الجمعة، 27 أكتوبر 2023

رضا الله

 

خاطرة الجمعة /418

الجمعة 27 أكتوبر 2023م

(رضا الله)

 

يروي رجلٌ سعوديٌ كبيرٌ في السن من قبيلة «بني شهر» حكايةً حدثت له قبل سنواتٍ طويلةٍ؛ فقال: إنه سافر مع رجلٍ من جماعته إلى «فلسطين» طلباً للرزق أيام الحاجة والفقر؛ فجئنا إلى مزرعةٍ يُسمونها هناك "بيّارة"، ورأينا صاحبها جالساً على أريكةٍ مع أصحابه، بين أصبعيه سيجارٌ ضخمٌ، وله شاربان كبيران، فجلسنا ننتظر الإذن بالحديث معه، وحان وقت صلاة العصر؛ فقال لي صاحبي: "هيا نُصلي"، فقلتُ له: "اتركنا من الصلاة الآن، سنُصلي فيما بعد"، خِفتُ أن يطردنا الرجل صاحب المزرعة؛ فقام صاحبي وأذَّن وصلّى، وأنا جالسٌ، فلما انتهى من صلاته قلتُ لصاحبي: "أبشر بالطّرد الآن"، قال لي: "الرزق عند الله، وليس عند صاحب هذا الشارب المخيف".

بعد وقتٍ قصيرٍ جاء إلينا صبيٌّ وسأل: "أين الذي صلّى؟"، فقلتُ مباشرةً وأنا خائفٌ: "هذا هو" وأشرتُ إلى صاحبي، فقال له الصبي: "قُم معي، سيدي يريدك"، فقام مع الصبي، ورأيته يتحدث مع صاحب المزرعة بأسلوبٍ لطيفٍ، عاد بعدها صاحبي وقال لي معتذراً: "الرجل وظفني لأنه رآني أصلي، وقال لي أنت ستكون مسؤولاً عن البيت وحاجاته، ولما طلبتُ منه توظيفك قال ليس له عندي عملٌ، فاستأذنته أن تبقى معي حتى نجد لك عملاً فأذِن لي".

قال راوي القصة: "فبقيتُ عالةً على صاحبي حوالي شهرٍ حتى يسَّر الله لي عملاً في مزرعةٍ أخرى، لكني لن أنسَ ما حييتُ أني أخطأتُ يومئذٍ خطأً جسيماً بأن قدمتُ رضا صاحب المزرعة على (رضا الله) عزَّ وجلَّ".

 

أحبتي في الله.. عن ذات المعنى ذكر كاتبٌ جليلٌ قصة طفلةٍ صغيرةٍ من بيتٍ محافظٍ عادت ذات يومٍ إلى أُمها من المدرسة وعليها سحابة حزنٍ وكآبةٍ وهمٍّ وغمٍّ؛ فسألتها أُمها عن سبب ذلك؛ فقالت: "إن معلمتي هددتني إن جئتُ مرةً أخرى إلى المدرسة بمثل هذه الملابس الطويلة"، قالت الأم: "ولكنها الملابس التي يريدها الله جلَّ وعلا"، قالت الطفلة: "لكن المعلمة لا تريدها"، قالت الأم: "المعلمة لا تريد والله يريد، فمن تُطيعين إذاً، الذي خلقك وصوَّرك وأنعم عليك، أم مخلوقاً لا يملك ضَراً ولا نفعاً؟"، فقالت الطفلة بفطرتها السليمة: "بل أطيع الله، وليكن ما يكون". في اليوم التالي لبست الطفلة ملابسها الطويلة، وذهبت بها إلى المدرسة؛ فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبةً تؤنب الطفلة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، وأكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت، ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة، فانفجرت في بكاءٍ عظيمٍ شديدٍ مريرٍ أَليمٍ، أذهل المعلمة، ثم كفْكفتْ الطفلة دموعها، وقالت كلمة حقٍ خرجت من فمها كالقذيفة، قالت: "والله! لا أدري من أطيع؟ أنتِ أم هو؟"، قالت المعلمة: "ومن هو؟"، قالت الطفلة: "الله رب العالمين، الذي خلقني وخلقك، وصوَّرني وصوَّرك، هل أُطيعك؛ فألبس ما تريدين، وأُغضبه هو. أم أُطيعه وأعصيك أنت؟، لا. سأطيعه، وليكن ما يكون". ذُهلت المعلمة، وسألت نفسها: "هل هي تتكلم مع طفلةٍ أم مع فتاةٍ راشدة؟". ووقعت منها كلمات الطفلة موقعاً عظيماً بليغاً؛ فسكتت عنها المعلمة، وفي اليوم التالي استدعت أمَّ البنت، وقالت لها: "لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظةٍ سمعتها في حياتي؛ فقد عرفتني ابنتك أن (رضا الله) مُقدمٌ عن رضا غيره، مهما كان. ربيتِ فأحسنتِ التربية؛ فجزاكِ الله خيراً".

 

تعقيباً على هذه القصة قال أحد العلماء: إن إرضاء الناس غايةٌ لا تُدرك؛ فإرضاء البشر ليس في الإمكان أبداً؛ لأن علمهم قاصرٌ، وعقولهم محدودةٌ، يعتَوِرُهم الهوى والنقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك، فلا يمكن إرضاؤهم. إن إرضاء الله هو الواجب؛ لأن دينه واحدٌ وسبيله واحدٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾، ولأن في طاعة غير الله الضلال؛ يقول سبحانه: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أرْضَى الناسَ بسخَطِ اللهِ وكَلَهُ اللهُ إلى الناسِ، ومَنْ أسخَطَ الناسَ برضا اللهِ كفاهُ اللهُ مُؤْنَةَ الناسِ]. يقول شُرّاح الحديث إن (رضا الله) عزَّ وجلَّ من أهم ما يسعى إليه كل مؤمنٍ حصيفٍ، فمن رَضِيَ الله عنه غفر له ورحمه وأدخله جنته، والفائز حقاً هو من فاز بمرضاة الله سبحانه وتعالى. فمن سعى في سبيل الفوز برضا الناس، ونيل مرضاتهم بمعصية الله، وعدم المبالاة بما أمر وما نهى، وعدم الاحتراز من سخط الله، ترك الله أمره إلى الناس، وسلَّطهم عليه، فلم يُرضوه ولم يرضوْا عنه، وسخط الله عليه. وأما من سعى في سبيل الفوز بمرضاة الله عزَّ وجلَّ، ولو كلفه ذلك كُره الناس له، وعدم رضاهم عنه وسخطهم عليه، حفظه الله من سخط الناس عليه، وأرضى عنه الناس، وكفاه هَمّ ذلك. إنَّ المرء قد يرتكب المعاصي إرضاءً للناس، ومجاملةً لهم، ولئلا يقع في الإحراج أمامهم؛ فعلى سبيل المثال، قد تجلس مجموعةٌ من الناس في مجلسٍ فيقوم أحدهم باستغابة شخصٍ غير موجودٍ في المجلس، فإن رضي بقية الجالسين بمعصيته فإنهم مُشاركون له بالمعصية، والأعظم من ذلك أن يقوموا بمجاملته ومداراته والخوض معه في هذه المعصية من أجل كسب رضاه وعدم إغضابه، فيكون ذلك سبباً لإحلال غضب الله عليهم. وقد يجلس شابٌ مع مجموعةٍ من الشباب فيقومون بفعل معصيةٍ من المعاصي فيقوم هذا الشاب بفعل تلك المعصية مجاملةً لهم وإرضاءً لهم على حساب دينه؛ فيكون بذلك قد أرضى الناس بمعصيةٍ تُغضب الله وتستوجب سخطه عليه.

 

وَرَدَ في الأثر: "رضا الناس غايةٌ لا تُدرك، و(رضا الله) غايةٌ لا تُترك؛ فاترك مالا يُدرك لأجل مالا يُترك".

ويقول أهل العلم إنّ مَن التمس رضا الناس بسخط الله مآله وعاقبة أمره إلى الخُسران، حتى وإن وجد بعض الفائدة من ذلك، لكن العاقبة لا تكون حميدةً أبداً، سواءً في الدنيا أو في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط. أما من التمس (رضا الله) بسخط الناس فلا بد أن تكون عاقبته حميدةً، وقد لا يتأتى هذا عاجلاً، وإنما يتأتى بالصبر، فالإنسان قد يرى أول الأمر شيئاً من الإعراض من الناس إذا التمس (رضا الله) بسخطهم، وقد يجد شيئاً من المضايقة، لكنه بالصبر لا بد أن تكون العاقبة له، إما في الدنيا والآخرة وهو الغالب، وإما في الآخرة فقط، لكن ذلك مشروطٌ بصدق النية والإخلاص مع الله عزَّ وجلَّ، والصبر على ما يصيبه من بلاء، وأكثر الناس قد لا يصبر، فلا تحصل له النتيجة التي يأملها؛ لأنه لم يتحقق عنده شرط الصبر.

 

وعن الحرص على (رضا الله) تبارك وتعالى دون سواه قالت إحدى العارفات بالله:

فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ

وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ

وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ

وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

 

أحبتي.. وَصَفَ الله سبحانه وتعالى المنافقين بقوله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾؛ فليحرص كلٌ منا ألا يفعل فعل المنافقين؛ فيُقدِّم رضا الناس على (رضا الله) تبارك وتعالى، مهما بلغ هؤلاء الناس من مكانةٍ أو مهابةٍ، ومهما بلغت سطوتهم وعلا جبروتهم، بل نحرص على رضا ربنا عزَّ وجلَّ؛ نُرضي ربنا ولا نُجامل على حساب ديننا، نُرضي ربنا ولا نسكت عن قول الحق خوفاً أو طمعاً، نُرضي ربنا مهما كان الثمن الذي ندفعه لذلك ولو كان الثمن حياتنا، فهذا هو الإيمان الحق. وفي زمنٍ كَثُر فيه الفساد والفتن والمغريات، وقلَّ فيه الأعوان على الطاعة، ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المؤمنين الصادقين، الثابتين وقت الفتن، المتمسكين بديننا كالقابضين على الجمر، الذين لا يبيعون دينهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل. اللهم حَبِّب إلينا الإيمان وزَيِّنه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

https://bit.ly/3tVxabC