الجمعة، 16 أكتوبر 2020

عقوق الآباء

 

الجمعة 16 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /261

(عقوق الآباء)

 

كتبت تحكي قصتها فقالت: أنا سيدةٌ أبلغ من العمر إحدى وستين سنة، أنعم عليّ ربي بابنتين وولد، تزوجت ابنتي الصغرى منذ سبع أعوامٍ، وتزوج ابني منذ خمس عشرة سنة، وبقيت معي ابنتي الكبرى؛ حيث تقدم لها كثيرون من راغبي الزواج غير أني كنتُ أرفضهم واحداً تلو الآخر، فمنذ أن تزوجت ابنتي الصغرى وأنا أتكل على الكبرى اتكالاً تاماً في كل شيء؛ لا أرفع حتى كوب الماء، أوقظها من نومها لأتفه الأسباب، أدَّعي المرض الشديد لأجل أن تخدمني في كل شيء. كانت تحاول إرضائي بكل الوسائل، وكنتُ أنا أشعرها دوماً بأنها مُقَّصِرةٌ مهما فعلت، نادراً ما أشكرها أو أدعو لها، كانت تقوم بكل أعمال المنزل، وأنا لا أقوم من فرشتي إلا لقضاء الحاجة -أعزكم الله- أو للوضوء، وأنا سليمةٌ معافاةٌ، كنتُ أفتعل المشاكل معها وأصرخ عليها باستمرار، أصبحتُ أريد أن أتملكها لتبقى خادمتي الأبدية، وسوس لي شيطاني بأن أحرمها من الزواج؛ فهي لي وحدي، وكل ما تملك لي، كانت تتقاضى راتباً من تقاعد زوجي، رحمه الله، وكانت تصرفه عليّ وعلى طلباتي التي لا تنتهي، ما أشتهي شيئاً إلا ويكون عندي، ربي يغفر لي ما فعلت. كنتُ كلما أتى عريسٌ لها أرفضه وأزعم أن فيه عيوب الدنيا. كنتُ أعمل أموراً غير جيدةٍ أمام العرسان وأهلهم كي أُنفرهم؛ كأن أرفع صوتي، أو أن أتكلم بشكلٍ تافهٍ، أو أن أتصرف بشكلٍ غير لائقٍ بسيدةٍ في عمري، وعندما تعاتبني ابنتي أبدأ بالصراخ عليها وأعنفها وأشتمها بألفاظٍ نابيةٍ فما يكون منها إلا أن تصمت وتبكي. لم أهتم أبداً بمشاعرها، ولم أفكر فيها وفي مستقبلها، ولا حتى في أبسط حقوقها وهو أن تتزوج ويكون عندها طفلٌ يبرها كما هي برتني، كنتُ أنانيةً لأبعد الحدود، حرَّمتُ ما أحل الله وأمر به، المهم نفسي نفسي، مع أنني كنتُ ضد من يمنع ابنته أو ابنه من الزواج لكي يحتكره لنفسه، وكنتُ أحتقرهم وأتعجب منهم، لكن لا أعرف ماذا حصل لي؟ وكيف سيطر الشيطان عليّ وصور لي أموراً غريبةً كالعيش وحدي لا أحد معي؟ ومَن سيخدمني؟ ونسيتُ أن الله معي وهو يرعاني، وأنّ مَن عنده ابنةً مثل ابنتي لن يضيع حتى لو تزوجت، ألم أتزوج أنا وأخواتي؟ ألم تعش أمي لوحدها وكنا نزورها باستمرار وكانت سعيدةً جداً بنا وبأطفالنا؟

بدأت ابنتي تشعر بأنني أقف في طريقها بلا رحمة كالوحش المفترس، كبرت وعندما أصبح عمرها أربعين سنةً تقدم عريسٌ متواضعٌ لخطبتها، جُن جنوني؛ كيف مازال هناك خاطبون لها وهي بهذا العمر؟ لم يعجبني الأمر أبداً، بينما هي كانت تبدو عليها ملامح الفرح والأمل، لكن كيف تفرح؟ يجب عليّ قتل هذا الفرح فهي عبْدتي أنا! وكالعادة حاولتُ تطفيش العريس وأهله، وبدأتُ أضايق ابنتي وأفتعل المشاكل معها؛ كنا في رمضان، وفي وقت السحور ليلة السابع والعشرين افتعلتُ معها مشكلةً بادعاء أن هذا السحور لا يعجبني، وأنها مُقصرةٌ معي، فقالت لي: "أنا أعرف يا أمي لِمَ تفعلين كل هذا معي؛ أنتِ لا تريدين لي أن أتزوج، أليس حراماً عليك أن تفعلي بي هذا؟ هل قصرتُ معك؟ قضيتُ سنين عمري بجانبك وكبرتُ وأنا أرعاك؟ أليس من حقي أن أتزوج؟"، وأخذت تبكي، وأنا لا أهتم لها ولا أرحم دموعها، بل قلتُ لها مستهزئةً: "مَن الذي سيتزوج عجوزاً مثلك يا عانس؟ احمدي ربك أنك معي"، لا أعرف كيف نطقتُ هذه الكلمات، وفجأةً رأيتُ ابنتي ترفع يديها إلى السماء وتدعو وتقول: "يا رحمن يا رحيم، ارحمني مما أنا فيه؛ فأنا ما عدتُ أريد الزواج، ولا أريد البقاء مع أمي، فخذني إلى جوارك يا رب"، وبقيت تكرر كلمة "يا رب" إلى أن اختنق صوتها ووقعت على الأرض، استنجدتُ بالجيران ونقلناها إلى أقرب مستشفى، أدخلوها العناية المركزة، وأخبرني الطبيب أنها أُصيبت بجلطةٍ حادةٍ في الدماغ وأنها في غيبوبة. في اليوم التالي تجمع الأهل والأصحاب وابني وابنتي الصغرى حولها، كلنا كنا حولها، أصابني انهيارٌ وبكيتُ بحرقةٍ، وليس في ذهني إلا سؤالان: ماذا فعلتُ بها؟ وبأي حقٍ؟ كنتُ بجانبها أتلو القرآن، فجأةً فتحت عينيها أمام الجميع ورأتني فقالت بصوتٍ خافتٍ: "ظلمتيني يا أمي، والله سيأخذ حقي، ألقاك يوم الحساب" ثم نطقت بالشهادتين وشهقت ولفظت أنفاسها الأخيرة وماتت. صُعق الأطباء من يقظتها؛ فهي ميتةٌ دماغياً، لكني عرفتُ بأن الله أيقظها لتقول لي ما قالت، ويا ويلي من ربي؛ فقد قتلتُ ابنتي مرتين؛ مرةً حين ظلمتها، ومرةً حين تسببتُ في وفاتها.

صُعقت أنا وانهرت، ماذا فعلتُ بابنتي؟ ظلمتها وحرمتها من أبسط حقوقها وهو الزواج، وتسببتُ بموتها، والمصيبة الأكبر ما قالت، سوف يعاقبني الله، وأي عقابٍ، يا رب سامحني، يا رب اغفر لي.

بقيتُ وحدي، ماتت ورحلت إلى الأبد، يا ليتني تركتها تتزوج، لكنتُ أراها كل فترةٍ وأحتضن أطفالها الذين كانت تحلم بهم، وما كانت ستقصر معي؛ فهي بنتٌ تقيةٌ نقيةٌ حنونةٌ، لكني لم أحفظ هذه النعمة. حرمتها من حياتها فحرمني الله منها إلى الأبد. الكل احتقرني على فعلتي بها بعد أن أخبرتَهم هي عن السبب قبيل موتها.

هذه جريمتي باختصار، أنا لا أنام الليل وأنا أراها أمامي في لحظاتها الأخيرة، أدعو لها وأدعو أن يرحمني ربي، لم أكن أماً صالحةً معها أبداً.

قررتُ نشر قصتي لينتبه الآباء والأمهات فلا يظلمون أبناءهم. البِر ليس مطلوباً من الأبناء تجاه والديهم فقط، بل أيضاً البِر مطلوبٌ من الوالدين تجاه أبنائهم أيضاً. الدنيا لا تستحق، لقد ظلمتُها وظلمتُ نفسي ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾.

 

أحبتي في الله .. يقول العلماء إنه ينبغي أن يعلم الابن أن حق الوالدين عظيم، قد ذكره الله تعالى في القرآن في عدة مواضع قارناً إياه بالتوحيد؛ كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم البر بالوالدين مقدماً على الجهاد؛ فلما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أَيّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ قال: [الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا]، [ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ]، [ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ]. وينبغي أن يعلم الابن أن بره بوالديه ليس بمقتضى عقدٍ يقابَل به حقٌ بحق، وواجبٌ بواجب، بل هو مأمورٌ ببرهما على أية حال، فيُحسن إليهما وإن أساءا، ويصلهما وإن قطعا، ويعطيهما وإن منعا. غير أن هذا لا يعني أنه ليس على الوالدين واجبٌ تجاه أبنائهما، فعليهما أن يُحسنا تربيتهم، ويعلماهم صلة الرحم، ويكونا قدوةً لهم في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فضلاً عن النفقة عليهم، فإن قصَّرا في ذلك، فإنهما سيريا أثر تقصيرهما لا محالة؛ يقول تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

 

وحذرت الشريعة الإسلامية الآباء من عقوق أبنائهم؛ حيث قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [ألا كُلّكُم راعٍ، وكلّكُم مسئولٌ عن رعيّتهِ]، وممن خصَّهم في هذا الحديث [والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ، وهو مسئولٌ عنهم].

ومن (عقوق الآباء) عدم وفائهم بحقوق أبنائهم؛ ومنها: اختيار الأسماء الحسنة لهم، وتعليمهم، والإحسان إليهم في المعاملة. وكذلك العدل بينهم؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [اتَّقوا اللهَ، واعْدِلُوا بينَ أولادِكمْ، كما تحبونَ أن يَبَرُّوكُم]. والنفقة عليهم، وحُسن تربيتهم؛ بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. كما أن اختيار الأمّ الصالحة ذات الدين هي حقٌ من حقوق الأبناء.

 

ويرى أهل العلم أنّ (عقوق الآباء) لأبنائهم من أمراض المجتمع التي لا بُد من الانتباه إليها. ويظهر العقوق في صور عديدة؛ منها: التفرقة في المعاملة، والاستبداد بالرأي خاصةً فيما يتعلّق بمستقبل الأولاد كاختيار التخصص الذي سيدرسونه، أو تزويج الفتاة دون رضاها. كما يظهر في الاهتمام بطعام الأبناء وشرابهم على حساب تربيتهم؛ فيهمل الآباء تربية أبنائهم بحجة الانشغال بجمع الأموال لتحسين حياتهم، رغم أن التربية أهمّ من الحرص على جمع المال. ومن صور (عقوق الآباء)؛ الدعاء على أبنائهم، وكَيْل السباب لهم في كل صغيرةٍ وكبيرة، وتعنيفهم بدنياً ولفظياً. والغريب أن يتوقع مثل هؤلاء الآباء من الأبناء أن يكونوا بارين بهم!

 

ومما يُروى عن (عقوق الآباء) أنه جاء رجلٌ في أحد الأيام لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو عقوق ابنه، فطلب عمر إحضار الولد، فلّما جاء أنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوقٌ على أبيه؟ فقال: نعم، فقال الولد: فما هي يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: أن يُحسِن اختيار أمه، ويُحسِن تسميته، ويعلمه القرآن الكريم، فقال الولد: فإنّ أبي لم يفعل شيئاً من ذلك؛ تزوج من زنجيةٍ كانت لمجوسيٍ فأنجبتني، وسمّاني جُعلاً "أي خنفساء"، ولم يُعلمني حرفاً واحداً من القرآن. فنظر عمر بن الخطاب إلى الرجل وقال له: "جئتني تشكو عقوق ولدك، وقد عققتَه قبل أن يعقّك، وأسأتَ إليه قبل أن يسيء إليك".

 

ورد في الأثر: "أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلةٌ، وسماءٌ ظليلة، وبهم نصول عند كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودَهم، ويحبّوك جهدَهم، ولا تكن عليهم قفلاً فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك".

 

أحبتي .. ليس أبغض من عقوق الأبناء إلا (عقوق الآباء). وما أحمق الوالد الذي يُهين أبناءه، ويُسيء معاملتهم، ويُضيِّع حقوقهم ويظلمهم؛ فما أعجل عقوبته في الدنيا، يُسلط الله تعالى عليه من يُهين كرامته، وربما حصل له ذلك من أبنائه أنفسهم، فيرى منهم ما يكره في كبره ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾؛ فالظلم من الذنوب المعجلة عقوبتها في الدنيا، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. فلنحسن معاملة أبنائنا ولا نعقهم، ونعزِّز في نفوسهم مكارم الأخلاق؛ لنجدهم أكثر بِراً بنا وأعظم إحساناً إلينا.

اللهم اجعلنا وأبناءنا متحابين، محافظين على حقوق بعضنا بعضاً، واجعلنا اللهم أقرب ما نكون من البِر والإحسان، وأبعد ما نكون عن العقوق والخسران.

 

https://cutt.ly/Xggm1lq