الجمعة، 8 ديسمبر 2017

موت الظالم عبرة لمن يعتبر

الجمعة 8 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٢
(موت الظالم عبرة لمن يعتبر)

كان يا ما كان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، عاش أهل قريتنا يوماً مشهوداً؛ فقد مر بأزقة البلدة وحواريها منادٍ ينادي أن قد مات فلانٌ. وما أداركم مَنْ فلانٌ، ندعو له بالرحمة فهو الآن في ذمة الرحمن إن شاء عذَّبه لما اقترفت يداه من خطايا وآثام، وإن شاء غفر له وهو الغفور الرحيم المنان. فلانٌ هذا هو ابن قريةٍ مجاورةٍ لقريتنا، رجلٌ ظالمٌ جبارٌ تلوثت يداه بدماء كثيرٍ من أهل قريته، روَّع الناس، وهدد أمنهم، وأخرس ألسنتهم من كل كلامٍ  غير الإشادة به ومدحه وتقديس شخصه وشيطنة من يحاولون نصحه، وسلَّط شيخ الغفر والغفر جميعاً على كل من تُسول له نفسه أن ينتقده، وبدعم شيخ مسجد القرية له ظن أنه مبعوث العناية الإلهية؛ فهو يرى ما لا يراه الآخرون ولا رأي إلا رأيه، زيَّن له شيطانه أنه قد دانت له الدنيا واستسلم له العباد؛ فعاث في الأرض فساداً هو وزمرةٌ من المنتفعين التفوا حوله، استخف بقومه فأطاعوه وألغوا عقولهم فأيدوه وساندوه خوفاً أو طمعاً، وأقنعوا أنفسهم أنهم يحسنون صنعاً!
استغرب أهل قريتنا ما سمعوه من المنادي؛ كأن هذا الذي مات مخلدٌ لن يقترب الموت منه، فهم، وأهالي القرى المجاورة، يهابونه كما يهابون الموت نفسه، فهل لمن له كل هذه المهابة أن يستسلم للموت هكذا بسهولةٍ فجأةً؛ دون مقاومة وبلا مقدماتٍ وبغير إنذار؟!
انقسم أهل قريتنا الطيبون:
فمنهم من فرح بموته وابتهج ولم يُخفِ سعادته وسروره بموت هذا الرجل باعتبار (موت الظالم عبرة لمن يعتبر).
ومنهم من اعتبر هذا الفرح وذلك الابتهاج شماتةً في موت رجلٍ مسلمٍ، فيها تجاوز مهما كانت أفعاله، فهو الآن بين يدي ربه لا تجوز عليه سوى الرحمة، فضلاً عن أن تجاوزاته الرهيبة كانت، كما روَّج أنصاره، لمصلحة قريته!
ومنهم من فضَّل القول بأنه ابن قريةٍ غير قريتنا ليس لنا أن نفرح أو نحزن لموته؛ فهذا أمرٌ يخصهم ولا يخصنا، كما لو كان من قتلهم ذلك الظالم ومن تسبب في الأذى لهم ولأهاليهم لم يكونوا مسلمين!

أحبتي في الله .. لا أدري ما الذي دعاني بعد كل هذه السنين إلى تذكر ذلك اليوم المشهود، وكيف كان اختلاف الناس حول ما حدث فيه مثار حديث أهل قريتنا الطيبين لشهورٍ وربما لسنوات!
لم تتوفر لي الفرصة من قبل للتفكير فيما استوقفني في ذاك المشهد؛ وهو سؤالٌ كان يخطر على ذهني وأتجاهله أو اصرف النظر عنه: هل الفرح بموت مسلمٍ ظالمٍ شماتة؟ وهل نأثم إذا ابتهجنا لموت أمثال ذلك الرجل؟ ألا نفرح، ونحن نقرأ القرآن، بموت فرعون وهامان وجنودهما غرقاً، وبموت قارون خسفاً؟ ألا نعتبر ذلك عدالةً إلهيةً يستحقها كل ظالمٍ في أي عصرٍ وفي كل مكان؟ ألم يخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن ما ورد من قصص هؤلاء الظالمين في القرآن الكريم هو عبرةٌ علينا أن نعتبر بها وعظةٌ يتوجب علينا أن نتعظ بها؛ فيكون (موت الظالم عبرة لمن يعتبر)؟ بل كنت أذهب إلى أبعد من ذلك؛ فأسأل نفسي ألا يُعَد الفرح بموت فرعون وهامان وجنودهما وموت قارون عبادةً يتعبد بها المسلم؟ ألم يكن ذلك استجابةً لدعاء كليم الله موسى عليه السلام على فرعون وقومه: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِم وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِم فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ﴾؟ ألم يدعُ نوحٌ عليه السلام فقال: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾؟
هذه الأسئلة وغيرها ظلت تُلح عليّ حتى جاء اليوم الذي أحاول فيه البحث عن إجاباتٍ لها.
 يقول أهل العلم أن الشماتة هي أن يُسَرّ المرء بما يصيب عدوه من المصائب، قال الله تعالى على لسان هارون وهو يخاطب أخاه موسى عليهما السلام: ﴿فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ﴾.
والشماتة مجلبةٌ للشر ومفسدةٌ للدين، وهي سلوكٌ شائنٌ وخُلقٌ قبيحٌ يدل على نفسٍ غير سويةٍ وقلبٍ مريضٍ. وحقيقة الشماتة هي إظهار الفرح والسرور بما ينزل بالآخرين من مصائب وما يحل بهم من كوارث وما يلحقهم من أقدار الله عز وجل من مرضٍ  أو موتٍ. وقد نهانا النبى عن الشماتة بالغير؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لا تُظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ".

أما حصول هذا السرور لما يصيب العدو المحارب ومثله المنافقون والطاعنون في الدين والمعادون لعباد الله المسلمين فهو محمودٌ غير مذمومٍ، وهو من باب قوله تعالى: ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ فإن في قلوب المؤمنين من الحنق والغيظ عليهم ما يكون هلاكهم وحصول البلاء بهم شفاءً لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم؛ إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين للّه ولرسوله وللمؤمنين، ساعين في إطفاء نور اللّه، ومعاداة عباد الله.
فالفرح بمهلك أعداء الإسلام وأهل البدع المغلظة وأهل المجاهرة بالفجور أمرٌ مشروعٌ، وهو من نِعَم الله على عباده التي تستوجب الشكر؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ وفي الآية بيان أن إهلاك أعداء الله تعالى من نِعَم الله على المسلمين التي تستوجب ذِكراً وشكراً.
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾؛ لذا فقد اتفق السلف أهل الحديث على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم.
والذين يسخرون من الإسلام وشعائره وأهله يقعون في الكفر المخرج من الملة، باتفاق أهل السنَّة، وتسقط حرمتهم، ويجوز معاملتهم بالمثل بالسخرية منهم، ومن بدعهم وضلالهم؛ قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾، والاستدلال بالآية الكريمة وهي قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ استدلالٌ صحيحٌ في هذا المجال؛ فهؤلاء من الظالمين الذين ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾.
وعن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَجَبَتْ]، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: [وَجَبَتْ]، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: [هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ]. ومع التسليم بحُرمة سب الأموات؛ فإن المنافق والكافر والمجاهر بالفسق أو بالبدعة، هؤلاء لا يحرُم ذكرُهم بالشر بعد موتهم للتحذير من طريقهم ومن الاقتداء بهم؛ فإن (موت الظالم عبرة لمن يعتبر).
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: [مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: [الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ]؛ فاستراحة العباد من الفاجر معناه اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوهٍ منها ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات.
وفي زاد المعاد: "سجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما جاءه خبر قتل مسيلمة الكذاب".
وقاتل عليّ بن أبى طالب رضي الله عنه الخوارجَ، وسجد لله شكراً لما رأى أباهم، وهو ذو الثُّدَيَّة، مقتولاً.
وبُشِّر الحسن بموت الحجاج فسجد. وعن ابن طاووس عن أبيه أنه أُخبر بموت الحجاج فقال: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وروى ابن سعد في طبقاته؛ قال: أخبرنا عبدالحميد بن عبدالرحمن الحِماني، عن أبي حنيفة عن حماد قال: بَشَّرْتُ إبراهيم النخعي بموت الحجاج، فسجد، ورأيته يبكي من الفرح.
قيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد "الضال المبتدع"، عليه في ذلك إثمٌ؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟!
ولما جاء نعي وهب القرشي "وكان ضالاً مُضلاً" لعبد الرحمن بن مهدي قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه.
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية عن أحد رؤوس أهل البدع: "أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودُفن بداره، ثم نُقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة، وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله".
وعلى ذلك يقول العلماء إن الفرح بهلاك الظالمين جائزٌ، وعلى هذا جرى عملُ أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين، والأئمة التابعين لهم بإحسان، ولا عبرة بقول الجاهلين.

أحبتي .. الفرح بموت الظالم الفاجر لأجل ما يحصل من زوال مفسدته، مشروعٌ ولا يُعد من قبيل الشماتة، فإن (موت الظالم عبرة لمن يعتبر)؛ قال تعالى حين قَصَّ علينا في القرآن الكريم قصص الطغاة الظالمين ونهاياتهم المحتومة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾.
فلنكن أحبتي من أولي النهى والألباب ولنتعظ ولنعتبر بأمثال هؤلاء الظالمين وعاقبة ظلمهم، وإذا فرحنا بموت أحدهم فلا يكون فرحَ شماتةٍ أبداً، وإنما يكون فرحاً بنعمةٍ مَنَّ الله بها علينا لنا فيها عظةٌ واعتبار.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/7jxFqm