الجمعة، 15 يناير 2016

الشريك العاشر

15 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٤

(الشريك العاشر)

تسعة شبان من قرية واحدة من قرى مصر، جمعت بينهم صداقة قوية خلال فترة التجنيد، فاتفقوا عام ١٩٨٢م على أن يبدأوا مشروعاً استثمارياً بقريتهم الصغيرة الهادئة قرية "تفهنا الأشراف" مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وكان مشروع مزرعة الدواجن من المشروعات الرائجة في تلك الأيام، فقرروا أن يكون هذا هو مشروعهم، وكانوا في حاجة إلى مبلغ ٢٠٠٠ جنيه لتنفيذ المشروع، ساهم كلٌ منهم بمبلغ ٢٠٠ جنيه وظلوا يبحثون عن (الشريك العاشر) لتكتمل ميزانية المشروع، لكنهم لم يجدوا هذا الشريك، إلى أن أخبرهم يوماً المهندس صلاح عطية -وكان صاحب فكرة المشروع- أنه وجد (الشريك العاشر)، تهللت وجوه شركائه الشباب وتساءلوا بلهفة عمن يكون (الشريك العاشر)؟، قال لهم: هو "الله" ندخله معنا شريكاً عاشراً له عُشر الأرباح عسى أن يوفقنا سبحانه وتعالى. وخلال كتابة عقد الشركة قرر الشباب الشركاء التسعة تخصيص نسبة 10% من الربح لإنفاقها في وجوه الخير باسم "سهم الله الأعظم". فإذا بحصيلة الربح في العام الأول كبيرة جدًّا، فزادوا نسبة "سهم الله الأعظم" إلى 20% من الربح، وهكذا كلما زاد الربح زادوا نسبة السهم وزاد المال المخصص لأعمال الخير. وتوسعت أعمالهم: من مزرعة واحدة إلى عشر، ومن مصنع واحد إلى ثلاثة: مصنع لأعلاف الدواجن، وآخر للمركزات، وثالث لأعلاف الماشية، ثم انتقلوا إلى الإتجار في الحاصلات الزراعية فصدروا الموالح والبطاطس والبصل لعدة بلدان خارج مصر. عَمَّ الخير وأصبح حجم الاستثمارات بالملايين. وبعد عامين من بداية المشروع ومع تنامي الأرباح وبمساهمات من أهالي القرية، قام هؤلاء الشباب بإنشاء "مركز إسلامي" بالقرية، بدأ نشاطه بحضانة لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، ثم إنشاء ستة معاهد أزهرية بالقرية بالتتابع: معهد ابتدائي للبنين أعقبه مثله للبنات، معهد إعدادي للبنين أعقبه مثله للبنات، معهد ثانوي للبنين أعقبه مثله للبنات! فهل وقف طموح هؤلاء الشباب عند هذا الحد؟ لا؛ قرروا إنشاء كلية جامعية بالقرية! قدموا طلباً بذلك فرُفض حيث لا توجد بالقرية محطة للقطار، فقاموا بإنشاء محطة قطار بالقرية بالجهود الذاتية، وحصلوا على الموافقة؛ ولأول مرة بتاريخ مصر يتم افتتاح كلية جامعية بقرية صغيرة! ثم أصبحت الكلية الواحدة كليتين، ثم ثلاث، ثم أربع: كلية للشريعة والقانون، تلاها كلية للتجارة بنات ثم كلية لأصول الدين ثم كلية رابعة للتربية. وتوافد على هذه الكليات طلاب من غير أبناء القرية؛ فماذا هم فاعلون؟ قرروا إنشاء مدينتين جامعيتين: واحدة للطلاب المغتربين (تسع ١٠٠٠ طالباً)، وأخرى للطالبات المغتربات (تسع ٦٠٠ طالبة)! وتسبب وجود أربع كليات جامعية بالقرية في حدوث رواج تجاري، وحركة نشيطة للنقل والمواصلات. كما قامت غالبية البيوت ببناء حجرات إضافية لتأجيرها للطلاب.
وفاض الخير، فقام المركز بتجهيز البنات اليتامى عند الزواج، وقام بمساعدة الفقراء والأرامل وغيرهم من الشباب العاطل لعمل مشاريع تغنيهم من بعد فقرهم؛ والنتيجة أنه لم يعد بالقرية عاطل ولا فقير!
وساهمت "لجنة المصالحات" التابعة للمركز الذي يرأس إدارته المهندس صلاح عطية، في حل الخلافات المتنوعة داخل القرية، وكانت نتيجة ذلك أنه لم تصل مشكلة واحدة من القرية إلى مركز الشرطة طوال العشرين عاماً الماضية!
وما كنت لديهم حين اتفق الشركاء على أن يكون المشروع كله لله؛ فتنازلوا عن أرباحهم السنوية وتحولوا من شركاء إلى عمال عند رب العزة يتقاضون أجوراً محددة، مع دعائهم لله سبحانه وتعالى ألا يفقرهم إلا له ولا يحوجهم إلا إليه. الله أكبر، أبصر بهم وأسمع، كأني بهؤلاء الشباب قد انطبق عليهم الوصف القرآني: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.
أحبتي في الله .. أكتب هذه الخاطرة بمناسبة وفاة مؤسس ومدير المشروع المهندس/ صلاح عطية، الذي حول مفهوم التجارة مع الله من عمل فردي إلى عمل مؤسسي متكامل، إنها عبقرية الإبداع، أن يكون الله سبحانه وتعالى هو (الشريك العاشر).
لله درك يا صلاح أنت وصَحْبُك؛ أخلصتم النية لله وأحسنتم العمل فكان الله معكم وأدهشكم بعطائه، كأنكم ممن يشير إليهم قوله تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ  فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، وكأن أهل قريتك الذين شاركوك إخلاص النية وإتقان العمل وصدق التوكل على الله ينطبق عليهم قول المولى عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾، وقوله: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾.
أَمِثْلُكَ يا صلاح يعيش في صمت ويعمل في صمت ولا يُسْمٓع عنه إلا بعد وفاته؟! أين إعلامنا من عرض مثل هذه الإنجازات والتجارب الناجحة؟ لك الله يا صلاح، أراد عز وجل أن يكون لك من اسمك نصيب، اسمك "صلاح" وفي عملك وفعلك "صلاح" لنفسك ولغيرك .. مُتَّ يا صلاح لكن مشروعك مستمرٌ كمثالٍ يُحتذى به، وفكرتك ما تزال متألقة، فكرةٌ طيبةٌ كشجرةٍ طيبةٍ ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾؛ عسى أن تكون إلهاماً لغيرك ليسير على طريق الصلاح والإصلاح.
لقد سار في جنازتك يوم الاثنين الماضي آلاف البشر حباً ووفاءً، أفلا تكون تلك بداية للاهتمام بأمثال هؤلاء الشباب؟ ألا يجب أن يكونوا هم نجوم المجتمع وأن تُعرض قصص نجاحهم في وسائل الإعلام وأن يتم تدريس مثل هذه النماذج لطلبة المدارس؟
هلا فكرنا بإنشاء "جائزة صلاح عطية الإسلامية" على غرار جائزة نوبل، رصداً للتجارب الرائدة في عالمنا الإسلامي وتكريماً لأصحابها وحفزاً لشبابٍ قادرٍ على أن يستلهم من دينه ما يغير به وجه الحياة إلى الأحسن والأفضل والأرقى؟
[وخروجاً عن تقاليد هذه الخواطر الأسبوعية؛ أطلب من كل واحد منكم، رجاءً وليس أمراً، أن ينشر هذه الخاطرة على أوسع نطاق ممكن؛ فقد أصبح قدرنا أن نكون نحن الإعلام البديل. أنشروا وعمموا عسى يفيق الغافلون وينتبه المضللون إلى أن في التمسك بديننا الإسلامي حلاً لجميع مشاكلنا دون استثناء].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.