الجمعة، 20 يناير 2017

ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه

الجمعة 20 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٧
(ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه)

في مكانٍ عام كنت موجوداً فيه بالصدفة خلال الأسبوع الماضي، رأيته وقد انتفض كما لو كان ثعبانٌ قد لدغه، وقال بصوتٍ عالٍ مستنكراً مَنْ نادىَ عليه بكلمة أستاذ: "دكتور، لو سمحت".
التفت كل من كان في المكان وتابعوا في دهشة ردة فعل هذا الشخص الذي رأيته، والذي من المفترض فيه أنه بحكم مؤهله الدراسي سواءً كان طبيباً أو حاصلاً على درجة الدكتوراه، أن يكون مثقفاً يتمتع بصحةٍ نفسيةٍ عالية، تجعله يتقبل هذا الخطأ غير المقصود، ولا ينفعل بهذه الطريقة الفجة!
واتتني الفرصة فيما بعد لمناقشة هذا الموقف مع صديقٍ لي يحمل درجة الدكتوراه في مجال تخصصه، سألته: "ما رأيك؟"، قال لي: "أنا شخصياً يناديني بواب عمارتنا وزوجته بالحاج، ويناديني بواب العمارة المجاورة لنا بعم الحاج، ويناديني مقيم الشعائر بالمسجد الذي أصلي فيه بعم محمد، ويناديني صبي الفرارجي القريب من المسجد بعم الشيخ، في حين يناديني صديق لي بأبو حميد، وصديق آخر لا يناديني إلا بلقب باشا، وصديق ثالث لم يناديني قط إلا بأبي التُوم {يقصد التوأم}، وكثيرٌ من الناس ينادونني بأستاذ، أما القريبون مني خاصةً في مجالات العمل وفي مواقع التواصل الاجتماعي فإنهم يستخدمون عادةً لقب دكتور، وكثير من البدو الذين تعاملت معهم في دولة الإمارات حيث كنت أعمل كانوا ينادونني باسمي فقط مجرداً من أي لقب .. كل ذلك وأنا هو هو نفس الشخص"، واختتم كلامه بقوله: "تسألني عن رأيي؛ أنا أرى أن لا لقب دكتور إذا نوديت به يزيد من مكانتي، ولا إذا لم أنادَ به تقل قيمتي، على كل حال الأمر يتعلق من وجهة نظري بمدى تواضع الشخص"، واستكمل حديثه: "يشهد الله أني لا أزكي نفسي، لكن سؤالك هو الذي اضطرني للحديث عن ذاتي"، قلت مبدياً شعوري بتفهم موقفه: "معك حق، لا عليك .."، قاطعني بالقول: "لا تنس يا صديقي قول النبي عليه الصلاة والسلام (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه)"، قلت موافقاً: "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم".

أحبتي في الله .. التواضع لغةً مأخوذٌ من تواضعت الأرض، أي انخفضت عمّا يليها، فالتواضع يدل على خفض الشيء. أمّا التواضع عند علماء الأخلاق، فهو لين الجانب والبُعد عن الاغترار بالنفس، حيث قالوا إنّ التواضع هو اللين مع الخَلْق والخضوع للحق وخفض الجناح.
ويقول أهل العلم أن التواضع دليلٌ على طهارةِ النفس وسلامةِ القلب من أمراض التكبّر والخُيلاء، ويمثل خُلُق التواضع ركناً مهماً في تكوين شخصية المسلم وسلوكه، لأنّ التواضع في جوهره دعوةٌ عمليةٌ إلى المحبّة والمودّة والترابُط، ووسيلةٌ لتحرير القلوب من أغلال الحسد والكراهية.
التواضع هو لين الجانب، وقالوا هو أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. وقيل عن المتواضع أنه هو الذي يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله، ولو سمعه من صبي أو من أجهل الناس.
والمسلم يعرف مقدار نفسه، ويعلم علم اليقين أنه عبدٌ لله ناصيته بيده والخَلْق كلهم عيال الله، فإذا تكبر لقوةٍ في بدنه فإن بعوضةً تُرديه وقد أهلكت النمرود، وإذا تكبر لمالٍ فإن قارون كان أغنى منه فخسف الله به وبداره الأرض، وإذا تكبر لمنصب فلينظر ما كان مآل فرعون، وإذا تكبر لعلمٍ فليتدبر قصة موسى عليه السلام مع الخضر.
التواضع إذن صفةٌ محمودةٌ وسبيلٌ لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، وقد جعل الله سبحانه وتعالى سنّةً جاريةً في خلقه أن يَرفع المتواضعين لجلاله، وأن يُذل المتكبرين المتجبرين.
لم ترد كلمة التواضع في القرآن الكريم بلفظها، إنّما وردت كلماتٌ تشير إليها وتدل عليها؛ يقول الله سبحانه تعالى في كتابه الكريم مخاطباً رسوله الأمين: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، ويقول سبحانه على لسان لقمان ينصح ابنه: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ الصعر هو الميل، أي لا تُمِل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً بنفسك واحتقاراً لهم، ولا تمشِ متبختراً متكبراً، أي لا تتكبّر فتحتقر عباد الله وتُعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. ويوجهنا عز وجل إلى نفس الأمر فيقول تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾ فهذا نَهىٌ عن الخُيلاء وأمرٌ بالتواضع، والمرح شدة الفرح وقيل التكبر في المشي وقيل تجاوز الإنسان قدره وقيل هو الخيلاء في المشي وهو البطر والأشر؛ فإنك لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها، ولن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. ويصف المولى عباده فيقول:﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾ والهَوْن السكينة والوقار، والمعنى: أن عباد الله هم الذين يمشون على الأرض حُلماء متواضعين من غير تجبُّرٍ ولا استكبار. ويأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بقوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وبقوله:﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أي: ألن جانبك للمؤمنين وارفق بهم. ويقول سبحانه واصفاً القوم الذين يحبهم ويحبونه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ﴾، وهذا لعمري قمة التواضع؛ أن يكون المؤمن ذليلاً خاضعاً ليناً سهلاً بسيطاً متواضعاً مع إخوانه من المؤمنين.  ويقول عز وجل: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عنكم جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ*أَهؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فأصحاب الأعراف {وهو السُّوْرُ المضروب بين الجنة والنار، وأصحابه مَنْ تساوت حسناتهم وسيئاتهم} يقولون لأهل النار ما أغنى عنكم مالكم ولا تكبركم وعدم تواضعكم، ولا منعكم ذلك عن دخول النار، وهؤلاء الضعفاء الذين كنتم تسخرون منهم وتحتقرونهم في الدنيا وأقسمتم أن الله لن يُدخلهم الجنة، أدخلهم الله إيَّاها برحمته. ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ هذا يبين أن التقوى هي معيار التفاضل بين الناس، فقد جعلنا الله شعوبًا وقبائل لنتعارف لا لنتفاخر ويتعالى بعضنا على بعض. ويقول العزيز الحكيم: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ أي: لا تمدحوها ولا تفخروا بأعمالكم، وهذا هو التواضع المُوَصِل للتقوى.

أحبتي .. عن خُلُق التواضع قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن ترك اللِّباس تواضعًا للَّه، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره مِن أيِّ حُلل الإيمان شاء يلبسها]. وقال المصطفى: [طُوبَى لمن تواضع في غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة].
وكان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للتواضع بأقواله وأفعاله، فكان يجالس الفقراء والمساكين ويُصغي إليهم، ويجيب دعوة العبد وينصت للأَمَة، فلا ينصرف عنها حتى تنصرف، وكان يجلس في أصحابه كأحدهم، بل يشاركهم العمل ما قل منه أو كثر؛ شارك أصحابه في بناء أول مسجد بالمدينة بعد الهجرة إليها، وفي غزوة الخندق حمل التراب أثناء حفر الخندق يوم الأحزاب وقام بنقله مع صحابته بلا كلل أو تأفف.
وعن تواضُع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ومع زوجاته؛ قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه". لقد كان بالفعل قدوةً حسنةً لنا في تواضعه ولينه ورفقه وبساطته؛ قال عن نفسه، وهو سيد ولد آدم، حين أتاه رجلٌ فقام بين يديه فأخذته رِّعْدَةٌ، فقال صلَّى الله عليه وسلم: [هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ]، إنه التطبيق العملي لقوله عليه الصلاة والسلام (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه). حقاً كان لنا في نبينا المختار أسوةٌ حسنة؛ وصدق الله العظيم في قوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وهو الذي وصفه المولى عز وجل بقوله: ﴿وَإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم﴾.

وعن فضيلة التواضع يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع"، ومما يُروى عن تواضعه قال علماء السير: كان أبو بكر رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم، فلما بُويع بالخلافة، قالت جارية من الحي: "الآن لا يحلب لنا منائحنا"، فسمعها أبو بكر فقال: "بلى، لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه"، فكان يحلب لهم.
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد جاء في الأثر عنه أن رسول كسرى الذي جاء إلى المدينة لمقابلة خليفة المسلمين، فسأل عن قصره المنيف، أو حصنه المنيع، فدلوه على بيته، فرأى ما هو أدنى من بيوت الفقراء، ووجده نائماً في ملابس بسيطة تحت ظل شجرة قريبة، فقال مقولته الشهيرة: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر". وقال الشاعر عن هذا الموقف:
وراعَ صاحبَ كِسرى أنْ رأى عُمراً ** بين الرعيَّةِ عَطلاً وهوَ راعيها
وعَهدُهُ بِمُلوكِ الفُرسِ أنَّ لها  **  سوراً مِن الجُند والأحراس يحميها
رآهُ مُستَغرِقاً في نَومِهِ فرأى    **    فيه المهابةَ في أسمى معانيها
فوقَ الثرى تَحت ظِلِّ الدَّوحِ مُشتملاً ** بِبُردَةٍ كادَ طُولُ العهدِ يُبليها
فهان في عينيهِ ما كان يُكبِرُهُ     **    مِنَ الأكاسرِ والدُّنيا بأيديها
وقال قولةَ حَقٍّ أصبحت مَثلاً  ** وأصبحَ الجيلُ بعدَ الجيلِ يَرويها
أَمِنتَ لمّا أقمتَ العَدلَ بَينَهُمُ    **    فَنِمتَ نَومَ قَريرِ العينِ هانيها

ومن مواقف التواضع موقف مشترك بين كلٍ من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما: كان عمر بن الخطاب يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها مرة مبكراً كي يعرف من يسبقه إليها فإذا الذي يأتيها هو أبو بكر الصديق، وهو خليفة المسلمين.

وعن التواضع قال أحد الشعراء:
تواضع تكن كالنجمِ لاح لناظرٍ ** على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ
ولا تكُ كالدخانِ يعلو بنفسهِ   **   إلى طبقاتِ الجوِ وهو وضيعُ
وقال آخر:
تواضع إذا ما نِلتَ في الناسِ رفعةً ** فإن رفيعَ القومِ من يتواضعُ

اللهم اجعلنا ممن يلتزمون هديك في التواضع ولين الجانب والحنو خاصةً على الضعفاء ..
اللهم اجعلنا ممن يتأسون بنبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الذي كان مثالاً للتواضع .. وكان المعلم الأول لنا للتواضع حين قال (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه).
اللهم اجعلنا من المتواضعين .. وانزع من قلوبنا الكِبْر والعُلو والعُجب والخُيلاء .. ونقِ أعمالنا من كل سوء، وارزقنا اللهم حلاوةَ الذلِ لك والتواضع لعبيدك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/bbMM8b