الجمعة، 27 ديسمبر 2019

زهوة الانتصار


الجمعة 27 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٩
(زهوة الانتصار)

تحكي إحدى السيدات قصتها فتقول: منذ ثلاثين عاماً كنتُ فتاةً غريرةً وزوجةً حديثةً أرفع شعارات تحرير المرأة، وأرى الزواج مجرد إجراءٍ اجتماعيٍ لا يترتب عليه أية واجبات، وشاء الله أن أقيم مع حماتي حتى يوفر لي زوجي سكناً مستقلاً بالمواصفات التي أريدها، وكانت السنوات التي عشتها مع حماتي هي أسوأ سنواتٍ عاشتها تلك السيدة الصابرة، وكنتُ أنا للأسف سر هذا السوء؛ فقد أعطيتُ أذني لنصائح الصديقات بأن أُظهر لها العين الحمراء منذ البداية، ولذلك قررتُ أن أحدد إقامة حماتي داخل حجرتها، وأتسيد بيتها وأعاملها كضيفةٍ ثقيلة! كنت أضع ملابسها في آخر الغسيل، فتخرج أقذر مما كانت، وأُنظف حجرتها كل شهرٍ مرة، ولا أهتم بأن أُعد لها الطعام الخاص الذي يناسب مرضها، وكانت كجبلٍ شامخٍ تبتسم لي برثاءٍ، وتقضي اليوم داخل حجرتها تُصلي وتقرأ القرآن، ولا تغادرها إلا للوضوء، أو أخذ صينية الطعام التي أضعها لها على منضدةٍ بالصالة وأطرق بابها بحدةٍ لتخرج وتأخذها! وكان زوجي مشغولاً في عمله؛ لذلك لم يلاحظ شيئاً، ولم تشتكِ هي له، بل كانت تجيبه حين يسألها عن أحوالها معي بالحمد، وهي ترفع يديها إلى السماء داعيةً لي بالهداية والسعادة. ولم أُجهد نفسي كثيراً في تفسير صبرها وعدم شكايتها مني لزوجي، بل أعمتني ( زهوة الانتصار) عن رؤية الحقيقة حتى اشتد عليها المرض، وأحست هي بقرب الأجل فنادتني وقالت لي وأنا أقف أمامها متململةً: "لم أشأ أن أرد لك الإساءة بمثلها حفاظاً على استقرار بيت ابني، وأملاً في أن ينصلح حالك، وكنت أتعمد أن أُسمعكِ دعائي لكِ بالهداية لعلك تراجعين نفسك، دون جدوى، ولذلك أنصحك – كأم – بأن تكفي عن قسوتك، على الأقل في أيامي الأخيرة لعلي أستطيع أن أسامحك". قالت كلماتها وراحت في غيبوبة الموت، فلم تر الدموع التي أغرقت وجهي، ولم تحس بقبلاتي التي انهالت على وجهها الطيب، ماتت قبل أن أريها الوجه الآخر، وأكفر عن خطاياي نحوها، ماتت وزوجي يظن أنني خدمتها بعيني.
وكبر ابني وتزوج ولم يستطع توفير سكنٍ خاصٍ فدعوته للعيش معي في بيتي الفسيح الذي أعيش فيه وحدي بعد وفاة أبيه فاستجاب؛ ودارت عجلة الزمن فعاملتني زوجته بمثل ما كنت أعامل حماتي من قبل، فلم أتضجر، لأن هذا هو القصاص العادل والعقاب المعجل، بل ادخرتُ الصبر ليعينني على الإلحاح في الدعاء بأن يغفر الله لي، ويكفيني شر جحيم الآخرة لقاء جحيم الدنيا الذي أعيش فيه مع زوجة ابني، ويجعلني أتحمل غليان صدري بسؤالٍ لا أملك له إجابةً: هل سامحتني حماتي الراحلة؟ أم أنها علقت هذا السماح على تغيير معاملتي لها، هذا التغيير الذي لم يمهلني الله لأفعله؟

أحبتي في الله .. ليست هذه السيدة هي وحدها التي أعمت (زهوة الانتصار) بصيرتها .. فكم من قويٍ غرته قوته فاعتدى على ضعيف، وكم من غنيٍ أكل مال فقير، وكم من صاحب سطوةٍ ونفوذٍ استولى على حق مسكين، وكم من رجلٍ حرم امرأةً من إرثها، وكم من زوجٍ تلذذ بقهر زوجته، وكم من مديرٍ تمادى في ظلم مرؤوسيه، وكم من مسئولٍ شقَّ على مراجعيه، هؤلاء جميعهم وأمثالهم غرتهم (زهوة الانتصار) وأدارت نشوة النصر - كما الخمر - رؤوسهم، وأعمت بصائرهم فظنوا أن الحياة دانت لهم، وأنهم الأعلى والأعلم والأقوى والأذكى والأغنى والأفضل، وأن لا رقيب عليهم، ولا حسيب يرصد أعمالهم ليحاسبهم عليها؛ لقد ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾، فنسوا ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، ونسوا الحكمة المأثورة "إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".
كم من ظالمٍ أعمته (زهوة الانتصار) فظلم وطغى وبطش ونكَّل وخاصم وفجر واستعلى وعاث في الأرض فساداً، وتمادى في ظلمه، وهو يظن أنه على الحق المبين! وأن ما يفعله هو عين العدل! لم يدرِ بأن الأيام دُوَلٌ، ولم يدرِ أن الله سبحانه وتعالى يُمهل ولا يُهمل، ولم يدرِ أن دعوة المظلوم تشق عنان السماء وليس بينها وبين الله حجاب، وأن ما يرزقه الله به من مزيد قوةٍ وسلطةٍ ما هو إلا استدراجٌ يأتي من بعده الأخذ ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. ولم يدرِ مَن أعان الظالم على ظلمه ولو بكلمةٍ، ومَن ركن إليه فمال له بقلبه، أنهم مشمولون بوعيد الله لهم بأن تمسهم النار؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
أين هؤلاء جميعاً من فرعون حينما غرته قوته فقال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾! بل وحث قومه على ألا يتبعوا دين الإسلام الحق الذي كان يدعو إليه موسى عليه السلام؛ فقال عنه: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾! ووصلت (زهوة الانتصار) به إلى ذروتها حين قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾!. تعامل فرعون مع قومه باستعلاءٍ واستخفاف ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ لماذا أطاعوه؟ لأنهم ﴿كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، فماذا كانت النتيجة؟ ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾. أين هؤلاء من فرعون وجنوده وهم يطاردون موسى ومن آمن معه من المسلمين يدفعونهم دفعاً نحو البحر، ألم تتملكهم (زهوة الانتصار) حتى من قبل أن يحققوه ظانين أنهم هم الغالبون لا محالة؟ فماذا كان مصيرهم؟ يقول تعالى: ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. هل نفعت فرعون قوته وكثرة عتاده وجنوده؟ هل نفعه الملأ المنافقون من حوله؟ هل نفعه القوم الفاسقون الذين استخف بهم فاتبعوه؟ لا واللهِ لم ينفعه من ذلك شيءٌ حينما جاء أمر الله.
إن انتصار القوي على الضعيف بالقهر والإذلال والطغيان بغير حقٍ، هو انتصارٌ زائفٌ، أبعد ما يكون عن النبل، وأقرب ما يكون من الخسة والدناءة.

ولعل من أكثر حالات الظلم إيلاماً ظلم ذوي القربى؛ حينما يظلم الأب أبناءه، أو يظلم الابن أباه أو أمه، أو يظلم الأخ إخوانه وأخواته؛ يقول الشاعر:
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً
عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

ألا يخشى الظالمون عذاب الله؟ ألا يخشون توعده لهم بالعذاب الأليم؟ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ويقول سبحانه واصفاً لحظات احتضارهم بعذاب الهون: ﴿وَلَو تَرى إِذِ الظّالِمونَ في غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ﴾.
ويقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محذراً من عقاب الظالمين في الآخرة: [اتقوا الظلمَ، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ]، ويقول صلّى الله عليه وسلّم عن عقابهم في الدنيا: [بابانِ مُعجَّلانِ عُقوبتُهما في الدنيا: البَغْيُ، والعقُوقُ].

أحبتي .. سيأتي - لا محالة - يومٌ يتجرع فيه الظالم من ذات الكأس التي كان يُجبر مَن ظَلمهم على الشرب منها. فإلى متى الغفلة؟! كم من مثالٍ من أمثلة الظلم والظالمين ضربه الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم، وكم من مرةٍ دعانا فيها للاتعاظ مما آل إليه مصيرهم، وكم من دعوةٍ لنا للاعتبار ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى﴾، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
إن الذين غرتهم الحياة الدنيا، وتملكتهم (زهوة الانتصار) فذهبت بعقولهم، يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، فهل من متعظ؟
اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يعينونهم ويؤيدونهم، ولا ممن يرضون بأفعالهم ويتغاضون عن الظلم فقط لأنه وقع بغيرهم! وأعنا اللهم على رد المظالم إلى أصحابها كلما استطعنا ذلك.
اللهم لا تجعل الدنيا في قلوبنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعلها كل همنا، واجعلها اللهم مزرعةً لنا لآخرتنا، التي فيها معادنا، وإليها إيابنا، وبها خلودنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

http://bit.ly/35ZFoyQ