الجمعة، 12 مارس 2021

حسبنا الله ونعم الوكيل

 

خاطرة الجمعة /282


الجمعة 12 مارس 2021م

(حسبنا الله ونعم الوكيل)

 

قصةٌ يرويها لنا خطيب أحد المساجد بالشام؛ يقول راوي القصة:

كنتُ أمشي في بعض أسواق دمشق، فخرج من أحد المحلات رجلٌ واعترضني، وقال لي: أنت تخطب في المسجد؟ قلتُ: نعم، قال لي: البارحة بأحد أسواق دمشق المغطاة، كان هناك بائع أقمشةٍ سمع إطلاق رصاصٍ، فمدّ رأسه ليرى ما الخبر، فإذا رصاصةٌ تستقر في نخاعه الشوكي، فشُلَّ فوراً؛ فما ذنبه؟ أليس العمل عبادة؟ إنسانٌ عنده أولادٌ جاء لمحله التجاري وفتحه حتى يسترزق؛ أين الخطأ؟ أين الذنب؟ هو في عملٍ في بيعٍ وشراء؟ أليس عمله مباحاً؟ فقلتُ: واللهِ أنا لا أعلم، ولكني أثق في عدل الله، أثق أن الله عادلٌ، لكن لماذا حصل له ذلك، لا أعلم.

ولحكمةٍ بالغةٍ بعد عشرين يوماً كان عندي في المسجد أحد الأخوة، وهو مديرٌ لأحد المعاهد، قال لي: أنا ساكنٌ في أحد أحياء دمشق، لنا جارٌ فوقنا مغتصبٌ لبيتٍ لأولاد أخيه الأيتام، وخلال ثماني سنواتٍ رفض أن يعطيهم إياه، فشكوه إلى أحد العلماء الأفاضل هو شيخ قرّاء الشام -تُوفي رحمه الله- فاستدعى العالِم الجليل عم هؤلاء الأيتام، وتكلم معه في الأمر؛ فرفض -بوقاحةٍ- أن يعطي أولاد أخيه البيت. كان العالِم حكيماً فخاطب أبناء أخ ذلك الجار وقال لهم: يا أولادي هذا عمكم، لا يليق بكم أن تشكوه إلى القضاء، اشكوه إلى الله؛ قولوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فقالوها جميعاً ثم انصرفوا. كان هذا الكلام في الساعة التاسعة مساءً، الساعة التاسعة صباحاً كان العم المغتصب هو نفسه الذي أطلّ برأسه ليرى ما الخبر، فجاءت رصاصةٌ -لا تقل طائشة- بل كانت مصوبةً نحوه؛ فاستقرت في عموده الفقري، فشُلّ فوراً.

 

أحبتي في الله .. لقد رفع المظلومون قضيتهم إلى الله سبحانه وتعالى حينما قالوا (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وقتها انتقل ملف قضيتهم من الأرض إلى رب الأرض، ومن المخلوق إلى الخالق. انتقل الملف من أيدي الضعاف إلى عرش ملك الملوك القوي القاهر الجبار الكبير المتعال، ومن دهاليز محاكم الأرض إلى عدالة محكمة الآخرة والتي من قوانينها:

أن الملفات علنيةٌ غير سريةٍ؛ يقول تعالى: ﴿ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا﴾. والحضور تحت حراسةٍ مشددةٍ وبوجود شهود؛ يقول تعالى: ﴿وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾. والظلم فيها مستحيل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾. كما أنه ليس هناك محامٍ يدافع عنك؛ يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾. والرشوة والواسطة مستحيلةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾. كل شيءٍ مسجلٌ وموثقٌ ومرصودٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. أما استلام الحكم فيكون باليد؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾. ولا يوجد حكمٌ غيابيٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾. ولا يوجد استئنافٌ للحكم ولا نقضٌ؛ يقول تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾. وشهود الإثبات لا يكذبون؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

لا توجد ملفاتٌ منسيةٌ؛ يقول تعالى: ﴿أحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾. إنه ميزانٌ دقيقٌ للأعمال؛ يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسبين﴾.

 

يقول أهل العلم إن (حسبنا الله ونعم الوكيل) من أعظم الأدعية الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة، وردت مشروعيته في القرآن الكريم في حكاية الله عز وجل عن الصحابة الكرام في أعقاب معركة أُحُد، في "حمراء الأسد"، وذلك حين خوَّفهم بعضُ المنافقين بأن أهل مكة جمعوا لهم الجموع التي لا تُهزم، وأخذوا يثبِّطون عزائمهم، فلم يزدهم ذلك إلا إيماناً بوعد الله، وتمسكاً بالحق الذي هم عليه، فقالوا في جواب هذه المعركة النفسية العظيمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل)؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ عندما قالوا ذلك كانت استجابة المولى عزَّ وجلَّ لهم فوريةً؛ يقول تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.

كما ورد في صحيح البخاري أن تلك الكلمة كانت على لسان أولي العزم من الرسل؛ قالها إبراهيم عليه السلام في أعظم محنةٍ اُبتلي بها حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس: "إن الناس قد جمعوا لكم".

ومعناها: الله وحده كافينا، ومنه اسمه تعالى الحَسيب، وهو ناصرٌ لمن انتصر به واستنصر به؛ فإذا اتجه الإنسان إليه في أموره أعانه وساعده وتولاه. وهذا الدعاء من أعظم الأدعية فضلاً وأعلاها مرتبةً؛ لأنه يتضمن حقيقة التوكل على الله عزَّ وجلَّ، ومَن صَدَق في لجوئه إلى ربه سبحانه حقق له الكفاية المطلقة، من شر الأعداء، ومن هموم الدنيا ونكدها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ ومن كفاه الله سَعِدَ في الدنيا والآخرة بقدرة الله وعزته وحكمته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذا وَقَعْتُمْ فِي الأَمْرِ العَظِيمِ فَقُولوا: حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ]. وقَالَ عليه الصلاة والسلام: [ ... فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]. وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا].

والظالم الذي يُقال في حقه هذا الدعاء ليس له إلا التوبة الصادقة، وطلب العفو ممن ظلمهم وانتهك حقوقهم، ورد المظالم إلى أهلها؛ وإلا فإن الله عز وجل سيكون خصمه يوم القيامة، وغالباً ما يُعجِّل له العقوبة في الدنيا، فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

 

قال الشاعر:

لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدراً

فَالظُلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إلى النَّدَمِ

تنامُ عَيْنُكَ والمَظْلومُ مُنَتَبِـهٌ

يَدعو عليكَ وعينُ الله لم تنمِ

وقال آخر:

أما واللهِ إنَّ الظُلمَ شُؤمٌ

وما زالَ الظَلومُ هو المَلومُ

إلى دَيانِ يومِ الدينِ نَمضي

وعندَ اللهِ تَجتمعُ الخصومُ

ستعلمُ في المعادِ إذا التقينا

غدًا عندَ المليكِ مَنْ الظَلومُ

 

أحبتي .. اتقِّوا دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب، واحذروا مقت الله تعالى وانتقامه؛ فمن قال (حسبي الله ونعم الوكيل) كفاه الله وانتقم له؛ فلنتقِ الله وننأى بأنفسنا عن أن نَظلم؛ فالظلم عاقبته وخيمةٌ على الظالم في الدنيا والآخرة. ومن كان منا قد ظَلم، فليسارع برد المظالم إلى أهلها، طاعةً لربه، والتزاماً بسُنة نبيه، ودفعاً لما سيصيبه حتماً إذا دعى المظلومون عليه وقالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل).

ربنا لا تجعلنا من الظالمين الذين قال الله عنهم: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. ولا تجعلنا من أعوان الظالمين الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: [مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ]. ولا تجعلنا اللهم ممن يرضون عن أعمال الظالمين ويميلون إليهم، ولو بقلوبهم، فهؤلاء -وإن لم يَظلموا- ستمسهم النار؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾. ولنتواصَى باتباع سِنة النبي؛ قال عليه الصلاة والسلام: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا]، قال رجلٌ: يا رسول الله، نصرتُه مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: [تحْجُزُهُ - أَوْ تمْنَعُهُ - مِنَ الظُلْمِ؛ فَإِنَّ ذلِكَ نَصرُهُ]، فإن أبي البعض منا أن ينصر أخاه، فلا أقل من أن يلتزم بالحكمة التي تقول: "إن لم تستطع قول الحق، فلا تصفق للباطل".

اللهم اجعلنا من ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

 

https://bit.ly/30z3yyY