الجمعة، 16 يونيو 2023

عسَّلكَ الله

 خاطرة الجمعة /400

الجمعة 16 يونيو 2023م

(عسَّلكَ الله)

 

قلتُ لصديقٍ كان يُحدثني عن عمل خيرٍ وفقه الله للقيام به: (عسَّلكَ الله)، فتعجب من هذه العبارة وسألني: "أتقصد أن يزيدني الله حلاوةً كحلاوة العسل؟"، قلتُ له: "لفظ "عسّل" له علاقةٌ بهذا المعنى، أما العبارة كاملةً فلها معنىً آخر"، تساءل مُتلهفاً: "ما هو يا ترى؟"، قلتُ له اسمع أولاً هذه القصة، ثم نُكمل حديثنا عن معنى (عسَّلكَ الله) بعدها.

ورويتُ له القصة التالية، وهي قصةٌ حقيقيةٌ يرويها سائق سيارة أُجرة سعوديٌ يقول: أوقفني مجموعةٌ من الشباب في «الرياض» يُريدون الذهاب إلى المنطقة الشرقية، ونحن في الطريق وقفنا عند محطة بنزين، وكان وقت صلاة العصر، فقلتُ لهم: "ما رأيكم يا شباب نُصلي العصر؟"، فقال أكبرهم: "نحن لا نُصلي". يقول السائق: وقعت هذه الكلمات على أُذنيّ كالصاعقة؛ فقلتُ: "يا شباب هل هناك مُسلمٌ لا يُصلي؟ مهما عظمت ذنوبنا أو قصّرنا فهذا لا يمنعنا من الصلاة"، فكّر كبير الشباب قليلاً فيما قاله السائق ثم قال لأصحابه: "ما رأيكم يا شباب ننزل نُصلي؟". يقول السائق: فنزلنا فقدموني فصليتُ بهم العصر ركعتين لأننا على سفرٍ، فلما انتهيتُ التفتُ فوجدتُ كبيرهم الذي قال "نحن لا نُصلي" وجدتُه ساجداً، فصار أصحابه يُمازحونه "أصبحتَ شيخاً؟" فحركوه فإذا هو ميتٌ، أصحابه كلهم لم يُصدقوا؛ يظنون أنه يمزح، أحدهم رشّ على وجهه الماء، والآخر وضع أذنه عند قلبه، وبدأ البكاء يضج في المسجد، حتى اجتمع المُصلون حولنا. يقول السائق: وكان من بين الشباب شابٌ يصيح مثل صياح الطفل، علمتُ أنه الأخ الأصغر للشاب المتوفى، فذكّرتُه بالله، وقلتُ له: "لا تحزن؛ أخوك مات وهو ساجدٌ وسيُبعث ساجداً"، فقال الشاب: "والله لا أبكي لموت أخي، ولكني أبكي لأننا منذ خمسة عشرة سنةً لم نسجد لله سجدةً واحدةً، لا أنا ولا أخي". يقول السائق: "يا سُبحان الله؛ لم يسجد لله كل هذه السنوات ثم يقبض الله روحه وهو ساجدٌ! الله أكبر، الله رحيمٌ بعباده. اللهم ارزقنا حُسن الخاتمة".

 

أحبتي في الله.. قال لي صديقي: "أعتقد أن (عسَّلكَ الله) لها علاقة بحُسن الخاتمة؛ أليس كذلك؟"، قلتُ: "بلى، ولتأكيد هذا المعنى إليك القصة التالية:

‏وهي قصةٌ تدمع لها العيون. قصةٌ واقعيةٌ حقيقةٌ، عن أختٍ فاضلةٍ كانت مديرةً لدار تحفيظٍ للقرآن الكريم، كانت تُحوَّل جميع جلساتها الاجتماعية سواءً مع اﻷسرة أو في العمل أو في اللقاءات المُختلفة -أياً كان نوعها- إلى وقفةٍ مع آيةٍ من كتاب الله، أو درسٍ قُرآنيٍ، أو مُعجزةٍ من مُعجزات كتاب الله الكريم. أُصيبت بجلطةٍ، وأُدخلت على أثرها إلى المستشفى. تحكي صديقةٌ لها عنها فتقول: إنها وقت أن تكون مُحررةً من اﻷجهزة والمُغذيات تمر على غُرف المستشفى غُرفةً غُرفةً تدعو إلى درسٍ قُرآنيٍ في غُرفتها، وإن كانت الأجهزة مُعلقةً تستخدم الهاتف الداخلي للغُرف وتدعو مَن في الغُرف لحضور درسها القُرآني. كانت حافظةً للقرآن الكريم، اتصلت بها يوماً للاطمئنان عليها، فطلبت منها طلباً؛ قالت: "أرغب بأن تُراجعي لي القُرآن"؛ فقد كانت تخشى أن تموت نتيجةً لمرضها وهي غير مُتمكنةٍ منه، قالت صديقتها: "أبشري، سأتصل بك يومياً وأُسَّمِع لكِ"، قالت لها: "ﻻ ﻻ، أرغب بحضورك عندي بالمُستشفى، وتُراجعي لي عن قُربٍ؛ لأستشعر حلقة التحفيظ وأعيش أجواءها"، وافقت صديقتها على طلبها، وكانت تأتي لزيارتها يومياً من العصر إلى العشاء، تُراجع معها القُرآن. دخل شهر رمضان عليها وأمرها اﻷطباء باﻹفطار، قالت: "لا والله، ما أُفطر نهار رمضان أبداً"، قال اﻷطباء: "ستهلكين!!"، قالت: "لا والله، لا أستطيع اﻹفطار في نهار رمضان". في اليوم الثاني من رمضان وافتها المنية، ووقت احتضارها كانت صديقتها بجوارها، تقول الصديقة: "بدأت تحتضر ولسانها يلهج بآية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ بدأ صوتها يعلو ويعلو وهي تُردد هذه اﻵية، وصلت إلى أعلى حدٍ من الصوت وهي تُرددها، ثم بدأ صوتها ينخفض رُويداً رُويداً وهي ما زالت تُرددها حتى فارقت الحياة. فارقت الحياة وهي ممسكةٌ بالمُصحف بكلتا يديها. نُقلت إلى مغسلة اﻷموات، حاولوا في المغسلة أن يفكوا المُصحف من بين يديها لم يستطيعوا، اتصلتُ على شيخٍ معروفٍ وأخبرته عن ذلك، قال الشيخ: مُستحيل مُستحيل، لن أصدق حتى أراها، قلتُ له: تعال وانظر بنفسك". لما حضر الشيخ حجّبوها ودخل؛ فما إن رأى الموقف حتى برك على رُكبتيه باكياً، وقال: "والله إنها لهذه هي الخاتمة الحسنة، غسِّلوها وكفِّنوها وادفنوها بمُصحفها"، وفعلاً غسَّلوها وكفَّنوها ودفنوها بمُصحفها.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أراد اللهُ عزَّ وجلَّ بعبدٍ خيرًا عسَّلهُ، وهل تَدْرونَ ما عسَّلَهُ؟]، قالوا: اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُهُ أعلمُ، قال: [يفتَحُ اللهُ عزَّ وجلَّ له عملًا صالحًا بيْنَ يَدَيْ موْتِهِ حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ]. من هنا كان الدُعاء بعبارة (عسَّلكَ الله) يعني تَمَنّي حُسن الخاتمة.

يقول العُلماء إن قوله صلى الله عليه وسلم: "عسَّلَه" أي: جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعامُ، وكما يُقال: فلانٌ معسول الكلام، إذا كان حُلو المنطق، مليح اللفظ، حسن المعنى. وأمارة التعسيل أن يرضى عنكَ مَنْ حولكَ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: [حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ].

 

وفي روايةٍ قال عليه الصلاة والسلام: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ]، فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: [يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ].

وفي روايةٍ أخرى قال صلى الله عليه وسلم: [إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا طهَّرَهُ قبلَ موتِه]، قالُوا: وما طَهُورُ العبدِ؟ قال: [عملٌ صالِحٌ يُلهِمُهُ إيّاهُ حتى يَقبِضَهُ عليهِ].

 

وسواءً كان اللفظ "عسَّلَه" أو "استعمله" أو "طهَّره" فإن المعنى هو حُسن الخاتمة، أي أن يُوفَق العبد قبل موته للبُعد عما يُغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة. إنه توفيق من الله سُبحانه وتعالى للعبد لعملٍ صالحٍ يقبضه ويتوفاه عليه؛ مِن ذلك مَن مات وهو ساجدٌ بين يدي الله، أو من ماتت وهي في الحج مُلبِّيةً، أو من مات وهو يقرأ القُرآن. إنها النهاية السعيدة، وإنه حُسْنُ الختام، أراد الله لعبده خيراً؛ لأنه أرى اللهَ من نفسه خيراً.

 

قال أحد السلف: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل". وقال آخر: "إذا أراد الله بالإنسان خيراً، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه". وقال غيرهما: "إذا أراد الله بعبده خيراً، فتح له أبواب التوبة، والندم، والانكسار، والذُل، والافتقار، والاستعانة به، وصِدْق اللجوء إليه، ودوام التضرُّع والدُعاء، والتقرُّب إليه بما أمكنه من الحسنات، ورؤية عيوب نفسه، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه ورحمته، وجُوده وبِرِّه".

 

ويقول أهل العلم إن من أعظم أسباب "التعسيل" و"الاستعمال" و"التطهير" قبل الخاتمة أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه، ويحذر من ارتكاب المُحرمات، ويُبادر إلى التوبة من السيئات. وأن يُلِّح المرء في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى. وأن يعمل جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه، وأن تكون نيته متوجهةً لتحقيق ذلك بإخلاص.

ومن ذلك الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وحُسن الظن بالله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي]. والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. والصدق؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. والتوبة؛ يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والمُداومة على الطاعات. وذِكر الموت وقصر الأمل. والخوف من أسباب سُوء الخاتمة؛ كالإصرار على المعاصي وتسويف التوبة وحُب الدنيا.

 

أحبتي.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه]، ويُقال إن العبرة بالخواتيم؛ لهذا يجب أن يحرص كلٌ منا على أن يُبعث على أحسن حالٍ يتمنى أن تكون خاتمته عليه. ليس المهم ما كُنا عليه، ولا ما نحن عليه الآن، وإنما المهم ما سنكون عليه ونثبت عليه -بإذن الله- حين نعمل بإخلاص لأن نحظى بحُسن الخاتمة. نسأل الله سبحانه وتعالى حُسن الخاتمة.

اللهم عسِّلنا واستعملنا وطهِّرنا قبل أن تقبضنا إليك، ووفِّقنا للسعي إلى مرضاتك، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا.

وأختم بدعوةٍ مني لكل واحدٍ منكم: (عسَّلكَ الله)، برجاء أن تردوا عليّ بمثلها.

أحسَن الله خاتمتنا، وجمع بيننا في الفردوس الأعلى من الجنة، مع النبيين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً.

https://bit.ly/43Hjoq5