الجمعة، 28 أكتوبر 2022

إرشاد الضالين

 

خاطرة الجمعة /367


الجمعة 28 أكتوبر 2022م

(إرشاد الضالين)

 

هذه القصة من ألمانيا، نشرها مصريٌ مُقيمٌ هناك مُنذ فترةٍ طويلةٍ، كتب يقول: في محطة القطار في مدينة ميونخ الألمانية، والوقت متأخرٌ ليلاً، والطقس باردٌ، قطعتُ تذكرةً للسفر إلى مدينة فريدريشهافن حيث يُقام معرضٌ لآلات البلاستيك كنتُ أخطط لزيارته، وإذا بالموظف في الشباك الثاني لقطع التذاكر يسألني إن كنتُ أعرف لغة المسافر الذي يتحدث معه لأشرح له كيفية السفر إلى المكان المطلوب، المُسافر كان من مواطني إحدى دول الخليج العربي، وكان يُريد أن يُتابع سفره إلى مدينة فرانكفورت للعلاج -على ما أذكر- ولم يكن هناك في هذا الوقت المتأخر قطارٌ يذهب مباشرةً إلى فرانكفورت؛ فكان عليه أن يُبدّل القطار مرتين في محطتين مُختلفتين ليصل إلى هدفه، وكانت هذه أول مرةٍ يُسافر فيها إلى ألمانيا، وهو لا يتكلم أية لغةٍ أجنبية. حاولتُ أن أشرح له سريعاً كيفية الوصول، لكن تعابير وجهه لم تكن تدل على أنه استوعب ذلك؛ فأحضرتُ ورقةً وكتبتُ له باللغة العربية اسم البلدة الأولى ووقت الوصول وأنّ عليه النزول سريعاً إلى المحطة ليلحق بالقطار المطلوب، ثم يفعل ذلك مرةً ثانيةً في البلدة التالية حيث كتبتُ اسمها ووقت الوصول إليها وأخبرته بأن عليه النزول سريعاً ليلحق بالقطار الثاني المتجه إلى فرانكفورت، وكتبتُ الترجمة بالألمانية تحت كل جملةٍ ليُعلَم معناها ِويُرشَد من قِبَل من يقرأها إلى الوجهة المطلوبة، ثم رافقته إلى الرصيف الذي يركب منه القطار، وصعدتُ معه إلى القطار، وتابعته إلى أن جلس في مقعده، وتكلمتُ إلى جليسٍ ألمانيٍ بقُربه ووعدني أن يُرشده للوجهة الأولى، لوّحتُ له مودعاً وتمنيتُ له سلامة الوصول.

انتبهتُ لنفسي ونظرتُ إلى تذكرتي فوجدتُ نفسي على رصيفٍ غير الذي يجب أن أكون عليه لأركب قطاري، وقد مضت خمس دقائق على توقيت القطار المطلوب؛ فركضتُ مُسرعاً إلى الرصيف فإذا بالقطار كأنه ينتظرني وهو على أهبة السير، وقد كُتب على اللوحة الإلكترونية "تأخير خمس دقائق"، صعدتُ لاهثاً وانطلق القطار فور صعودي إليه! فحمدتُ الله كثيراً. وصلتُ إلى وجهتي مُنتصف الليل، وأخذتُ سيارة أُجرةٍ فسار بي سائقها قليلاً للخروج من محطة القطار، ثم سألني عن وجهتي، فأجبته: "إلى أي فُندقٍ في المدينة"، فتوقف فجأةً وقال: "أعتذر منك؛ فالفنادق كلها مشغولةٌ منذ الساعة العاشرة؛ بسبب وجود معرضٍ بالمدينة، ولا يوجد مكانٌ واحدٌ شاغرٌ فتفضل بالنزول"، قلتُ: "إلى أين أذهب في هذه الساعة وفي هذا الطقس البارد؟"، فرّق لحالي ثم اتصل عبر جهازه اللاسلكي بمكتب سيارات الأُجرة الذي يوجهه وقال للموظفة التي ردت عليه: "معي راكبٌ يُريد فندقاً"، فأجابت بعصبيةٍ: "ألم أقل لك مِراراً إنه لا توجد شواغر في الفنادق كلها!"، في هذه الثانية سمعنا صوت رنين الهاتف الداخلي بمكتبها فأجابت عليه، ثم قالت للسائق انطلق إلى فندق "الدولاب الذهبي"، فإن نزيلاً اعتذر عن الحضور وحجزتُ للراكب الذي معك المكان؛ أعطني اسمه"، وإذا بالسائق يقول مُتعجباً: "انغلوبليش انغلوبليش" بمعنى لا أصدق! لا أصدق! فقد كان مُندهشاً لهذا التوقيت العجيب ولا يجد له تفسيراً! وصلتُ الفندق فحيّاني موظف الاستقبال وقد كُتبت على لوحةٍ أمامه عبارة: "لا توجد أماكن شاغرة"، وقال لي: "أنت محظوظٌ؛ العشرات ينتظرون مكاناً شاغراً". استلمتُ الغُرفة ونظرتُ من شُرفتها التي تُطل على البُحيرة ومناظرها الخلابة وأضوائها الهادئة، وسُكونها المُريح فانحدرت دمعاتٌ رقيقةٌ من عينيّ وحدثتُ نفسي: "قطارٌ بمئات الركاب يتأخر لأجل راكب! وغُرفةٌ مُميزةٌ في فندقٍ مُميزٍ تُحجز في توقيتٍ مُعجزٍ في الدقة لفردٍ مُعينٍ دون العشرات! كل هذا الكرم يا رب مِن أجل الوقوف على رصيف محطةٍ لمُساعدة إنسانٍ تائه؟! ما أكرمك ربي، اللهم لك الحمد والشكر".

 

أحبتي في الله.. إنها بركة عملٍ من أعمال الخير لا يُكلف الإنسان مالاً ولا كثير جُهدٍ، ألا وهو (إرشاد الضالين). لم يتأخر الثواب عن فاعل الخير؛ وإنما أتى فور انتهاء عمل الخير؛ ألم يقل سُبحانه وتعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾؟ وأليس هو -عزّ وجلّ- القائل: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾؟ لقد نال فاعل الخير أجره في الدنيا، أما أجر الآخرة فمدخرٌ له إلى يوم الحساب.

وهذا العمل حقٌ من حقوق الطريق، قال عليه الصلاة والسلام حين سُئل عن حق الطريق: [حَقُّ الطَّرِيقِ: أَنْ تَرُدَّ السَّلامَ، وَتَغُضَّ الْبَصَرَ، وَتَكُفَّ الأَذَى، وَتَهْدِيَ الضَّالَّ، وَتُعِينَ الْمَلْهُوفَ]. كما قال: [إِيَّاكُمْ والجُلوسَ في الصُّعُدَاءِ، وفي روايةٍ: الطُرقِ، فإنْ كنتُمْ لابُدَ فَاعِلِينَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حقَّهُ] قيل: وما حَقُّهُ؟ قال: [غَضُّ البَصَرِ، ورَدُّ السلامِ، وإِرْشَادُ الضَّالِّ].

ورغم أن إرشاد وتوجيه الغير إلى مكانٍ يودون الوصول إليه يبدو عملاً بسيطاً، إلا أن ثوابه عند الله سُبحانه وتعالى عظيم؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرقٍ، أَوْ مَنِيحَةَ لَبَنٍ، أَوْ هَدَى زُقَاقًا، كَانَ لَهُ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ]. وَقَالَ مَرَّةً: [كَعِتْقِ رَقَبَةٍ]. "مَنْ مَنَحَ"، أي: أعطى. "مَنِيحَةَ وَرِقٍ": أي قرضٍ مِن فِضَّةٍ. "مَنِيحَةَ لَبَنٍ": أي ناقةً أو شاةً تُدِرُّ لبَنًا فيُنتفَعُ به، ثمَّ يردها إلى صاحبِها بعد ذلك، "أو هَدَى زُقَاقًا": أي أرشَدَ الضَّالَّ أو الأعمى إلى الطَّريقِ. "الزُقَاق": هو الطريق. وهداية التائه والغريب والضال إلى الطريق، ومُساعدة الكفيف على عبوره تُعد من الصدقات؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وهِدايتُكَ الطريقَ صَدَقةٌ]، كما قال عليه الصلاة والسلام: [وهدايتُكَ الرَّجُلَ في أرضِ الضَّالَّةِ صدَقةٌ].

 

إن كان هذا هو أجر وثواب (إرشاد الضالين) ومُساعدة شخصٍ لا يعرف طريقه، أو لا يستدل على مكانٍ يود الذهاب إليه، أو الأخذ بيد كفيفٍ لا يُبصر، فما بالنا بالأجر والثواب الذي يناله من يُرشد غيره إلى طريقٍ أهم؛ طريق الخير وسبيل الرشاد المُوَصِّل إلى مرضاة الله والفوز بجنته برحمته سُبحانه وتعالى؟

قال أهل العلم إن مِن أعظم الأعمال أجراً وثواباً الدعوة إلى طريق ربِّ العالَمين، و(إرشاد الضالين) وهداية الحائرين؛ لأجل هذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: [فواللهِ لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]. {المقصود بحُمْرُ النَّعَمِ هي: أجود الإبل وأحسنها، وهي الإبل الحمراء وكانت أعجب وأنفس الأموال وأحبها إلى العرب}.

 إنها لتجارةٌ رابحةٌ أن تأخذَ أجراً لأنك كنتَ سبباً في هداية غيرك؛ فكلُّ ما يعملونه مِن خيرٍ يُكتَب لك أجره، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ويستمر ذلك الأجر لك باستمرار أعمالهم وأعمال من يُرشدونهم إلى يوم القيامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا. ومن سنَّ سُنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده، لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]؛ فدعوة الغير إلى طريق الحق لها ثوابٌ عظيمٌ يغفل عنه الكثير مِنا. لقد قصَّرنا في دعوةِ غير المُسلمين للإسلام، وفي دعوة بعضنا بعضاً إلى الخير، و(إرشاد الضالين)، وظنَّ البعض أن الدعوة إلى الله ونشرَ سُنة النبي صلى الله عليه وسلم واجبٌ على الدعاة فقط، وغفلوا عن أن تبليغ دعوةِ الإسلام واجبٌ على كلِ مُسلمٍ، كلٌّ حسَبَ قدرته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً]، ومن أفضل أساليب الدعوة وأكثرها تأثيراً الدعوة بالقدوة؛ بأن يكون المُسلم بأخلاقه وأقواله وسلوكه ومعاملاته مثالاً يقتدي به غيره.

ومُخطِئٌ مَن يتوهَّم أنه يجبُ عليه ألا يَدُلَّ الناس على خيرٍ لا يفعله، بل العاقل اللبيب هو الذي يجتهد قدرَ استطاعته في فعل الطاعات والواجبات والمُستحبَّات، ويدعو غيرَه إلى ذلك، حتى وإن قصَّر هو في العملِ أحياناً، فعليه ألا يُقصّر في الدعوة.

 

أحبتي.. يقول تعالى حاثاً الناس على المُسارعة إلى عمل الخير والتسابق فيه: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾؛ فلنحرص دائماً على (إرشاد الضالين) ودلالة الآخرين على المكان الذي يُريدون الوصول له لنحصل على الأجر والثواب في الدُنيا والآخرة، ولو استطعنا أن نوصلهم إلى ذلك المكان بأنفسنا لكان أفضل.

والأهم من ذلك هو دعوة غير المُسلمين للدخول في الإسلام، و(إرشاد الضالين) من المُسلمين للعودة إلى الطريق المُستقيم وتصويب مسارهم لنلتقي كلنا جميعاً في جنات الفردوس ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾.

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

 

https://bit.ly/3NdHq4M