الجمعة، 22 فبراير 2019

في العجلة الندامة


الجمعة 22 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٥
(في العجلة الندامة)

يقول أحد عمال المنازل: كنت أعمل خادماً لدى أحد الشخصيات المرموقة، وكان من عادته أن يستقل سيارته الفارهة كل يوم، وكان واجباً عليّ أن أحييه بالسلام عليه، وكان لا يرد التحية. وفي يومٍ من الأيام رآني وأنا ألتقط كيساً فيه بقايا طعامٍ؛ فقد كانت حالتنا صعبة؛ فنظر إليّ متجاهلاً وكأنه لم يرَ شيئاً. وفي اليوم التالي، وجدت كيساً بنفس المكان ولكن كان الطعام فيه مرتباً وطازجاً جاء من البائع لتوه، لم أهتم بالموضوع، أخذته وفرحت به. وكنت كل يومٍ أجد نفس الكيس وهو مليءٌ بالخضار وحاجيات البيت كاملةً؛ فكنت آخذه، حتى أصبح هذا الموضوع روتينياً. وكنا نقول أنا وزوجتي وأولادي مَنْ هذا الرجل التقي النقي الخفي الذي يتصدق علينا بكيسه كل يومٍ؟! كنت أدعو له وأوصي أولادي بالدعاء له. وفي يومٍ من الأيام شعرت بجلبةٍ في العمارة فعلمت أن السيد قد توفي؛ وكثر الزائرون في ذلك اليوم، ولكن كان أتعس ما في ذلك اليوم أن الرجل الصالح قد نسي الكيس، أو أن أحداً من الزوار قد سبقني إليه!! وفي الأيام التالية أيضاً لم أجد الكيس، وهكذا مرت الأيام دون أن أراه مما زاد وضعنا المادي سوءاً، وهنا قررت أن أطالب السيدة بزيادة الراتب أو أن أبحث عن عملٍ آخر؛ وعندما كلمتها قالت لي باستغراب: " كيف كان المرتب يكفيك وقد صار لك عندنا أكثر من سنتين ولم تشتكِ!! فماذا حدث الآن؟!"، حاولت أن أبرر لها ولكن لم أجد سبباً مقنعاً؛ فأخبرتها عن قصة الكيس، سألتني ومنذ متى لم تعد تجد الكيس؟ فقلت لها بعد وفاة سيدي. وهنا انتبهتُ لشيءٍ: لماذا انقطع الكيس بعد وفاة سيدي مباشرةً؟ فهل كان سيدي هو صاحب الكيس؟ ولكن تذكرتُ معاملته التي لم أرَ منها شيئاً سَيّئاً سوى أنه لا يرد السلام. فاغرورقت عينا سيدتي بالدموع وعلى الفور قررت بأن تصل ما انقطع بعد وفاة زوجها؛ وعاد كيس الخير إلينا مرةً أخرى إلى البيت بذاته، وأستلمه بيدي من ابن سيدي. وكنتُ أشكره فلا يرد علي!! فشكرته بصوتٍ مرتفعٍ فرد عليّ وهو يقول: "لا تؤاخذني فأنا ضعيف السمع كوالدي!".

وهذه قصة طفلةٌ كان لديها تفاحتان، وكانت تمسك كل تفاحةٍ بيد. جاءت أمها وطلبت منها أن تعطيها إحدى التفاحتين، فنظرت الطفلة لأمها بضعة ثوانٍ ثم قضمت إحدى التفاحتين، وبسرعةٍ قضمت التفاحة الثانية. نظرت الأم لابنتها بخيبة أملٍ حيث لم تتوقع هذه الحركة من ابنتها التي تحبها وترعاها. وعندما بدأت الأم بالتوجه بعيداً عن ابنتها فإذا بالبنت تناديها وتعطيها إحدى التفاحتين وهي تقول: "أمي، تفضلي هذه التفاحة؛ فهي الأحلى!".

أما هذه القصة فقد حدثت وقائعها في إحدى الليالي حين جلست سيدةٌ في المطار لعدة ساعاتٍ في انتظار رحلةٍ لها. وأثناء فترة انتظارها ذهبت لشراء كتابٍ وكيسٍ من الحلوى لتقضي بهما وقتها، فجأةً وبينما هي متعمقةٌ في القراءة أدركت أن هناك شابةً صغيرةً قد جلست بجانبها واختطفت قطعةً من كيس الحلوى الذي كان موضوعاً بينهما. قررت أن تتجاهلها في بداية الأمر، ولكنها شعرت بالانزعاج عندما كانت تأكل الحلوى وتنظر في الساعة بينما كانت هذه الشابة تشاركها في الأكل من الكيس أيضاً. حينها بدأت بالغضب فعلاً، ثم فكرت في نفسها قائلة: "لو لم أكن امرأةً متعلمةً وجيدة الأخلاق لمنحتُ هذه المتجاسرة عيناً سوداء في الحال". وهكذا في كل مرةٍ كانت تأكل قطعةً من الحلوى كانت الشابة تأكل واحدة أيضاً. وتستمر المحادثة المستنكرة بين أعينهما وهي متعجبةٌ بما تفعله، ثم إن الفتاة وبهدوءٍ وبابتسامةٍ خفيفةٍ قامت باختطاف آخر قطعة من الحلوى، وقسمتها إلى نصفين؛ فأعطت السيدة نصفاً بينما أكلت هي النصف الآخر! أخذت السيدة القطعة بسرعةٍ وفكرت قائلةً: "يا لها من وقحةٍ، كما أنها غير مؤدبةٍ حتى أنها لم تشكرني". بعد ذلك بلحظاتٍ سمعت السيدة الإعلان عن حلول موعد رحلتها فجمعت أمتعتها وذهبت إلى بوابة صعود الطائرة دون أن تلتفت وراءها إلى المكان الذي تجلس فيه تلك السارقة الوقحة. وبعدما صعدت إلى الطائرة ونعمت بجلسةٍ جميلةٍ هادئةٍ أرادت وضع كتابها الذي قاربت على الانتهاء من قراءته في الحقيبة، وهنا صُعقت بالكامل؛ فقد وجدت كيس الحلوى الذي اشترته موجوداً في تلك الحقيبة، بدأت تفكر: "يا إلهي! لقد كان كيس الحلوى ذاك ملكاً للشابة وقد جعلتني أشاركها به"، حينها أدركت وهي متألمةٌ بأنها هي التي كانت وقحةً غير مؤدبةٍ وسارقةً أيضاً!

وهذا رسّامٌ عجوزٌ كان يعيش في قريةٍ صغيرةٍ، وكان يرسم لوحاتٍ غايةً في الجمال ويبيعها بسعرٍ جيّد. في يومٍ من الأيام أتاه فقيرٌ من أهل القرية وقال له: "أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، لماذا لا تساعد الفقراء في القرية؟! انظر لجزار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً ومع ذلك يوزّع كل يومٍ قطعاً من اللحم المجّانية على الفقراء"، لم يردّ عليه الرسام وابتسم بهدوء. خرج الفقير منزعجاً من عند الرسّام وأشاع في القرية بأنّ الرسام ثريٌ ولكنّه بخيلٌ، فنقم عليه أهل القرية. بعد مدّةٍ مرض الرسّام العجوز ولم يُعره أحدٌ من أبناء القرية اهتماماً ومات وحيداً. مرّت الأيّام ولاحظ أهل القرية بأنّ الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحماً مجّانياً. وعندما سألوه عن السبب، قال: بأنّ الرسّام العجوز الذي كان يعطيني كل شهر مبلغاً من المال لأرسل لحماً للفقراء، مات فتوقّف ذلك بموته!

وأما هذه القصة فقد حدثت في أحد القطارات؛ حيث يُروى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً مع ابنٍ له يبلغ من العمر 25 سنةً في القطار. وبدا على وجه الشاب الذي كان يجلس بجانب النافذة الكثير من البهجة والفضول؛ أخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ: "أبي انظر إلى الأشجار تسير وراءنا!"، فتبسم الرجل العجوز متماشياً مع صرخة ابنه. وكان يجلس بجانبهما زوجان يستمعان إلى ما يدور من حديثٍ بين الأب وابنه، وشعرا بقليلٍ من الإحراج؛ فكيف يتعرف شابٌ في هذا العمر كالطفل؟! فجأةً صرخ الشاب مرةً أخرى: "أبي انظر إلى البِركة وما فيها من حيوانات. أبي انظر الغيوم تسير مع القطار!"، واستمر تعجب الزوجان من حديث الشاب مرةً أخرى: "أبي إنها تمطر، والماء لمس يدي، انظر يا أبي!"، وفي هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت؛ فسألوا الرجل العجوز: "لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟"، هنا قال الرجل العجوز: "إننا قادمون من المستشفى حيث أن ابني قد استرد بصره بعد سنواتٍ طويلةٍ من إصابته بالعمى".

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصص وتلك المواقف بقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾، فإذا كنا مطالبين بالتبين والتثبت إذا جاءنا فاسقٌ بنبأٍ فنحن مطالبون من باب أولى بالتبين والتثبت مما نراه نحن بأنفسنا وبأم أعيننا. فالمسلم لا يتسرع في الحكم على الناس، ولا يجعل من المظاهر سنداً للحكم عليهم أو تصنيفهم؛ فقد مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فسألهم النبي: [مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟] قَالُوا: نقول هذا من أشرف الناس، هذا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ أَنْ يخطب، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لقوله. فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّ رَجُلٌ آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟] قَالُوا: نقول والله يا رسول الله هذا من فقراء المسلمين هذا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ لمَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: [لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا].

قال أحد العلماء: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه". وقال غيره: "المؤمن وقَّافٌ حتى يتبين". وقال ثالثٌ: "ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هَمَّ بشيءٍ مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعةٍ من غير تأملٍ للعواقب، كان الغالب عليه الندم".

أما علماء النفس فيقولون أنّ الشخصيّة المتسرّعة بالحكم، من دون النّظر إلى الموضوع بشيءٍ من التروّي، تتّصف بالاندفاع، وعادةً ما يندم المتّصفون بالتسرّع بالأحكام، ويقعون في حرجٍ دائمٍ، ما يجعلهم كثيري الاعتذار إلى الآخرين، رغم أن النبي حذرنا من ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ].

كتب أحدهم يقول: كم نسيء الظن بالآخرين ونحن ﻻ نشعر ولا نسأل ولا نستفسر؛ لكي نعرف لماذا يتصرف البعض بطريقةٍ لا نحبها؟ لعل معهم العذر ولا نعرفه. مهما كان حجم خبرتك وعلمك، ومهما كان موقعك ووجهة نظرك، احرص على عدم الاستعجال بالحكم على الأمور، واعطِ الآخرين الفرصة لتوضيح مقاصدهم. كم مرةً حكمنا على آخرين بغير العدل بسبب التسرع في الحكم عليهم أو على أفعالهم؟ علينا أن نفكر مرتين قبل أن نحكم على الآخرين. دعونا دوماً نعطي الآخرين فرصاً كافيةً قبل أن نحكم عليهم بطريقةٍ سيئة. هناك دائماً سببٌ خلف كل شيءٍ غريبٍ، ودائماً سؤالنا "لماذا؟" أفضل من معاتبتنا قبل أن نعرف.

يقول أهل العلم إن العبد ليصعب عليه معرفة نيته في عمله فكيف يتسلط على نيات الخلق؟! في أغلب الأحيان أنت لا ترى سوى جزء من الصورة فتخيل الجزء الآخر بشكل إيجابي كي لا تظلم الناس أو تبخسهم حقوقهم؛ ففتاةٌ تركب بجوار سائق التاكسي والمقاعد الخلفية فارغةٌ، قد تكون زوجة سائق التاكسي، ورجلٌ بلحيةٍ طويلةٍ يمر من أمام المسجد والناس يصلون فيمضي دون أن يدخل للصلاة قد يكون صلى في مسجدٍ آخر، ورجلٌ جلستَ بجانبه في القطار ألقيتَ عليه التحية فلم يرد عليك السلام قد يكون ببساطة لم يسمعك! في أغلب الأحيان أنت لا ترى سوى جزءٍ من الصورة، فتخيل الجزء الآخر بشكلٍ إيجابيٍ لكيلا تظلم الناس ولا تبخسهم حقوقهم.
قال أحد الصالحين: لو رأيتُ أحد إخواني ولحيته تقطر خمراً لقلتُ ربما سُكبت عليه! ولو وجدته واقفاً على جبلٍ وقال: أنا ربكم الأعلى لقلتُ أنه يقرأ آيةً من القرآن الكريم!
أحبتي .. صدق من قال (في العجلة الندامة)، لا نقصد بالطبع السرعة في قيادة السيارات فحسب، بل نتجاوز ذلك إلى أن السرعة في كل شيء غير مرغوبةٍ، إلا بوجود مقتضىً خاصٍ يتطلبها، أما إذا لم يكن هناك مبررٌ منطقيٌ وموضوعيٌ وصحيحٌ لنكون مسرعين فإن الندامة غالباً ما تكون مآل تسرعنا، خاصةً في الحكم على الناس والمواقف. علينا ألا نتسرع في الحكم على الناس فقد نظلم عزيزاً، وقد نرفع رخيصاً. في التأني السلامة و(في العجلة الندامة)؛ فالحق يتأكد بالبحث والتأني، والباطل بالتسرع وعدم اليقين.
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الذين يتبينوا ويتثبتوا ولا يتسرعوا ويتعجلوا في الحكم على الناس أو أفعالهم حتى لا نصبح نادمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/nsVZBJ