الجمعة، 10 نوفمبر 2017

يُمهل ولا يُهمل/1

الجمعة 10 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٨
(يُمهل ولا يُهمل)

هزتني قصةٌ تتناقلها المواقع على شبكة الإنترنت عن رجلٍ كان يعمل جزاراً في أحد المناطق، وكان كل يومٍ يقوم بذبح المواشي ليبيعها للناس، وفي أحد الأيام بينما كان يسير إلى عمله وجد امرأةً في الشارع مطعونةً بسكينٍ في بطنها، فهُرع إليها على الفور يحاول أن يساعدها فأخرج السكين منها حتى تأتي سيارة الإسعاف وتنقلها للمشفى، لكن قبل أن تأتي سيارة الإسعاف تجمع الناس ورأوا السكين في يده ملوثةً بالدماء فاتهموه بقتل هذه المرأة وأبلغوا الشرطة، أخذ الرجل يُقسم لهم أنه ليس الفاعل لكنهم لم يصدقوه. أخذت النيابة تحقق معه واستمعت إلى شهود العيان كما تلقوا من الطب الشرعي تقريراً يفيد بوجود بصماته على سكينٍ وأن هذه السكين هي أداة الجريمة؛ فحُكم عليه بالإعدام. ويوم تنفيذ الحكم قال الرجل: "أريدكم أن تسمعوني فهذا كلامي الأخير قبل أن تعدموني"، وبدأ الرجل يحكى قصته: قال إنه كان يمتلك قارباً يعمل عليه في البحر قبل أن يصبح جزاراً، وفي يومٍ ركبت معه امرأةٌ شابةٌ جميلةٌ أعجبته بشدةٍ وقرر التقدم لخطبتها، وفعلاً ذهب إلى بيتها لكنها رفضت الزواج منه، فظل الحقد داخل قلبه تجاهها، وبعد سنةٍ ركبت هذه المرأة الشابة معه وكان معها طفلها الصغير وكانت لا تتذكره، لكنه تذكرها وعرفها، فحاول أن يعتدي عليها لكنها رفضت وقاومته، فهددها بطفلها فأخذت تبكي وترجوه ألا يؤذي طفلها، وازدادت تمسكاً بالمقاومة، فوضع الرجل رأس الطفل في الماء وهو يصرخ حتى انقطع صوته ومات فرمى به في البحر، وبعد ذلك قام بقتل المرأة وباع القارب واتجه للعمل بالجزارة .. يقول الرجل: "ها أنا ذا ألقى جزائي عن تلك الجريمة، لكن عليكم أن تبحثوا عن القاتل الحقيقي هذه المرة لتقتصوا منه، فإن لم تجدوه فسيلقى جزاءه أيضاً ذات يومٍ؛ فالله عز وجل عادلٌ (يُمهل ولا يُهمل).

أحبتي في الله .. يقول العلماء إن الله تعالى يُمهل مَن عصاه، ويُملي له، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإن استمر في طغيانه كان ذلك استدراجاً من الله تعالى له، ولكن الله تعالى لا يُهمله.
قد يغتر الظالم بظلمه سنواتٍ، يظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له، يتمادى الظالم في غِيه وجبروته، وينسى أن الله (يُمهل ولا يُهمل)، ينسى كيف انتهى الجبابرة الطغاة الظالمون، وكيف انتهى الأكاسرة والقياصرة والفراعنة، وكأنه لم يسمع قول الشاعر:
وَأَيْنَ مَنْ دَوَخُوا الدُنْيا بِسَطْـوَتِهم
وذِكرُهم في الوَرَى ظُلمٌ وطُغْيانُ
أَيْنَ الجبـابرةُ الطاغونَ وَيْحَهمُـوا
وَأَيْنَ مَنْ غَــرَّهُم لَهْوٌ وسُلْطانُ
هل خلَّدَ الـمـَوْتُ ذَا عِـزٍ لعِــزَتـِهِ
أَوْ هَلْ نَجَى مِنْه بالسُلْطانِ إنْسانُ
لاَ وَالَذِي خَلَقَ الأَكْوَان مِـنْ عَـدمٍ
الكلُ يَفْنى فَـلا إِنْسٌ وَلاَ جَانُ
إن الله سبحانه وتعالى يُمهل الظالم إلى وقت عذابه لكنه لا يُهمله؛ قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. إن الظلم مرتعه وخيمٌ، ودعاء المظلومين مستجابٌ ولو بعد حينٍ، والله سبحانه وتعالى (يُمهل ولا يُهمل).
يُقال أن الظلم هو مجاوزة الحد، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فكل ذنبٍ عُصي الله به، سواءً كان شركاً بالله أو دون ذلك من المعاصي ومظالم العباد، فهو داخلٌ في هذا الحد. هذا الظلم الذي تفشى في العالم اليوم على مستوى الأمم والأفراد، يتناقض وما أمر الله به: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فهو سبحانه لا يرضى عن الظلم: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾، بل إنه سبحانه قد حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا»، وبيَّن أن مصير أهل الظلم الحرمان من الفلاح: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، ثم إنه توعدهم بالويل والعذاب فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾، وهددهم بسوء العاقبة: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾، وأبعدهم عن رحمته فقال: ﴿فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، بل إنه سبحانه لعنهم: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ويكفي في ذم هؤلاء قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾. وقال عليه الصلاة والسلام: [اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة]، ولما بعث حبيبه معاذاً إلى اليمن أوصاه وقال له: [واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. وهذا تحذيرٌ من العزيز الجبار لأهل كل قريةٍ أو مدينةٍ تفشى فيها الظلم: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء﴾ وعيدٌ شديدٌ للظالمين، وتسليةٌ للمظلومين، والله عز وجل إليه المآب، ولو تمتع الظالم في الدنيا قليلاً فإن المصير عند الله بئيس: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾. والله (يُمهل ولا يُهمل)، يُمهل الظالم ولا يُهمله حتى إذا أخذه لم يفلته: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، قال ابن عباسٍ رضي الله عنه عن هذه الآية: "يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه، وسيُعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور"، فلا يعذب أحداً بغير ذنبٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.
وهذه الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ تبث السكينة والطمأنينة في قلب كل مسلمٍ، لأنه يثق أن للكون ربٌ يدبِّر الأمر فيه، ويراقب أفعال العباد، ثم يجازيهم عليها في الدنيا قبل الآخرة، وأنه لا يَفلت أحدٌ من العباد من عواقب عمله، فمن عمل خيراً جازاه، ومن بغى واستطال أمهله ثم أخزاه.
يقول أهل العلم أن من اعتبر بأحوال العالم قديماً وحديثاً، وما يُعاقَب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حقٍ وأقام الفتن واستهان بحرمات الله؛ علم أن النجاة في الدنيا والآخرة ﴿لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، وتيقن من عدل الله سبحانه وتعالى؛ مصداقاً لقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمْهُم﴾ أي ما ينبغي ولا يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فالظالمون أشغلوا أنفسهم بالشهوات والمعاصي، فضروها من حيث ظنوا أنهم ينفعونها.
ومما أورده الفقهاء في عقاب الظالمين أن بعض العقوبات تأتي فرادى، ويأتي غيرها للمجموع، منها ما يطال الظالم في حياته، في نفسه وجسده وما ملك وماله وولده، ومنها ما يدركه بعد مماته، طال الزمن أم قصر، نسي الإنسان أو عجز، فلا شيء يُنسى، ولا شيء يُترك، وكل شيءٍ محفوظٌ. رب العالمين لا يُهمل أحداً، ولا يحنث في وعده، ولا يتخلى عن المظلومين أياً كانت ملتهم، فهذه سُنته في خَلقه، وقانونه بين البشر، إنَّ أمره إذا جاء لا يرده أحدٌ، ولا يقوى على منعه بشرٌ، لا يتأخر عقابه لمن ظَلم، ولا يتأخر ثأره ممن بَغى وتجبر، إنه يُمهل ويزيد في الأمل، ولكنه سبحانه لا يُهمل، ولا ينسى ولا يدع، يترك الإنسان في غِيه سادراً لا يعي ولا يتدبر، يصبر عليه ويتركه، ويحلُم في التعامل معه ولا يعاجله، ولكن إذا جاء وقت العقاب فإن أخذه أليمٌ شديدٌ، وانتقامه انتقام العزيز الجبار.
ومن لطف الله بعبده الظالم أنه يمهله لعله يتوب، ويؤخره لعله يُقلع، فإذا ما تمادى في ظلمه فربما أخَّره ليزداد في الإثم؛ ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ؛ لأنه قد استحق العقوبة؛ يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ما زلت أسمع عن جماعةٍ من الأكابر وأرباب المناصب أنهم يشربون الخمور، ويفسقون، ويظلمون، ويفعلون أشياء تُوجب الحدود، فبقيت أتفكر أقول: متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً؟ فلو ثبت فمن يقيمه؟ وأستبعد هذا في العادة؛ لأنهم في مقام احترامٍ لأجل مناصبهم، فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم؛ حتى رأيناهم قد نُكبوا، وأُخذوا مراتٍ، ومرَّت عليهم العجائب، فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأُخذت منهم الحدود مضاعفةً بعد الحبس الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم، وفيهم من قُتل بعد ملاقاة كل شدة، فعلمت أنه ما يُهمَل شيءٌ، فالحذر الحذر، فإن العقوبة بالمرصاد".
يقول الشاعر:
لا تَظلِمَن إذا ما كُنتَ مُقتَدِرا
فالظُّلمُ تَرجِعُ عُقباهُ إلى النَدَمِ
تَنامُ عَينُكَ والمَظلومُ مُنتَبِهٌ
يَدعو عَليكَ وعَينُ اللهِ لَم تَنَمِ

أحبتي .. حذر الله سبحانه وتعالى من الظلم وبيَّن عظيم جرمه، وجسامة خطره، وبيَّن عاجل عقوبته، فالله سبحانه يُملي ويُمهل للظالم فإذا أخذه لم يُفلته، وقد بين الحق تبارك وتعالى أن كيده متين، أي قويٌ شديدٌ فلا يُدفع بقوةٍ ولا حيلةٍ؛ يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن عاقبة الظلم وخيمةٌ، وعاقبة العدل كريمةٌ، ولهذا يُروىَ أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنةً". ويقول أيضاً: "إن جِماع الحسنات العدل، وجِماع السيئات الظلم وهذا أصلٌ جامعٌ عظيم". قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. والظالمون مع ممارستهم للظلم قد أمنوا مكر الله، لكن الله عدلٌ ﴿لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. لو عقل هؤلاء الظلمة عاقبة ما هم فيه وكانوا عليه، لما حل بهم ما حل، ولكنها سُنة الله في الظالمين؛ كم من مظلومٍ ظُلم، ومقهورٍ قُهر، وضعيفٍ سُلب، وشريفٍ أُهين، فحاق بالظالمين دعاءُ المظلومين، وتضرُعُ المقهورين، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
فالحذر الحذر أحبتي من الظلم في كل مجال: في العمل، في الأسرة، في البيع والشراء، في علاقاتنا مع غيرنا، في تعاملاتنا وعقودنا ووعودنا.
الله نسأل أن يتوب علينا، وألا يؤاخذنا بسوء فعالنا، ولا بما فعله السفهاء منا.
ونصيحةٌ للغافلين ممن لا يَظلمون لكنهم يدعمون الظالمين ويؤيدون أفعالهم ويبررونها لهم ويدافعون عنهم ويجعلون من أنفسهم أبواقاً لشرعنة ظلمهم، إلى هؤلاء أذكرهم بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾، إنه نهيٌ صريحٌ يعقبه تهديدٌ بعقابٍ شديدٍ ووعيدٍ من الله عز وجل، فهلا تداركتم أنفسكم من قبل أن تمسكم النار؟ هلا انتبهتم أنكم تبيعون دينكم وآخرتكم بدُنيا يصيبها غيركم؟ هل منكم من مُتعظٍ أو مُذَّكِر ليتذكر أن الله (يُمهل ولا يُهمل)؟ أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله.
لله درك يا شيخنا حين قلت: "إن لم تستطع قول الحق فلا تُصفق للباطل".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/Sqd4Df