الجمعة، 23 مايو 2025

الأُم البديلة

 

خاطرة الجمعة /500

الجمعة 23 مايو 2025م

(الأُم البديلة)

هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت في «سلطنة عُمان». المكان: قاعة المُغادرين في مطار «مسقط» الدولي. الزمن: الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل. كتب الفتى صاحب القصة رسالةً لأُمه قال فيها:

أكتب إليك يا أُمّي من مطار «مسقط» الدوليّ، ها أنا الآن في القاعة رقم 23 بانتظار الحافلة التي سوف تُقلّني إلى سُلّم الطائرة في طريقي إلى «الهند». الجو باردٌ، وأحسُّ بانتعاشٍ لرؤيتي منظر الأطفال نائمين بأحضان أُمهاتهم؛ الهدوء يعم القاعة لم يقطعه سوى صوت المذياع الداخلي يُخبر المتأخّرين بالتعجيل لتخليص إجراءاتهم، أما أنا فقد أخرجتُ ورقتي وقلمي من سُترتي، وبدأتُ أكتب إليكِ مُستغلاً الوقت المُتبقي قبل موعد الإقلاع.

أتمنى أن تُفكري بكل حرفٍ سوف أخطّه لكِ، وتتمعّني فيه، وتسترجعي ذاكرتكِ إلى الوراء قبل أربعة عشر عاماً؛ عندما حملتِ بي، تسعة أشهرٍ من المُعاناة، خرجتُ بعدها إلى الدُنيا، ثم تركتيني بعد مُضي شهرين لتُكمل الشغّالة الهندية «كوماري» الحِمل الثقيل الذي أحسستِ بأنّه سوف يقتل أحلامكِ وطموحكِ الوظيفيّ، وفوق ذلك تفقدين رشاقتكِ، وتذبلين مثل الوردة التي يُمنع عنها الماء. نعم هذه هي الحقيقة التي دأبت «كوماري» تُلقّني إياها، وكأنها تقصد تنشئتي على حُبها وكُرهكِ أنتِ؛ حتى لا يضيع تعبُها سدىً، ولا أعلم ما الذي كان يدور في خَلَدها؟ الذي أعلمه الآن أنّ حُبي لها حقيقيٌ نابعٌ من قلبي الذي لم يعرف أُماً سواها! مُنذ نشأتي، في كلّ مرّةٍ تمنيتُ بأن تستقطعي من وقتك الثمين ولو بضع دقائق لكي أحكي لكِ ما يدور بخاطري، وأشرح لكِ ألمي لابتعادكِ عني، وابتعاد مشاعري لغيركِ، وأبوح لكِ بما أشعر به بعد أن عادت «كوماري» إلى بلدها «الهند». صدّقيني أُمي، وأنا أُناديك بهذا الاسم ولا أشعر به، ولا أشعر بأنه من قلبي، لكن هي الفطرة وحدها لقنتني هذه الكلمة، أما الإحساس الحقيقيّ فلا يوجد لديّ لكي أمنحكِ إياه؛ فقد استهلكته شغّالتنا الهندية، وشربتْ منه وارتوت ثم رحلَت، وتركت طفلها الذي لم تلدْه، ولكن ربّته على حُبّها! كانت تحكي لي كيف كانت الأيام الأولى بعد مُضي شهرين من ولادتي، كيف تركتِيني وعُدتِ إلى عملكِ، مع أنّه تمّ منحكِ إجازة ثلاثة أشهر، ولكنّ حُبّكِ لعملكِ أفقدكِ إحساسكِ بطفلك. عند بلوغي سن الفهم لم أجد إلا «كوماري» (الأُم البديلة) التي تُخفف مُعاناتي وصرخاتي وأنيني وتوجعي، كانت تسهر لراحتي، وتجلب الدواء لي، وتسقيني من الحليب المُصنّع، وأنتِ يا من تدَّعين بأنّي طفلكِ -بالاسم فقط- تغطّين في سُباتٍ عميقٍ لا تُحبين سماع بكائي، يؤذيك صراخي، ويُنغّص عليكِ نومكِ الهانئ، فضّلتِ النوم المريح على رعايتي والاهتمام بي؛ حتى تقومين في الصباح وتذهبين إلى عملكِ نشيطةً، وقبل خروجكِ إلى العمل تمرّين بي طابعةً على خدي قُبلةً صغيرةً، وكأني دميةٌ تتركينها صباحاً ثم تعودين إليها بعد الظُهر. كم مرّةً بكيتُ وأنا ابن السنتين أجري خلفكِ صباحاً وأنتِ ذاهبةٌ إلى العمل، ومساءً وأنتِ ذاهبةٌ للتسوّق، أتمنى أن تأخذيني بحُضنكِ، ولكن دون جدوى؛ فتضمني «كوماري» إلى حُضنها الدافئ، وقلبها الحنون والبلسم الشافي. كبرتُ ولم أجدكِ أمامي، وجدْتُها هي تُلاعبني تُلاطفني، تسقيني إذا عطشتُ، تُطعمني إذا جُعتُ، تُبدل لي ملابسي إذا اتّسخت، تمسح دمعتي إذا بكيتُ، تقوم على راحتي حتى عندما أمرض وأحتاج إليكِ لا أجدكِ لكني أجدها، هي من تنام بجانبي، تهتم بأمري، خاصةً إذا مرضتُ، كانت هي من تُعطيني الدواء، وتقيس حرارتي، ولا تنام إلا إذا أغمضتُ عينيّ. مرّت السنوات وكبر حُبي لها وصغرتِ أنت بعينيّ، وبدأتُ أعي كل ما حولي وأفهم كل شيءٍ، وكبر تعلقي بها لأنها لم تُفارقني منذ اليوم الأول لي بالمدرسة؛ كانت تُعدّ لي الإفطار، وتنتظرني عند موقف الحافلة لكي تتأكد من ركوبي سالماً، ولا تكتفِ بذلك إنما تُلوِّح بيدها إلى أن تُفارق الحافلة ناظرها، كانت لي هي (الأُم البديلة)، وأنتِ بالجانب الآخر تضعين المساحيق، وتتزينين للخروج للعمل، ولا تُكلفي نفسكِ ولو بالسؤال عني، وعند عودتي من المدرسة أجدها تنتظرني عند باب البيت تحمل حقيبتي عني، وتُغيِّر ملابسي، وتُجهز لي الغداء. وأنتِ يا من تُدعين أُمي لم أستطع أن أتذكر لكِ -ولو بصورةٍ في مُخيّلتي- أي موقفٍ يشفع لكِ اليوم، فها أنا قد كبرتُ وبلغتُ، والآن أحمل حقائبي مُعلناً حسم الصراع الذي يدور في داخلي مُنذ اليوم الأول لسفر شغّالتنا «كوماري»، وإلى اليوم، لم أعد أستطيع الجلوس؛ فقد ضاقت الدنيا عليّ بما رحبت، وبلغتُ من الوجع والألم والاشتياق مبلغاً لا أُريد أن يُؤذَىٰ أحدٌ به، فإني أُحسّ بأن رأسي سوف ينفجر، ومثلما تركتموني أنتِ وأبي وأنا طفلٌ صغيرٌ، ما الذي يُضيركم وأنا شابٌ يافعٌ ابن أربع عشرة أن أختار حياتي وما أُريد؟

وداعاً أُمّاه، كم تمنّيتُ أن تخرج هذه الكلمة من قلبي، حتى وأنا أُودّعك الوداع الأخير، ولكنكِ قتلتِ فيّ كلّ شيءٍ جميلٍ، وكلّ إحساسٍ ومشاعر للأُم في صدري.. لقد ذبحتيني من الوريد إلى الوريد، هذا ما جنيتِ، وجناه أبي عليّ.

اعذريني الآن؛ فقد جاءت الحافلة التي تُقلنا إلى سُلّم الطائرة المُتّجهة إلى حيث تعيش أُمّي لأبقى معها بقيّة عُمري. ونصيحةٌ لكِ لا تُحاولي البحث عنّي، أو إرغامي على العودة؛ فإني إن عُدْتُ أعود جُثةً هامدةً لا فائدة منها. نصيحةٌ أخرى لكِ أنتِ ولأبي إذا أنجبتم ابناً آخر اتخذوني درساً لبقيّة حياتكما.

 

أحبتي في الله.. القصة مؤثرةٌ جداً، ورغم أن الفتى ما يزال في سنٍ صغيرةٍ، فإنه استخدم لغةً قاسيةً في مُخاطبة أُمه، تجاوز فيها كل الحدود، كما يبدو أن سفره كان على غير رغبة والديه ودون علمهما، إلا أن الفتى عبَّر عن مشاعره وأحساسيه بصراحةٍ، وأوضح في طيات ما كتب آلام المحروم من حنان أُمه، وهي أمام عينيه، ووجد الحنان لدى الشغالة فكانت له بمثابة (الأُم البديلة). طمست قسوة قلب الفتى بصيرته حتى شرد عن الحق والواجبات والأصول، إلا أنه أوضح بصدقٍ دون مُجاملةٍ أو مُواربةٍ شعور الأطفال الذين لم يعرفوا أحضان أُمهاتهم، بل عرفوا أحضان الشغالات.

لقد كانت الرسالة التي كتبها لأُمه بمثابة جرس إنذارٍ يُنبه الجميع، ويُلفت النظر إلى خطورة هذا الأمر، خاصةً إذا كانت الشغالة ليست مُسلمةً، وتنتمي إلى ثقافةٍ مُغايرة لثقافتنا.

 

يقول أهل العِلم إن من أهم وظائف المرأة -كما حددها الشرع- رعاية الأبناء؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [.. والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا..]، ولذا جعل الشرع الحضانة حقاً للأُم خاصةً في مراحل الطفولة الأولى.

والأصل أن محل تواجد المرأة هو البيت؛ لقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. والمرأة لا تحتاج للخروج إلى العمل إلا أن تكون هناك حاجةً لها لا يسدها رجلٌ ‏من أهلها، أو أن يحتاج المُجتمع المُسلم حاجةً لا تقوم بها إلا النساء، وأن يكون هذا العمل بين ‏النساء خاصةً لا اختلاط فيه مع الرجال.

والأصل هو بقاء المرأة في بيتها؛ تُربي أبناءها، وترعى شئؤن بيتها بنفسها، وفي ذلك من المصالح ما لا يتحقق بدونه، ويترتب على تركه من المفاسد ما الله به عليم. ولا ينبغي للمرأة أن تُخالف ذلك الأصل فتخرج من بيتها، وتترك تربية أبنائها للشغالة التي تتحول إلى (الأُم البديلة)، إلا لضرورةٍ، فعليها حينئذٍ أن تلتزم بالضوابط الشرعية؛ أن لا تعمل في مكانٍ تختلط فيه مع الرجال، وإن كانت طبيعة عملها تستوجب التعامل مع الرجال فليكن ذلك بدون اختلاطٍ، وبأقصى درجات الحذر؛ فتكون مُتحجبةً بالحجاب الشرعي، ومُحتشمةً، وإن اضُطرت إلى مُكالمة الرجال فلا تخضع بالقول؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾، وألا تسمح لنفسها بالخلوة بأحدٍ من الرجال. وللأُم -في حالة الاضطرار- أن تستأجر شغالةً تُعينها على أعمال المنزل، مع مُراعاة الضوابط الشرعية التي منها أن تكون الشغالة مُسلمةً، وأن تلتزم بالحجاب، وأن تقوم بالعبادات كالصلاة والصيام، مع مُراعاة عدم دخول الرجال عليها، وعدم الخلوة بها، وعدم الاختلاط المُحرم. كما ينبغي أن لا يوكل لها أمر تربية الأولاد؛ لأن تربيتهم مسؤولية الوالدين، ومن مفاسد إسناد تربيتهم للشغالات أن ذلك يُفقد الطفل الجانب العاطفي تجاه والديه، لا سيما أُمه، فيفتقد الحنان الذي هو العُنصر الأساسي في التوجيه والإرشاد للأطفال.

 

ويقول عُلماء الاجتماع إن أغلب الأُسر في مُجتمعاتنا العربية بصفةٍ عامةٍ، والخليجية بصفةٍ خاصةٍ، تعتمد اعتماداً كبيراً على الشغالات في إدارة أمور البيوت وتربية الأطفال. وهذه ظاهرةٌ من الظواهر الاجتماعية التي أصبحت مخاطرها تُهدد كيان الأسرة، وتؤثر سلباً على تنشئة الأجيال؛ ففي ظل انشغال الوالدين يكون للشغالات تأثيرٌ كبيرٌ على تربية الأبناء، وأخطر هذا التأثير ما يكون على المُعتقدات الدينية بشكلٍ خاصٍ، وعلى الجوانب الثقافية التي يجب أن يتربى الأبناء عليها؛ إذ يكتسبون كثيراً من العادات والتقاليد الدخيلة على مُجتمعاتنا، فضلاً عن التأثيرات السلوكية والأخلاقية؛ وما يستتبع ذلك من عقوق الأبناء لأُمهاتهم وآبائهم، وتفضيلهم الشغالات اللاتي يُحْسِّن العناية بهم أكثر من أُمٍ تخلت عن واجبها، وأبٍ مشغول؛ وصدق من قال:

لَيَسَ اليَتيمُ مَنْ انْتَهَى أبَوَاهُ

مِنْ هَمِ الحَياةِ وَخَلَّفاهُ ذَليلا

إنَّ اليَتيمَ هُوَ الْذي تَلْقَى لَهُ

أُمّاً تَخَلَّتْ أَوْ أَباً مَشْغولا

 

وفي المقابل؛ فإن بعض الشغالات الأجنبيات غير مؤتمناتٍ على الأطفال، وقد سمعنا عن الكثير من جرائمهن الفظيعة، ومنها: تعرض الطفل للعُنف، والمُعاملة القاسية، والعقاب المُبالَغ فيه، والضرب المُبرح، وتَعَمُد إحداث الأذى، مما قد يؤدي إلى الموت أو التشويه أو الإصابات الشديدة، فأين نحن من قول الشاعر:

أوْلادُنا بَيْنَنا

أكْبادُنا تَمْشي عَلَى الأرْضِ

إنْ هَبَّتْ الريحُ عَلىٰ بَعْضِهِمْ

لَمْ تَشْبَعْ العَيَنُ مِنَ الغَمْضِ

 

إن مشاهدة الواقع، ومصير البيوت والأبناء الذين تربوا في أحضان الشغالات، دليل إثباتٍ لا شك فيه على تلك الجناية التي تُرتكب في حق الأبناء حين يُتركون لتقوم الشغالة بتربيتهم، وأية جنايةٍ أكبر من ذلك؟ وأي ثمنٍ أفدح من فقد الطفل عاطفته تجاه والديه -وخاصةً أُمه- وتعلقه بالشغالة التي ربته؟

 

أحبتي.. يقول أحد المُهتمين بهذا الشأن إن الأُم المُستهترة التي تخلت عن دورها ومسؤوليتها، واعتقدت أنها قائمةٌ بواجبها إن هي قدمت لأبنائها الطعام والشراب والرعاية بواسطة الشغالة (الأُم البديلة)، وتحرمهم من حنانها وعطفها ورعايتها بسبب كسلها، وضعف همتها، وركونها إلى الراحة والدَعة، أو انشغالها بالذهاب إلى العمل، أو الخروج للأسواق والزيارات، أو تعلقها بأسباب اللهو: التلفاز، والمجلات، والاتصال بالهاتف، ومُتابعة مواقع التواصل الاجتماعي، فلا ترى ابنها إلا نادراً، مثل هذه الأُم تندم -حين لا ينفع الندم- حين ترى ابنها أشد تعلقاً بالشغالة منها. نصيحتنا لكل أُمٍ أن تتقي الله ولا تحرم أبناءها من حنانها، وأن تهتم ببيتها الذي هو مملكتها، وأن تصرف جُهدها للاهتمام بزوجها وتربية أبنائها ورعاية مصالحهم؛ فتقر عينها في الدنيا برضى الزوج ومحبة الأبناء، وفي الآخرة برضا المولى عزَّ وجلَّ، ولتتذكر كل أُمٍ إن الأمومة نعمةٌ، محرومٌ منها غيرها، فلتحمد الله وتشكره عليها؛ فبالحمد والشكر تدوم النعم.

اللهم اهدنا، واهدِ زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا ونساء المسلمين، إلى ما فيه الخير والصواب والرشاد والسداد.

https://bit.ly/4jhExhF