الجمعة، 23 فبراير 2018

صفا



الجمعة 23 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٣
(صفا)

كثيرٌ هُم من يخطئون في نطق اسمها؛ يعتقدون أن الاسم "صفاء"، رغم أنه (صفا)، بدون الهمزة الأخيرة. حاوَلَت مئات وربما آلاف المرات أن تصحح للغير نطقهم الخاطئ لاسمها، لكنها استسلمت في نهاية المطاف مستلهمةً المقولة المشهورة "خطأٌ شائعٌ خيرٌ من صحيحٍ غريبٍ".

أحبتي في الله .. اسم (صفا) ليس من الأسماء الشائعة، كفاطمة وعائشة مثلاً؛ لذا فهو من أسماء النُخبة، اسمٌ مميزٌ، لا يتكرر كثيراً فهو نادر؛ وقانون الندرة لا يحابي ولا يجامل: كل نادرٍ غالٍ.
يتسمى بهذا الاسم الجميل الإناث والذكور على السواء، وإن كان الغالب أن يكون هذا الاسم للإناث.
تعني كلمة (صفا) الصخر الضخم الصلد الأصم الأملس. وهي في اللغة العربية مشتقةٌ من الفعل صفَا يَصفُو، صَفْواً وصَفاءً، فهو صافٍ. نقول صفا الماءُ ونحوُه: راقَ، فهو نقيٌّ لا يكدره شيء. صفا الجوّ: لم يكن فيه غيمٌ. صفا القلبُ: خلا من الغَمِّ. صفا فلانٌ لفلانٍ: أخلص له.

يقول الشاعر:
يسألونني عن السر
في الهم وقد اختفى
أقول لهم إن القلبَ
قد راقَ وصفا
عرف طريقَ الهدى
بالقرآنِ وأحاديثِ المصطفى
فكان الرضا وكان الهناءُ
من بعدِ همٍ وغمٍ وجفا
صارت أحوالُه سارةً ميسرة
وهو على السعادةِ أشرفا
أصابت روحَه سهامُ فضلٍ
من الله فحمد واكتفى
فللأحبةِ وفاءٌ من قلبٍ
فاض الإيمان به فتشرفا

اسم (صفا) اسمٌ عربيٌ أصيلٌ، ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. وفي الحديث الشريف قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنما جُعِل الطوافُ بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجِمار لإقامة ذِكر الله].

وصفا اسمٌ لمكانٍ مرتفعٍ معروفٍ قريبٍ من الكعبة كالصخرة الكبيرة إذا وصله الحاج أو المعتمر ارتقى عليه ووقف مستقبلاً القبلة مُكبراً مُهللاً ومُصلياً على النبي صلى الله عليه وسلم وداعياً بما شاء.
فاسم (صفا) مرتبطٌ لدينا كمسلمين بقداسةٍ خاصةٍ لها صلةٌ بشعيرتين وعبادتين هما: الحج والعمرة؛ حيث يعتبر السعي بين الصفا والمروة ركناً من أركان الحج والعمرة، وبين الصفا والمروة أربعمائة وثلاثٌ وتسعون خطوةً، وبين الصفا والمروة مسعىً يتكون من طابقين بطول 294,5 متراً، وعرض 20 متراً، وفي وسط المسعى وفي الطابق السفلي يوجد حاجزٌ يُقَّسِم المسعى إلى طريقين أحدهما مخصصٌ للسعي من الصفا إلى المروة، والثاني من المروة إلى الصفا، وفي الوسط ممرٌ ضيقٌ ذو اتجاهين، مخصصٌ لسعي العاجزين وغير القادرين على الهرولة، وللمسعى ستة عشر باباً في الواجهة الشرقية، وللطابق العلوي مدخلان أحدهما عند الصفا والآخر عند المروة، ولهذا الطابق سُلمان من داخل المسجد أحدهما عند باب الصفا، والآخر عند باب السلام.

كتب أحد العلماء الأفاضل يقول أن للصفا تاريخٌ لا يُنسى مع دين الإسلام؛ فعلى صخرة الصفا كانت بداية الدعوة، وعلى ذات الصخرة كانت نهاية الدعوة بعد أن أكمل الله سبحانه وتعالى للناس دينهم وأتم عليهم نعمته ورضى لهم الإسلام ديناً؛ قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.
كان وقوفه الأول، صلى الله عليه وسلم، على صخرة الصفا، حين صعد في بداية الدعوة وجعل ينادي: [يا بَني فهر .. يا بَني عدي ... ] ينادي على بطون قريش حتى اجتمعوا، وكان الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الخبر، فجاء أبو لهب وقريش. فقال صلى الله عليه وسلم: [أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصَدِقيّ؟]، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: [فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٌ شديدٌ]. فقال أبو لهب: تباً لك؛ ألهذا جمعتنا؟
أما وقوفه الأخير فكان في حجته في العام العاشر للهجرة، حين دنا صلى الله عليه وسلم من صخرة الصفا فقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [أبدأ بما بدأ الله به]، فبدأ بالصفا فصعد عليها حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده].
كان وقوفه الأخير في حجة الوداع، وحوله أكثر من مائة ألفٍ من الصحابة، كلهم يرقب حركاته وسكناته وأقواله وأوامره صلى الله عليه وسلم، فإذا لبّى لبوا، وإذا كبَّر كبَّروا، وإذا أهل أهلوا، وإذا أبطأ أبطأوا، وإذا أسرع أسرعوا، الجميع رهن إشارته، بل رهن لحْظه وطرْفه.
ما أعظم البَوْن بين الوقفتين، كلتاهما كانتا على ذات الصخرة، صخرة الصفا، لكن خلال ثلاثٍ وعشرين سنةً بين الوقفتين تغيرت كثيرٌ من الأمور؛ دالت الأيام، ورُفع أقوام، وخُفض آخرون، وساد أقوام، وتذيّل آخرون!

في الوقفة الأخيرة على صخرة الصفا كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؛ والتي قال فيها: [أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا، بِهذا الموقِفِ أبدًا.
أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليْكُم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا، وَكحُرمةِ شَهرِكم هذا، وإنكم ستلقونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم وقد بلَّغتُ، فمن كانت عندَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى منِ ائتمنَهُ عليْها وإنَّ كلَّ ربًا موضوعٌ، ولكن لَكم رؤوسُ أموالِكم، لا تظلِمونَ ولا تُظلَمونَ قضى اللَّهُ أنَّهُ لا ربًا وإنَّ ربا العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ موضوعٌ كلُّهُ، وإنَّ كلَّ دمٍ كانَ في الجاهليَّةِ موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دمائكم أضعُ دمَ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطَّلب فَهوَ أوَّلُ ما أبدأُ بِهِ من دماءِ الجاهليَّةِ.
أما بعدُ أيُّها النَّاس، إنَّ الشَّيطانَ قد يئِسَ أن يعبدَ في أرضِكم هذِهِ أبدًا، ولَكنَّهُ أن يطاعَ فيما سوى ذلِكَ فقد رضِيَ بهِ مِمَّا تحقِّرونَ من أعمالِكم، فاحذروهُ على دينِكُم.
أيُّها النَّاسُ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾، ويحرِّموا ما أحلَّ اللَّهُ، وإنَّ الزَّمانَ قدِ استدارَ كَهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّهُ السَّمواتِ والأرضَ، وَ﴿إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللَّهِ اثنا عشَرَ شَهراً منْها أربعةٌ حُرُمٌ﴾، ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجبُ الَّذي بينَ جُمادى وشعبانُ.
أمَّا بعدُ أيُّها النَّاسُ، فإنَّ لَكم على نسائِكم حقًّا ولَهنَّ عليْكم حقًّا، لَكم عليْهنَّ أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، وعليْهنَّ أن لا يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ، فإن فعلنَ فإنَّ اللَّهَ قد أذنَ لَكم أن تَهجُروهنَّ في المضاجِعِ، وتضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ، فإنِ انتَهينَ فلَهنَّ رزقُهنَّ وَكسوتُهنَّ بالمعروفِ واستوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ عندَكم عَوانٍ لا يملِكنَ لأنفسِهنَّ شيئًا، وإنَّكم إنَّما أخذتُموهنَّ بأمانةِ اللَّهِ، واستحللتُم فروجَهنَّ بِكلمةِ اللَّهِ، فاعقلوا أيُّها النَّاسُ قولي، فإنِّي قد بلَّغتُ وقد ترَكتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا كتابَ اللَّهِ وسنَّةَ نبيِّهِ.
أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي واعقِلوهُ تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلمٍ أخو للمسلِمِ، وأنَّ المسلمينَ إخوَةٌ، فلا يحلُّ لامرئٍ من أخيهِ إلا ما أعطاهُ عن طيبِ نفسٍ منه فلا تظلِمُنَّ أنفسَكمُ. اللَّهمَّ هل بلَّغتُ؟]، قالوا: اللَّهمَّ نعَم، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: [اللَّهمَّ اشْهَدْ].

أحبتي .. لعلَّ من اللطائف التي يذكرها علماؤنا الأجلاء في كون النبي صلى الله عليه وسلم قد اختارَ موضعَ الصفا ليذكُر فيه نعمةَ النصر وإنجازَ الوعد أنه هو الموضع الذي كانت تقطعُه هاجَر أم إسماعيل عليهما السلام تبحثُ فيه عن الفَرَج وكشف الكُربة، تبحثُ عن الماء لابنِها الرَّضيع، فيكشِفُ الله غُمَّتَها، ويُفرِّجُ كُربتَها. ومن اللطائف أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم حينما ضُيِّق عليه في مكة وأُخرِج منها، وقفَ عند الصفا، فقال صلى الله عليه وسلم: [واللهِ إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ].
فحريٌّ بكل مسلمٍ أن يستلهِمَ هذه العِبَر والعِظات، وأن يستحضِر وهو يقِفُ على الصفا ما كان يقولُه صلى الله عليه وسلم، واثقاً بالفأل الحسن، وتغيُّر الحال من الضعف إلى القوة، ومن الاضطهاد إلى النصر.

ومن لا تمكنه ظروفه من زيارة هذه البقعة المقدسة بجوار الكعبة المشرفة والمسجد الحرام، عسى سماعه اسم (صفا) أو ترديده له أن يكون مذكراً له بهذه المعاني الطيبة، مستلهماً من معنى الاسم ضرورة تصفية قلبه من كل حقدٍ أو حسدٍ أو ضغينةٍ، وتصفية عمله من كل شركٍ أو سمعةٍ أو رياءٍ.

اللهم اجعلنا ممن تصفو قلوبهم وممن يُصَّفُون أعمالهم لتكون خالصةً لوجهك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/2qmzKg