عن (ذنوب الخلوات) يقول تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾.

وقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا] قَالَ صحابيٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: [أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا].

 

ويقول أهل العلم إن (ذنوب الخلوات) هي تلك الذنوب التي يتعمدها المرء تعمداً فيتجرأ على محارم الله أينما كان، ويجعل الله عزَّ وجلَّ أهون الناظرين إليه. إن داء انتهاك محارم الله في مكانٍ لا يعرفك ولا يراك فيه إلا الله داءٌ خطيرٌ، بنظرةٍ تنظر إليها، بشاشةٍ تُقلِّبها، ومشافهاتٍ إلكترونيةٍ تختبئ معها خلف أسماءٍ مُستعارةٍ فتتجرأ على المُحرمات، وتنتهك الخصوصيات، وتعتدي على محارم الآخرين وأعراضهم، وربما تسافر إلى بلدٍ بعيدٍ، إلى مكانٍ لا يعرفك فيه أحدٌ ولا يعرفك إلا الله؛ فتتجرأ على محارم الله وكأن الله لا ينظر إليك، وكأنك لم تقرأ الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ كأنك نسيتها أو تناسيتها، ويستولي عليك الشيطان، ولو كنتَ بين الناس ومعهم لاستحييتَ منهم، والله أحق أن يُستحيا منه، راقبتَ أهل الأرض أكثر مما راقبتَ مَن في السماوات، واستخفيتَ من الناس ولم تستخفِ من الله، وخشيتَ الناس كخشية الله بل أشد خشيةً؛ اجترأتَ على ربك جرأةً ما تجرَّأتَ مثلها على بشر! خُذ حذرك من (ذنوب الخلوات) وخاصةً مع الجوالات والكمبيوتر والتلفاز عند غياب الأهل والناس، وعليك بعبادة السر فإنها تقي النفس من نوازع الشهوات، وإذا أردتَ الثبات حتى الممات فعليك بمراقبة الله سبحانه وتعالى، وضبط النفس في الخلوات.

 

قيل عن (ذنوب الخلوات): "مَنْ خانَ اللهَ في السرِّ هَتَكَ اللهُ سِرَّه في العَلانِيَةِ". و"السَّيِّئاتُ في الخَلَواتِ تَنْسِفُ الحَسَناتِ الظاهِراتِ". و"ما أسَرَّ عَبْدٌ سَريرَةً إلا أظْهَرَها اللهُ على قَسَماتِ وَجْهِهِ وفَلَتاتِ لِسانِه". و"ذُنوب الخَلَواتِ هي أصْلُ الانتكاساتِ". و"إن (ذنوب الخلوات) من أعظم المُهلكات وهي محرقةٌ للحسنات". و"لا تكن ولياً لله في الظاهر، عدواً لله في الباطن". وفي هذا المعنى قيل في وصف مُرتكب هذا الإثم: "أمام الناس قديس، وفي خلوته صاحبٌ لإبليس".

 

وقال الشاعر:

إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُل

خَلَوتُ، وَلكن قُل عَليّ رَقيبُ

وَلا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُل ساعةً

وَلا أنَّ مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيبُ

 

قدّم أهل العلم هذه النصائح لمن يُريد أن يتخلص من (ذنوب الخلوات): لا تخلو بنفسك فترةً طويلةً؛ حتى لا يبدأ الشيطان في الوسوسة لك ويقودك إلى طريق الخطأ. اشغل وقتك دائماً بما يُفيد. توجه بالدعاء لله عزَّ وجلَّ بأن يُصلح لك نفسك. اجتهد أن تكون عبداً مُطيعاً لله وأن تتبع سُنة النبي عليه الصلاة والسلام. تذكَّر ستر الله عليك؛ فهو بمثابة فرصةٍ جديدةٍ من أجل أن تتدارك أخطاءك. تذكَّر وقوفك بين يدي الله تعالى يوم القيامة. صاحِب من يُعينك على الصلاح والاستقامة. اجعل خلواتك لعبادة الله تعالى فقط؛ فقد مدح الله عباده الذين يخشونه، خاصةً إذا غابوا عن أعين الناس؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾؛ فإذا أُغلقت دونك الأبواب، وأُسدلت على نوافذك الأستار، وغابت عنك أعين البشر، فتذكر مَنْ ﴿لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾، والذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾. وفي خلوتك لا يغرنك صمتُ أعضائك، فإن لها يوماً تتكلم فيه؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

فالله الله بإصلاح الخلوات، والصدق مع رب البريات، لتجد بذلك اللذة في المناجاة وإجابة الدعوات. راقِب الله تعالى في كل أحوالك، واعلم أنه معك بعلمه مطلعٌ عليك في كل شؤونك، فاستحِ من الله حق الحياء، واحذر سطوته ولا تُغضبه سبحانه بارتكاب ما حرّم عليك، سارِع بالتوبة والاستغفار تجد الله ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾.

 

أحبتي.. من وقع في (ذنوب الخلوات) فليتُب إلى الله؛ فهو قابل التائبين، والعافي عن المذنبين. ولنُكثر من قراءة القرآن، ونُصاحب الصالحين، وندعو الله جلَّ وعلا أن يجعلنا من المُتقين، ونداوم على ذِكر الله، فمن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، عرفه وقت ما تتزين له المعصية فيلهمه القول: ﴿إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، فيتوقف عن المعصية ويقول: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾. وكما أن (ذنوب الخلوات) هي أصل الانتكاسات؛ فإنَّ عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات؛ فلنجعل بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ خبيئةً لا يعلمها إلّا هو، لا يطَّلع عليها أحدٌ، ولا نتكلم عنها ولا نُحدِّث بها ونجعلها خالصةً للهِ؛ فلا تكتمل التَّقوى إلا بصلاحِ السريرة، والتقوى في السرِّ أصعب، لكنَّ أجرها أعظمُ.

اللهم عظِّم قدرك في قلوبنا، واجعل مراقبتك نُصب أعيننا، واجعلنا من الصالحين المُصلحين، ومن الهادين المهديين، وثبِّت أقدامنا، واجعل سرائرنا أفضل من ظواهرنا. اللهم إنا نسألك أن تُقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك في السر والعلن.

 

https://bit.ly/48jDA2L