الجمعة، 9 أبريل 2021

ابتغاء وجه الله

 

 

خاطرة الجمعة /286


الجمعة 9 إبريل 2021م

(ابتغاء وجه الله)

 

قصةٌ حقيقيةٌ يرويها شيخٌ كبيرٌ من قبيلة مطير ب«المملكة العربية السعودية»؛ يقول:

كنا في حدود عام 1370هـ رعاة إبلٍ نجوب الصحراء، وصادف ذات يومٍ أن قاربت مؤنتنا على النفاد، ونحن آنئذٍ بالقرب من مدينة «عنيزة». ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏كنا مجموعة رعاةٍ ولم يكن مع أحدٍ منا ريالٌ واحدٌ، وأيضاً – لسوء الحظ – لم يكن معنا ما نقايض به؛ كأن نشتري تمراً أو إقطاً بسمن. اتفق الجميع على أن أنزل وحدي إلى «عنيزة»، وأن أتلمس واحداً من تجارها يُقرضنا إلى حين ميسرة. نزلتُ إلى سوق «عنيزة»، وبدأتُ أتفرس وجوه الرجال أصحاب الدكاكين، بحثاً عن تاجرٍ أتوسم فيه المروءة في ذلك الزمن الشحيح! هفت نفسي إلى رجلٍ منهم، توسمتُ فيه الخير والمروءة، فسلّمتُ عليه، ثم قصصتُ عليه خبري وخبر جماعتي. قال التاجر: "لو كنتَ وحدك لأعطيتك ما يكفيك، ولكنكم جماعةٌ تحتاجون إلى ما لا يقل عن 40 ريالاً، وهذا يضر بتجارتي، فضلًا عن أني لا أعرفك". احترتُ فيما أقول له؛ فحجته قويةٌ، ولا يُرضيني أن أضُّر بِه، وأنا بدويٌ تقذفني الصحراء من فجٍ إلى فجٍ، ولا أدري متى سأعود إليه، عندئذٍ ألهمني الله أن أتذكر محزم الرصاص الذي كنتُ ألبسه؛ فقلتُ: "خُذ هذا المحزم، فيه 10 أمشطة، تساوي 40 ريالًا، هي لك، بعها إن لم أعد بعد شهرٍ إليك". ارتاحت نفس التاجر؛ فقال: "اتفقنا، خذ بقيمة 40 ريالاً ما شئتَ من التمر، وموعدنا بعد شهرٍ: إن عدتَ، وإلا بعتُ هذا المحزم، واستوفيتُ ثمني منه". أخذتُ التمر، وعدتُ إلى رفاقي، ثم -كما هي العادة– دفعتنا الصحراء إلى بطنها؛ فمضى الأجل الذي بيني وبين التاجر، وقلتُ في نفسي: "الرجل أخذ حقه، فلتطب نفسي".

تقلّبت بي الحياة ظهراً لبطن، فتركتُ البداوة، وعملتُ سائقاً في «أرامكو»، ثم صرتُ سائقاً يقوم بتوصيل السيارات الجديدة من الميناء إلى وكالاتها. بعد قرابة 20 سنةً ذهبتُ بحملة سياراتٍ من الميناء إلى «القصيم» لإيصال السيارات إلى وكالة «المشيقح»، كانت السيارات في ذلك الزمن تحتاج إلى التبريد؛ وهو أن تُوقف السيارة فترةً مع رفع غطاء ماكينتها حتى تبرد. توقفنا في أطراف «عنيزة» لتبريد سياراتنا، ونزلتُ أتريض في بعض بساتينها، لقد تغيّرت «عنيزة»، ولك أن تتخيل ماذا فعلت الطفرة بالمدن السعودية. فيما أنا في تلك المزرعة إذ بصاحبها يقترب مني ويُسلم عليّ، فسلمتُ عليه، وأخبرته أننا مجموعةٌ من السائقين نبرّد سياراتنا، وأني دخلتُ أتريض هنا، فقال صاحب المزرعة: "قل لأصحابك ألا يطبخوا شيئاً للغداء، وأخبرهم بأنّ غداءهم عندي هنا في المزرعة". اعتذرتُ قليلاً فألحّ كثيراً. وفيما أنا أتريض معه في المزرعة تذكرتُ قصة محزم الرصاص وذلك التاجر، فقلتُ لصاحب المزرعة: "يا عم؛ لم أزر «عنيزة» منذ 20 سنةً، ولي فيها قصةٌ" ورويتُ له قصتي مع التاجر، سألني الشيخ صاحب المزرعة: "هل تذكر شكل التاجر"؟، قلتُ: "لا"، فقال: "هل تذكر أمارةً فارقةً تُذكرك به"؟، فقلتُ: "بجوار دكانه نخلة"، فقال الشيخ: "وصلتَ، أنا هو ذلك التاجر، وأتى الله بك، فقد كنتُ أنتظرك، وكتبتُ أمرك في وصيتي؛ ذاك أني بعتُ محزم الرصاص بـ 50 ريالاً، وهذا هو ثمنه الحقيقي، فأدخلتُ العشرة ريالات لك في تجارتي، وقد نما لك منها شيء"، ثم سحبني من يدي‏، وأخذني إلى فضاءٍ واسعٍ في المزرعة مليءٍ بالأغنام وقال: "هذه الأغنام كلها لك يا بني، من عشرة ريالاتٍ قبل 20 سنة". اعترتني دهشةٌ من أمانته، فقلتُ: "لا آخذ شيئاً"، فقال: "واللهِ لا أتركك"، فقلتُ: "النصيفة بيننا لترضى"، فقال: "كما تريد، فقد أزاح مجيئك عني هماً طويلاً".

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أحبتي في الله .. العجب من الاثنين؛ من التاجر لأمانته، ومن صاحب المحزم لسخائه. أما التاجر فقد اتقى الله سبحانه وتعالى، واحتفظ لرجلٍ -لا يعرفه- بحقه، بل ونمَّى له هذا الحق على مدار عشرين عاماً، وقاوم ما يُزينه له الشيطان بوساوسه ونزغه، ولم يكتفِ بذلك؛ بل وإبراءً لذمته كتب هذا الحق وما صار إليه بعد نمائه في وصيته التي تركها لأبنائه! لم يقصد من ذلك إلا (ابتغاء وجه الله)، وجاهد نفسه، وتغلب على شيطانه، أبدله الله خيراً؛ بما أهداه إياه البدوي صاحب المال عن سلامة صدرٍ ورضا نفسٍ وطيب خاطر، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ].

يقول أهل العلم إن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاث جُمَل؛ الأولى قوله: [لَنْ تَدَعَ شَيْئًا]، وهذا لفظٌ عامٌ يشمل كل شيءٍ يتركه الإنسان ابتغاءَ وجه الله تعالى. الثانية: قوله: [للهِ -عزَّ وجلَّ-]، هذه الجملة بَيَّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن التَرك لابد أن يكون ابتغاءَ مرضاة الله، لا خوفاً من سُلْطانٍ، أو حَيَاءً من إنسانٍ، أو عدم القدرة على التمكن منه، أو غير ذلك. الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: [أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]، وهذه الجملة فيها بيانٌ للجزاء الذي يناله من قام بذلك الشرط، وهو تعويض الله للتارك خيراً بأفضل مما ترك. والعوض من الله قد يكون من جنس المتروك، أو من غير جنسه، ومنه الأنس بالله عزَّ وجلَّ ومحبته وطُمأنينة القلب وانشراح الصدر. ولا يكون الجزاء في الدنيا فقط بل وفي الآخرة أيضاً؛ قال صلى الله عليه وسلم، فيما يَرْوِيه عن ربه: [يقول الله: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أنْ يَعْمَلَ سَيئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوا لَهُ حَسَنَة، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سُبْعُمَائَة].

 

يقول العلماء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما هاجروا تركوا ديارهم وأموالهم (ابتغاء وجه الله) تعالى، فعوَّضهم الله بأن جعلهم قادة الدنيا، وحُكَّام الأرض وفتح عليهم خزائن كِسْرَى وقيصر، مع ما يُرجى لهم من نعيم الآخرة. ومن الصحابة من نزل فيه قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

ونبي الله سليمان عليه السلام، من حبه للجهاد في سبيل الله، كانت عنده خيلٌ كثيرةٌ، وكان يحبها حباً شديداً، فاشتغل بها يوماً حتى فاتته صلاة العصر، فغربت الشمس قبل أن يُصلي، فأمر بها فرُدَّتْ عليه، فضرب أعناقها وعراقبيها بالسيوف؛ إيثاراً لمحبة الله عزَّ وجلَّ، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم، فعَوَّضه الله خيراً منها الريح التي تجري بأمره رخاءً حيث أصاب؛ يقول تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾.

ونبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، عُرِضَتْ عليه المغريات في أتم صورها، فاستعصم؛ فعصمه الله، وترك ذلك (ابتغاء وجه الله) عزَّ وجلَّ وفضَّل السجن على ما يدعونه إليه، وصبر واختار ما عند الله فعوضه الله تعالى أحسن العوض؛ يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

المؤكد إذن أن من ترك شيئاً (ابتغاء وجه الله) عزَّ وجلَّ أثابه الله، إلا أن الثواب قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، وثواب الآخرة مهما قَلَّ، أعظم من الدنيا وما فيها؛ قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ: دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا] ومعنى قوله: [حُلَلِ الإِيمَانِ]: يَعْنِى مَا يُعْطَى أَهْلُ الإِيمَانِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ. وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ].

 

يقول العالمون إن الله عزّ وجلّ خلق الخلق، وفطر عباده من البشر على الطاعة، ولكنّ حكمته البالغة شاءت أن يبتلي ثبات عباده، ويختبرهم في طريق الاستقامة، فوضع لهم الهوى، ونزوح النفس الأمّارة بالسوء للمعصية؛ فتدعو صاحبها إلى الانحراف عن الدين، ووسوسة الشياطين التي تُزيّن للإنسان المعصية وتجمّلها في قلبه؛ فيرتكبها. ويبتليه بمُغرَيات الدنيا وملذّاتها التي تُعظِّم زينة الدنيا في قلب الإنسان، ومن هنا كان العبد في طريق الثبات على الطريق المستقيم أمام أعداء كُثرٍ، ويحتاج في هذا الطريق إلى إيمانٍ عميقٍ بأنّ ما يتركه من عملٍ أو قولٍ (ابتغاء وجه الله) تعالى، يُبدله الله خيراً منه، ويُعوّضه بما يُفرح قلبه.

وإن أهل التقوى والبصيرة لا يأبهون بالعوِض الذي ينالونه في الدنيا، وإنما كل همّهم ومنتهى آمالهم أن ينالوا العوض في الآخرة، بل إنهم إذا أدركوا من ذلك شيئاً في الدنيا، فإنهم يداخلهم الخوف والوجل، يخشون أن يكونوا ممن عُجلت لهم طيباتهم في الدنيا. فما دام العبد قد ترك شيئاً مما نهاه الله عنه، لا يتركه إلا لوجه الله عزَّ وجلَّ فالعوض له محققٌ، وهذا وعدٌ من الله، ولن يُخلف الله وعده. حتى أن أحد الصالحين قال:

"لا يقدر رجلٌ على حرامٍ ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله عزَّ وجلَّ، إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة"، وقيل: "لو اتقى اللهَ السارقُ، وترك سرقة المال المعصوم، لم يفعل ذلك إلا لوجه الله؛ لآتاه الله مثله، بل وخيراً منه، حلالاً؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾".

 

أحبتي .. فلينظر كلٌ منا إلى حاله، ماذا يمكن أن يترك من المعاصي (ابتغاء وجه الله)، وليجعل ذلك خبيئةً بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فيثيبه الله في الدارين: الدنيا والآخرة.

يقول واعظٌ: "طهر قلبك من الحسد والغل والحقد والكراهية والبغض وقطيعة الرحم. اترك الكبر والتعالي وغمط الناس حقوقهم. اترك النظر إلى الصور والمقاطع والشاشات المحرمة. اترك السجائر والمخدرات والمسكرات. تُب عن الغيبة والنميمة والكذب. غُض بصرك واتقِ الله في الخلوات. افعل ما استطعت من ذلك، واترك ما استطعت من الخطايا، رجاء ما عند الله تعالى من الأجر والثواب، يوسع صدرك، ويُيسر أمرك، ويزيد رزقك، ويُسعدك في الدنيا والآخرة".

أحبتي .. فلنفر من المعاصي والخطايا كما يفر المرء من عدوٍ يلاحقه، ولنبتعد ونُقلع عنها (ابتغاء وجه الله)، ولنتذكر أنه لا يمنعنا عن تركها والبُعد عنها إلا الكبر أو العند أو تزيين الشيطان.

جعلنا الله ممن يتقونه ويخشونه، ويرجون رضاه ومغفرته، ويطمعون في رحمته ويأملون ثوابه.

 

https://bit.ly/3wH5DaO