الجمعة، 13 أبريل 2018

غرور القوة


الجمعة 13 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٠
(غرور القوة)

كنت أشاهد برنامجاً حوارياً على إحدى القنوات الفضائية، استضاف مقدم البرنامج ضيفين اثنين من نفس الجنسية، كانا يناقشان قضيةً خاصةً ببلدهما. بدأ البرنامج بمقدمةٍ من المذيع حاول فيها قدر إمكانه أن يُظهر نفسه محايداً لا يميل إلى رأيٍ دون الآخر؛ فعرض لوجهتي نظرٍ مختلفتين إلى حد التضاد، ثم جاءت أسئلته ومداخلاته طوال البرنامج فاضحةً له بأنه ينحاز إلى إحدى وجهتي النظر دون الأخرى! بدأ الحوار هادئاً ثم سرعان ما انقلب من مناظرةٍ فكريةٍ رصينةٍ إلى حربٍ كلاميةٍ شرسةٍ ظهر فيها أحد المتحاورين وهو يحاول إرغام الطرف الآخر برأيه، وبدلاً من أن يشرح وجهة نظره ويناقشها بالعقل والمنطق إذا به يتهم الآخر بالخيانة والعمالة وعدم الولاء للوطن، ولأنه يُمثل وجهة نظر حكومة بلاده والطرف الآخر يُمثل المعارضة فقد تصور أنه في موقف قوةٍ فأسكره (غرور القوة) وبدأ يستأسد ويتنمر، وبعد فترةٍ بدأ يكيل السباب والشتائم، ووصل به الأمر إلى حد محاولة التعدي بالأيدي على محاوره، الذي اضطر للانسحاب من البرنامج، وهو مذاعٌ على الهواء مباشرةً؛ فما كان أمام مقدم البرنامج إلا أن يستمر مع ضيفه الوحيد في حوارٍ مملٍ لا معنى له حيث سار في اتجاهٍ واحدٍ فقط!

أحبتي في الله .. ذكرني هذا الموقف بكثيرٍ من المواقف المشابهة في حياتنا الخاصة والعامة .. اختلاف بين الزوج وزوجته، بين الأب أو الأم وأحد الأبناء، بين الإخوة والأخوات، بين جيران في المسكن، بين زملاء في العمل، بين مشجعين لنادٍ رياضي ومشجعين لنادٍ منافسٍ، باختصار بين أي طرفين مختلفين في رأيٍ أو متعارضين في مصلحةٍ. لا تخلو الحياة من مثل هذا الاختلاف، وهو يُعد ظاهرةً صحيةً حين يُكَمِّل كل رأيٍ الرأي الآخر فيكون في اجتماع كلا الرأيين خيرٌ، أو حين يتفق الطرفان على رأيٍ وسطٍ ويلتقيان في منتصف الطريق، أما إذا تمكن (غرور القوة) من طرفٍٍ تراه يفرض على الطرف الآخر رأيه بالقهر والإجبار، وهنا تحدث المشكلة. كأنه فرعون جديدٌ يقول: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾؛ يظن أنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، رأيه دائماً هو الصحيح ورأي غيره، إذا خالفه الرأي، هو الخطأ بعينه، شعاره المعلن "من ليس معي فهو ضدي"، نَسيَّ، أو تناسى، قول الإمام الشافعي: "قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأٌ يحتمل الصواب". لا يُواجِه الرأي بالرأي، ولا الحجة بالحجة، ولا الفكر بالفكر، يريد دائماً أن يفرض رأيه على الآخرين بالقوة؛ يوحي له (غرور القوة) أنه المتغلب بلا منازع، ولا يعلم أن الفكرة التي تُواجَه بالقهر، ويقابَل أصحابها بالتسفيه والاستخفاف، تكتسب، من حيث لا يحتسب، قوةً إلى قوتها، وإذا به، وبمرور الوقت، يكتشف أنه بتعامله بهذا الأسلوب كان سبباً في انتشار الرأي الآخر وتمسك الآخرين به، سواءً لأنه حقٌ، أو من باب العند أو الكيد والمناكفة!
إن القوة حين يستخدمها الناس لمحاربة الحق، بدلاً من نصرته، تتحول إلى طغيانٍ يعمي أبصارهم ويطمس بصائرهم؛ يقول تعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، أي يضلون ويعمَونَ عن الرُّشد، ويقول سبحانه: ﴿بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم، في معاندةٍ واستكبارٍ.
استخدام القوة لغير نصرة الحق ومواجهة الباطل سببٌ للخسران؛ إنها سُنة الله التي لا تتغير في خلقه، مع الأفراد ومع الجماعات ومع المجتمعات، يقول سبحانه وتعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾.
يقول أهل العلم أن الآيات التي تحدثت عن الأمم السابقة في القرآن الكريم كلها تدل على أن قوة هذه الأمم مهما اشتدت عظمتها وكبرت وتميزت عن غيرها ممن يحيط بها، ومهما امتلكت من مقوماتٍ ماديةٍ وجسديةٍ فهي ضعيفةٌ واهنةٌ سريعة الزوال والهلاك ما دامت بعيدةً عن أمر الله وطاعته، وبعيدةً عن احترام حقوق العباد التي شرعها الله، وبعيدةً عن الأخلاق والقيم السليمة الصالحة للمجتمع والقائمة على العدل والقسط، فأعظم وأسرع ما يُهلك المجتمعات والأفراد (غرور القوة) والكِبْر والعُجب الذي يولد الاستبداد والظلم؛ قال تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
إن القوة في الأصل محمودةٌ ومطلوبةٌ؛ فقد طلب الله من المؤمنين إعداد ما استطاعوا من قوةٍ وقُدرةٍ لإرهاب وتخويف أعداء الله، وهُم أولئك الذين يُظهرون عداوةً واضحةً وظاهرةً للدين، وأعداء آخرين لا يعلمهم إلا الله؛ قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾. وتنقلب القوة وبالاً على صاحبها إذا لم يوظفها التوظيف الصحيح الذي يتفق مع مراد الله، فتكون حسراتٍ يعيشها الذين استخدموا القوة في غير محلها؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾؛ فهذا قارون قال عنه الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾؛ فيقول متكبراً: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾، فذكَّره المولى عز وجل بأن هذه القوة العلمية والحسية التي تفتخر بها قد سبقك بها أقوامٌ فانظر ماذا كان مصيرهم: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾. ولما هدد الله قريشاً، ومن هُم على شاكلتها، قال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً﴾، وضرب الله المثل بعادٍ؛ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾، ووصف الله سبحانه وتعالى فرعون بقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾. إنه (غرور القوة) الذي يُودي بصاحبه ويُرديه.

ومن الناس من ينافق أصحاب القوة ولو كانوا على غير الحق؛ ففي صورةٍ كاشفةً لمواقف المنافقين الذين يُبدلون ولاءهم ويُغيرون جلودهم ويتلونون كالحرباء ساعين وراء مصالحهم يبين الله حالهم محذراً من ذلك بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾؛ فهذا بيانٌ لحال من يستخدم الأيْمان والعهود والتأكيد عليها في تعامله مع الناس لأجل مصلحته الذاتية ثم سرعان ما يتبدل عندما يظهر له أن مصلحته مع قومٍ أو أناسٍ آخرين، فتراه يُسارع في نقض عهوده وأيْمانه لموالاة من يجد عندهم المصلحة أو من يمتلكون القوة المادية، ويتمادى في معاداة أصحاب الحق الذين يتصور أنهم هم الضعفاء ولا قوة لهم.

ومن المواضع الشريفة لاستخدام القوة؛ يقول العلماء: القوة في أخذ الدِّين، وعلو الهمّة في تطبيق جميع ما يستطيع من شعائره؛ قال الله لموسى وقومه: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾، وقال لقوم موسى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وقال سبحانه ليحيى عليه السلام: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ].

إن مفهوم القوة سواءً في اللغة أو في القرآن الكريم ليس مرادفاً للعنف، وأن القرآن الكريم قد أكد على أن القوة ينبغي أن تُستخدم للتمسك بالدين والالتزام بشعائره وللدفاع عن الحق. كما أن الجهاد، وهو أعلى أشكال القوة، أعم من القتال؛ لأن الجهاد، إلى جانب محاربة أعداء الدين، يشتمل على جهاد النفس وجهاد الشيطان. وبجهاد النفس والاستغفار والتوبة تزداد القوة؛ قال تعالى على لسان نبيه هود: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾.

أحبتي .. عودةً إلى ما بدأت به فإن الأفكار، كما أنها لا تُحارب بالقوة، فإنها لا تنتشر بالقوة أيضاً؛ فمقولة أنّ الإسلام انتشر بالسيف، من السهل كشف زيفها إذا درسنا تاريخ انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا؛ إن ملايين المسلمين دخلوا في دين الله أفواجاً، من خلال تعاملهم مع التجار المسلمين الذين ذهبوا للمعاملات التجارية في تلك البلاد، حين رأوا أخلاقهم العالية في المعاملات. لكننا في نفس الوقت مُطالَبون بألا نعيش بغير قوةٍ نحمي بها ديننا وندافع بها عن أنفسنا وأرضنا؛ إن قوام الإسلام، كما قال أحد العلماء، هو في كتابٍ الله يَهدينا وبسيفٍ ينصرنا، ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾، في زمنٍ يتعامل فيه معظم الناس بالقوة ويحترمون القوي ويجورون على الضعيف، لكن قوتنا منضبطةٌ بقواعد وقيمٍ حددها لنا القرآن الكريم.
علينا كأفراد أن يبدأ كل مسلمٍ منا بنفسه؛ فيُقوي إيمانه بالله سبحانه وتعالى أولاً ثم يأخذ بأسباب القوة في جميع المجالات: البدنية والعلمية والاقتصادية والأخلاقية وغيرها من مجالات، ثم علينا أن نتعظ ونعتبر من قصة فرعون كما وردت في القرآن الكريم؛ يقول المولى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾؛ فلا يتحول أيٌ منا إلى فرعون صغيرٍ في بيته مع زوجته وأبنائه، ولا في عائلته مع إخوانه وأخواته، ولا في عمله مع مرؤوسيه، ولا في أي موقفٍ من مواقف الحياة، ولنتذكر أن (غرور القوة) مآله دوماً إلى الخسران.

هدانا الله وإياكم إلى طريق الإيمان، وعمل الصالحات، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/HVd4wD