الجمعة، 24 أغسطس 2018

أمسك عليك لسانك


الجمعة 24 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٩
(أمسك عليك لسانك)

تقول القصة أن فلاَّحاً ثار على صديقه وقذفه بكلماتٍ جارحةٍ آلمته، ثم شعر الفلاح بالندم فعاد إلى صديقه ليعتذر له، وطلب منه الصفح والعفو خجلاً من سوء ما تفوه به، فقبل الصديق اعتذاره. لكن الفلاح، وفي لحظات محاسبةٍ لنفسه، أحس بالذنب ولام نفسه لخروج مثل هذه الكلمات الجارحة من فمه، وأراد أن يعرف أثر كلماته على صديقه؛ فقصد حكيم القرية وحكى له ما جرى بينه وبين صديقه، وسأله: "هل ما يزال لكلماتي الجارحة أثرٌ في نفس صديقي بعد أن اعتذرت له؟"، قال له الحكيم: "إن أردت أن تعرف؛ املأْ كيساً بمسامير، ومُرْ على كل بيتٍ من بيوت القرية، وثبِّت مسماراً على باب كل بيت، ثم ارجع إليّ". استجاب الفلاح وثبَّت المسامير، ثم عاد إلى الحكيم الذي قال له: "كي لا يبقى لكلماتك الجارحة أثرٌ؛ اذهب الآن بسرعةٍ واجمع المسامير كلها من على جميع الأبواب، فإن لم تجد لأحدها بعد أن تقتلعه أثراً فستعود كلماتك الجارحة التي كنت قلتها لصديقك إلى مكانها بغير أن تترك أثراً!"، حزن الفلاح عندما سمع هذا، فقال له الحكيم: "إن كل كلمةٍ تنطق بها كالمِسمار تغرسه؛ ما أخفَّ أن تدقَّه، وما أصعب أن تنزعه دونما أثر"! قال الفلاح: "لكني اعتذرت له"، قال الحكيم: "اعتذارك ما هو إلا خلعك لتلك المسامير حتى لا يزداد أثرها!".

أحبتي في الله .. حينما طالعت هذه القصة، تذكرت مواقف كثيرةً كنا نحن فيها، دون أن نقصد، سبباً في إيلام أصدقائنا وأحبائنا؛ فكم من كلمةٍ خرجت من أفواهنا جرحت غيرنا بأكثر من جرح السكين، لكن لأننا لم نرَ أمام أعيننا نزف الدم الذي يتركه السكين لم نكترث كثيراً لنزفٍ أكبر وأكثر إيلاماً يحدث في صدر وقلب من قلنا له كلمةً جارحةً حتى ولو بغير قصد!
صدق الشاعر إذ قال:
وقد يُرجىٰ لجُرْحِ السَيفِ برءٌ
ولا برءٌ لما جَرَحَ اللِسَانُ
جِراحاتُ السنانِ لها التئامُ
ولا يَلتامُ ما جَرَحَ اللِسَانُ
وجُرْحُ السَيفِ تُدمله فيبرىٰ
ويَبقىٰ الدَهرُ ما جَرَحَ اللِسَانُ
قد تكون كلمة سبابٍ أو إهانةٍ أو تحقيرٍ أو استعلاءٍ أو تسفيهٍ أو استهزاءٍ أو سخريةٍ، وقد تكون كلمة كذبٍ أو افتراءٍ أو نفاقٍ أو غيبةٍ أو نميمةٍ أو شهادة زور.
ربما صدرت من زوجٍ لزوجته، أو من رئيسٍ في العمل لأحد العاملين معه، أو من أبٍ أو أمٍ لابنهما أو بنتهما.
كثيرةٌ هي تلك المواقف التي ننسى فيها ما نهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ]، ونتجاهل فيها الحكمة المشهورة: "ما من شيءٍ أولى بطول سجنٍ من لسانٍ!"، فإذا الكلمات الجارحة تصدر منا كأنها سهامٌ مسمومةٌ، تؤلم، ويزيد من إيلامها أن تصدر عن شخصٍ عزيزٍ علينا أو قريبٍ منا أو له منزلةٌ خاصةٌ في نفوسنا؛ فكلما كان ذلك الشخص غالياً علينا كلما كان الجرح الذي تتركه كلماته أكثر إيلاماً.
إن اللسان كما أنه أداةٌ أساسيةٌ لتواصلنا مع غيرنا، فإنه يمكن أن يتحول في أقل من لمح البصر إلى أداة قطعٍ للتواصل وهدمٍ للعلاقات وذبحٍ للعواطف.

الكلمة الطيبة مطلوبةٌ في كل وقتٍ ومع كل شخصٍ وفي جميع المواقف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ]، وقوله أيضاً: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. والكلام الطيب سببٌ للفوز برضوان الله، والكلام السيئ سببٌ مباشرٌ لهلاك صاحبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ].
يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، تعبر هذه الآية عن مدى أهميّة اختيار الكلمات والأسلوب المناسب للحديث، وتبرز أهميّة الكلمة الطيّبة وتأثيرها على النّفس والروح؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.
والكلمة الطيبة تُطمئن النفس، وَتُؤلف بين القلوب، كما أنها تُحَوِّل العدو إلى صديقٍ بإذن الله، ويالروعة البيان القرآني حين نقرأ توجيهاً ربانياً لكل البشر لو أننا التزمنا به لصارت حياتنا أكثر راحةً وسلاماً؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
وإذا لم يكن الإنسان قادراً على أن يقول الكلمة الطيبة فليمسك عليه لسانه؛ فقد جاء أحد الصحابة إلى النبي يسأله عما ينجيه؛ فقال له عليه الصلاة والسلام: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ].
فكما أن اللسان هو أول ما يُنجي الإنسان من العذاب في الآخرة، فهو أول ما يكون سبباً في دخول الناس النار والعياذ بالله؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد الصحابة: [ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ]؛ إنها مجرد كلمةٍ لا يُلقي لها الإنسان بالاً، يفرق فيها بين اثنين، يفسد العلاقة بين أخوين، يسبب شقاقاً بين زوجين، يكون بها سبباً لحزن إنسان، بكلمةٍ يقولها لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها، والعياذ بالله، في جهنم سبعين خريفاً.

واستقامة الإنسان تبدأ من استقامة لسانه، والتزامه بتوجيه النبي الكريم (أمسك عليك لسانك)؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ].

أحبتي .. كي يستقيم لساننا علينا ألا نتسرع في الكلام، علينا أن نفكر في كل كلمةٍ تخرج من أفواهنا قبل أن ننطق بها، نحن أحرارٌ قبل أن نتكلم؛ فإذا تكلمنا صرنا أسرى كلماتنا! ليس معنى (أمسك عليك لسانك) أن نمتنع عن الكلام، بل المعنى أن نتريث فلا نعجل؛ يقول الشاعر:
اِسْمَعْ مُخاطَبةَ الجَليسِ ولا تَكُنْ
عَجِلاً بِنُطْقِكَ قَبْلَما تَتَفَهَمُ
لَمْ تُعْطَ مَعَ أُذُنَيْكَ نُطْقَاً وَاحِداً
إلاَ لِتَسْمَعَ ضِعْفَ مَا تَتَكَلَمُ
كما أن علينا أن نتخير أجمل وأفضل وأحسن ما يمكن أن نتفوه به من ألفاظٍ، وننتقي من الكلمات التي نوجهها لغيرنا ما نحب أن نسمعه منهم؛ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: [لاَ يُؤمِنُ أَحدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [أَحِبَّ للنَّاسِ ما تُحبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسلماً].

ولكل من تلقى مني كلماتٍ جارحةً في يومٍ من الأيام، سواءً اعتذرت له أم لم أعتذر، أرجو منه أن يكون أفضل مني فيتصدق عليّ بالصفح والمسامحة؛ عسى الله سبحانه وتعالى أن يكتب ذلك في ميزان حسناته، وعسى أن أتخفف من أوزاري، فكفاني ما لديّ منها أدعو الله أن يغفرها لي، وأطلب منكم أحبتي أن تدعوا لي بظهر الغيب بالعفو والمغفرة.

اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك تعلم ما لا نعلم، وأنت الغفور الرحيم. واجعلنا اللهم ممن يمسكون ألسنتهم إلا عن كلمات الخير والحق.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/b7LY4j