الجمعة، 30 ديسمبر 2016

حُسن الظن بالناس

الجمعة 30 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٤
(حُسن الظن بالناس)

أرسل لي صديقي العزيز قصةً يتداولها بعض الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، تقول القصة:
{إذ جاء طائر إلى بركة ماء ليشرب منها، وجد أطفالاً بقربها، فخاف منهم حتى غادر الأطفال وابتعدوا. وبالصدفة جاء رجل ذو لحية طويلة إلى البركة، فقال الطير في نفسه: هذا رجل وقور ولا يمكن أن يؤذيني. فنزل إلى البركة ليشرب من الماء، فأخذ الرجل حجراً ورماه به ففقأ عينه. فذهب إلى نبي الله سليمان شاكياً، فاستدعى نبي الله سليمان ذلك الرجل وسأله: ألك حاجة في هذا الطائر حتى رميته؟! قال: لا. عندها أصدر عليه النبي حكماً بأن تُفقأ عينه. غير أن الطائر اعترض قائلاً: يا نبي الله إن عين الرجل لم تؤذيني، بل اللحية هي التي خدعتني، لذا أطالب بقص لحيته عقوبة له، حتى لا يخدع بها أحداً غيري}.
واُختتمت القصة بالتعليق التالي: ‏{ترى إن حضر هذا الطائر زماننا هذا كم لحية سيطالب بقصها؟!!}
كتبت له رداً مختصراً قلت فيه:
{عزيزي، اللحية هي المشكلة، هذا تفكير طائر! أما تفكير الإنسان الذي ميزه ربه بالعقل فيرى أن المشكلة الحقيقية تكمن في قيم الرجل وما يؤمن به من مبادئ .. فهي التي تمنعه أو لا تمنعه من إيذاء غيره طائراً كان أو غير طائر .. فكم من حليقِ لحيةٍ آذى الكثير من البشر .. وكم من طويلِ لحيةٍ كان خيراً على البشرية جمعاء .. وعليه فلا يجب أن نقع في خطأ التعميم .. ولنبتعد عن الحكم على الناس من مظهرهم .. علي الأقل حتى لا نقع في إثم الظن؛ فإن بعضَ الظنِ إثمٌ كما تعلم}.
ويقول أحدهم في مدونته على شبكة الإنترنت تعقيباً على هذه القصة:
{لا يخفى أن هذه القصة كذب سمج وهي مخترعة ولا وجود لها في شيء من الكتب. لا شك أن التدين الظاهر أمرٌ يشترك فيه الصالح والمنافق، ولكن هل يجوز أن نذم الصالحين بزلل المتشبهين بهم؟ هذا منتهى الظلم. من الناس من يصلي نفاقاً ومن يحج نفاقاً ومن يجاهد نفاقاً ومن يتصدق نفاقاً فهل يجوز أن نُمنع من هذه الأمور؟
واتهام أهل الخير بالرياء طريقة المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فكانوا يقولون عن المتصدقين مرائين، ولما كانوا هم المراءون ظنوا هذا في أهل الإيمان}.

أحبتي في الله .. أحسن الطائر الظن بالرجل الملتحي، لكن الأخير لم يكن عند حسن الظن به، فوقع الطائر في خطأ الحكم على ذلك الرجل من خلال مظهره، وهكذا يفعل كثير من الناس؛ قال أحد العلماء: "كثر كلام الناس بعضهم في بعض بلا زمام ولا خطام؛ وانشغل عدد من الدعاة وطلاب العلم عن العلم والدعوة بالحكم على الناس"، وذكر عدداً من الضوابط الشرعية التي علينا الالتزام بها عند الحكم على واحد من الناس، منها:
أن لا يحكم على الناس إلا عالمٌ خبيرٌ بأحوالهم؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، معه شاهد يشهد، قال: ائت بمن يعرفك، فجاء برجل، قال: هل تزكيه؟، هل عرفته؟، قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟، هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟، قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم التي تُعرف بهما أمانة الرجال؟، قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: عمر: فلعلك رأيته في المسجد راكعًا وساجدًا فجئتَ تزكيه، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر: اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك.
ومن الضوابط الشرعية وجوب العدل والإنصاف؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. ومن ضوابط الحكم على الناس ألا يكون بالظن؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، وقال: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾، وقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ]. ومن الضوابط الشرعية كذلك: أن الأصل إحسان الظن بالمسلمين، وإساءة الظن لا تكون إلا إذا قامت أسبابها، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ فدلت الآية على أن التبين والتثبت إنما يكون من خبر الفاسق المعروف بالفسق. ومن تلك الضوابط: التبين والتثبت وعدم التسرع؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. ومن بينها أيضاً النهي عن التجسس والتحسس؛ قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا﴾. وقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [... وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا].

أحبتي .. واجبٌ علينا أن نحسن الظن بالناس .. ولا نتسرع في إصدار أحكام يجانبها الصواب.
عن (حُسن الظن بالناس) يقول أهل العلم: الإسلام دين يدعو إلى حسن الظن بالناس والابتعاد كل البعد عن سوء الظن بهم؛ لأن سرائر الناس ودواخلهم لا يعلمها إلا الله تعالى وحده. وسوء الظن يؤدي إلى الخصومات والعداوات وتقطع الصلات؛ قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ*إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. والمسلم مأمور بأن يُحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محملٍ حسنٍ ما لم يتحول الظن إلى يقينٍ جازم. لذا فإنه ينبغي للمسلم ألا يلتفت كثيراً إلى أفعال الناس، يراقب هذا، ويتابع ذاك، ويفتش عن أمر تلك، بل الواجب عليه أن يُقبل على نفسه فيصلحَ شأنها، ويُقوِّمَ خطأها، ويرتقي بها إلى مراتب الآداب والأخلاق العالية، فإذا شغل نفسه بذلك، لم يجد وقتاً ولا فكراً يشغله في الناس وظن السوء بهم.
فالواجبُ على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإنَّ من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنَه ولم يُتعب قلبَه، فكلَّما اطَّلع على عيبٍ لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإنَّ من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه.
و(حُسن الظن بالناس) مندوبٌ ومستحب، مع البعد عن تتبع عورات الناس ورصد معايبهم؛ قال الإمام الشافعي:
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ  **   فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَـينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيكَ مَعَـايِباً ** فَصُنْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ
علينا أن نحمل الكلام على أحسن المحامل؛ فكما ورد في الأثر عن عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلمٍ شرًا وأنت تجدُ لها في الخيرِ محملًا".
وعلينا التماس الأعذار للآخرين، قال ابن سيرين: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه".
ويقول الشاعر:
سَامِحْ أَخَـاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَــطِ * * وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صَدِيْقٍ وفيٍّ مُخْـلِصٍ لَبِــقٍ   * *   أَضْحَى عَدُوًّا بِـــمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ  **   حَمَاهُـمُ اللهُ مِـنْ دَوَّامَـةِ السَّقَـطِ
أَلَسْتَ تَرْجُـوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِـرَةً  * *  يَوْمَ الزِّحَـامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَـطِ

أحبتي .. عودةً إلى القصة المذكورة .. دعونا ننتبه إلى أن (حُسن الظن بالناس) يجب ألا ينسينا ما يخطط له أعداؤنا.. فلننتبه إلى مكائدهم وحربهم المستمرة على الإسلام .. يبدأون بمحاربة المظاهر كاللحية والثوب والنقاب، ثم يشككون في أصح كتب الأحاديث، وينتقلون إلى سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ويقولون لا نأخذ إلا بالقرآن، ثم يأتون إلى آيات القرآن الكريم فيفسرونها وفق أهوائهم حتى أن أحدهم تجرأ على القول بأن بعض هذه الآيات لم تعد تصلح لزماننا؛ فهي كانت تصلح فقط للزمن الذي نزلت فيه! .. علينا أن نكون واعين لأمرٍ واضحٍ وضوح الشمس في رابعة النهار؛ أنه من يفعل سوءاً فليس العيب في دينه بل على العكس تماماً العيب في قلة دينه. ليس أيُ فردٍ منا حجةً على الإسلام؛ ذلك الدين الذي أكمله الله لنا وأتمم به علينا نعمته ورضاه لنا ديناً؛ يقول عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فالإسلام هو الحُجة، إما لنا أو علينا، ولا يجوز لعاقل أن يحكم على الإسلام من واقع المسلمين وسلوكيات بعض أتباعه، بل من الإنصاف أن يكون العكس، ويكون مدى التزام المسلمين بدينهم هو معيار الحكم لهم أو عليهم.
فلنحذر وننتبه لمن يخلطون السم بالعسل ويسوقون أفكاراً يقصدون بها إلصاق التهم جزافاً بالإسلام، والإسلام منها براء، ولنثق في قول المولى عز وجل: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾، ولنتقِ الله في ديننا الذي يصر أعداؤه على الحكم عليه من خلال أقوالنا وأفعالنا، فلنجعلها منضبطة بضوابط الإسلام، ولنكن خير سفراء لهذا الدين القيم بأن نقيم وجوهنا له حنفاء؛ امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/BKrESv

الجمعة، 23 ديسمبر 2016

حقوق الحيوانات!


الجمعة 23 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٣
(حقوق الحيوانات)!

فوجئنا، أنا وصديقي، عندما رأينا حوذياً يعمل على عربةٍ يجرها حِمار هزيل، يلهب ظهر حِماره بعصا غليظة، غير آبهٍ لصراخ الحِمار، ذلك المسكين الذي ليس أمامه إلا أن يجر عربة تحمل أثقالاً نحو نهاية طريق يرتفع متراً أو أكثر عن المكان الذي كنا فيه.
طلبنا من الحوذي على استحياء أن يوقف ضربه للحِمار، أو أن يخفف من حدة الضرب، نظر إلينا ببلاهة ولم يرد، ولسان حاله يقول: "ما دخلكما أنتما؟ هذا حِماري أعرف كيف أتعامل معه". حمدنا الله أنه لم يرد علينا بوقاحة، واكتفينا بأن بلغناه رأينا، مسبوقاً بعبارة "حرامٌ عليك".
استكملنا أنا وصديقي سيرنا، لكن الحديث بيننا تحول إلى ذلك المشهد الذي ظل مؤثراً فينا نحن الاثنين.
سألني صديقي: "هل كان من المناسب أن نقول له 'حرامٌ عليك'، هذه عبارة لا تُقال إلا إذا كان ما يفعله حراماً بالفعل، فهل لديك دليلٌ على حرمة ذلك"؟، أجبته: "ما يفعله ذلك الحوذي حرامٌ بلا شك؛ فقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من عاقبة سوء معاملة الحيوان؛ بقوله: [دخلت امرأة النار في هرةٍ {قطة} ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض]، مجرد عدم إطعام الحيوان سببٌ كافٍ لدخول النار، فما بالك بمن يعذب الحيوان ويقسو عليه ويعامله بهذه الوحشية التي رأيناها؟ إن هذا حرامٌ بالتأكيد".

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى موضحاً لنا أن جميع مخلوقاته، ومنها هذه الحيوانات، أممٌ مثلنا نحن البشر: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾، ويقول موضحاً التشابه بين الإنسان والحيوان: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا﴾، والأنعام {الإبل والبقر والغنم والمعز} نوعٌ من تلك الحيوانات التي خلقها لنا المولى سبحانه وجعل لنا فيها منافع كثيرة؛ يقول عز من قائل: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾.
وقد وردت بالقرآن الكريم أسماء العديد من الحيوانات والطيور والحشرات التي هي أممٌ أمثالنا؛ فمن الحيوانات: البقرة، القرد، الذئب، الحمار، الناقة، النعجة، الغنم، الفيل، الحوت، الحية، الثعبان، الخنزير، الجياد، الخيل، الكلب، البغال، السبع، الضأن، الماعز، والإبل. ومن الطيور: الهدهد، والغراب. ومن الحشرات: العنكبوت، النحل، النمل، البعوضة، الذبابة، الجراد، القمل، الضفادع، والفراش. وردت كلها في مواضع مختلفة أمثلةً وآياتٍ لأولي النهى الذين يتفكرون في خلق الله سبحانه وتعالى.
ومن تلك الحيوانات والحشرات ما كُرِّم بأن سميت باسمه سورٌ من القرآن الكريم كالبقرة، الأنعام، النحل، العنكبوت، والفيل.
وقد أوجب علينا ديننا الحنيف أن نتعامل بالرحمة والرفق مع كل مخلوقات الله: الإنسان والحيوان والطيور والحشرات، وحتى الشجر والجماد؛ فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء]، ويقول: [من أُعطي الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة]، ويقول: [الراحمون يرحمهم الرحمن]".
والرحمة بالحيوان عنوانُ حضارتنا الإسلامية التي كان لها قدم السبق في هذا المجال؛ فلدينا نحن المسلمين تراثٌ زاخرٌ عظيم ينطق رحمةً ورفقًا بالحيوانات، فلا توجد أمةٌ من الأمم بلغت هذا المستوى  الذي بلغته أمة الإسلام من الحفاظ على (حقوق الحيوانات) والرحمة والرفق بها، خاصةً في ذلك الزمن البعيد؛ فقد حَرَّم الإسلام تعذيب الحيوان أو الإساءة إليه أو استخدامه في غير منفعة، وجعل ذلك موجباً لعذاب الله تعالى، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى قريةَ نملٍ قد أحرقها بعض الصحابة، قال مستنكراً: [من أحرق هذه؟]، قال الصحابة: "نحن"، قال: [إنه لا ينبغي أن يُعَذِب بالنار إلا ربُ النار]، ويوصينا عليه الصلاة والسلام بالحيوان خيراً حتى ونحن نستعد لذبحه؛ حين قال: [إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته]، ويبين لنا أن إضجاع الحيوان للذبح قبل أن يُعِد المرءُ شفرته قسوةٌ لا تجوز؛ فقد قام رجل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضجع شاته للذبح وشرع يحد شفرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟]. إنها لمشاعر إنسانية تفيض نبلاً ورحمة، ما عرف التاريخ مثيلاً لها؛ انظر حينما دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام بستانًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَّ حَنَّ الجملُ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح دموعه ثم قال: [من صاحب هذا الجمل؟] فقال صاحبه: "أنا يا رسول الله"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّكَك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجيعه وتدئبه {أي تُتعبه}]. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببهيمةٍ قد لصق ظهرها ببطنها {أي ظهر عليها الهزال من قلة الأكل}، فهاله ما رأى، فانتفض غاضبًا وقال: [اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحةً وكلوها صالحةً]. وعن حق آخر من حقوق الحيوان؛ مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم وهم وقوفٌ على دوابَّ لهم ورواحِلَ، فقال لهم: [ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ]؛ فالجلوس طويلاً على ظهر الحيوان وهو واقفٌ حرامٌ في دين الله تعالى، لأنه اعتداءٌ على بهيمةٍ تُحس لكنها لا تنطق. كما يَحْرم التلهي بالبهيمةِ والطيرِ في الصيدِ عبثًا، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [من قتل عصفورًا عبثًا عج {اشتكى} إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني منفعة]. ومن (حقوق الحيوانات) الإحسان إليها؛ جاء في الحديث: [بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له]، قالوا يا رسول الله: "وإن لنا في البهائم أجراً؟"، قال: [في كلِ كبدٍ رطبةٍ أجر]. وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: [بينما كلبٌ يطيف بركية {بئر} كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها {خفها} فسقته فغُفر لها به].
 وهذا هو الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: "لو أن بغلةً عثرت بشطِ العراق لخشيتُ أن يسألني اللهُ عنها لِمَ لَمْ تُصلح لها الطريقَ يا عُمر؟".
إن البشر في بعض أنحاء العالم، ممن تعرفوا على (حقوق الحيوانات) في الإسلام، يتمنون أن يحصلوا على مثل هذه الحقوق أو حتى بعضها! رغم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرمه وفضله على غيره من مخلوقاته؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
إن اهتمام ديننا الإسلامي الحنيف بالحيوان وصيانة حقوقه سبقٌ حضاريٌ رفيعٌ بدأ قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الحيوان(Universal Declaration of Animal Rights) بخمسة عشر قرنًا؛ حيث لم يبدأ الاهتمام العالمي بهذه الحقوق إلا بعد أن اُعتمد نص الإعلان العالمي لحقوق الحيوان من الجمعية الدولية لحقوق الحيوان في الاجتماع الدولي الذي عقد في لندن في الفترة من 21 إلى 23 أيلول/سبتمبر 1977، وأُعلن رسمياً عن هذا الإعلان في مقر اليونسكو بباريس في 15 أكتوبر 1978، وقُدم النص المنقح من قبل الجمعية الدولية لحقوق الحيوان في العام 1989م إلى المدير العام لليونسكو في العام 1990م، وتم الإعلان عنه في العام ذاته! ومع ذلك فإن (حقوق الحيوانات) في الإسلام تظل أفضل بكثير مما ورد في نصوص ذلك الإعلان العالمي الذي لا يعلم عن وجوده أصلاً إلا القليل!

أحبتي .. لنتواصى بالرحمة بالحيوانات، بكل أنواعها، والترفق بها، وتعهُّدها أثناء حياتها بالطعام والشراب والعلاج وعدم العبث بها أو ترويعها، أو تحميلها فوق طاقتها، فضلاً عن قَوْدها إلى الذبح قَوْدًا جميلاً، لا لأن هذا من الأخلاق والتحضر والمدنية فحسب وإنما لأن كل ذلك هو من (حقوق الحيوانات) التي أمرنا بها الإسلام، نُثاب إن حافظنا عليها، ونُعاقب إن نحن أهملناها.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/to0Q1C

الجمعة، 16 ديسمبر 2016

ها قد عُدتَ يا يوم مولدي

الجمعة 16 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٢
(ها قد عُدتَ يا يوم مولدي)

اتصل بي هاتفياً مهنئاً قال: "كل عام وأنت بخير"، سألته وأنا أعلم جوابه مسبقاً: "ما المناسبة؟"، قال متعجباً: "أوليس اليوم عيد ميلادك؟"، قلت ممازحاً: "نعم، إنه ليس كذلك"، قال: "أنا متأكد من تاريخ ميلادك؛ إنه يوم العاشر من ديسمبر"، قلت له: "هذا صحيح، إنه يوم مولدي، لكنه ليس عيد ميلادي"، قال: "أراك عُدتَ لألاعيبك اللفظية"، قلت: "بدون ألاعيب، أنا لا أحتفل بما يُسمى عيد ميلاد، فلست أرى في يومٍ يذكرني بانقضاء سنة من عمري ويقربني من أجلي المحتوم سبباً يدعو للاحتفال، بل هو أقرب لأن يدعو للحزن"، قال: "أحس في ردك تشاؤماً لا أعهده فيك"، قلت: "لست متشائماً، لكني أفكر بشكل واقعي وعملي بعيداً عن لغة الأماني والأحلام"، سألني: "وهل يمر عليك اليوم كأي يوم عادي؟"، قلت: "لا بالطبع"، وأوضحت له دون أن يسأل: "إنه يومٌ خاصٌ بلا شك، أجد فيه فرصة للاختلاء بنفسي، للتفكر والتأمل والتدبر وحساب النفس، أقول (ها قد عُدتَ يا يوم مولدي)، وأقوم بشيء أشبه ما يكون بعملية جرد سنوي، أراجع حساباتي، أتساءل ماذا يا ترى حققت خلال العام الماضي؟ هل أنجزتُ شيئاً كنت أرغب في إنجازه؟ هل قابلتني صعوبات أبعدتني عن إنجاز ما كنت أرجو؟ وكيف كانت استجابتي لتلك الصعوبات؟ هل كانت استجابات معقولة ومنطقية؟ وفي المحصلة هل أنا راضٍ عن نفسي؟ ثم ماذا عن عامٍ قادم لو قُدر لي أن أعيشه؟ ما هي أهدافي فيه؟ وما هي مشروعاتي لتحقيق هذه الأهداف؟ وهل تتوفر لدي إمكانات تنفيذها؟"، قاطعني قائلاً: "أراك بالغت، وأعطيت للأمر أكثر مما يستحق، إنك تتحدث بلغة التقويم والتخطيط، إنه مجرد عيد ميلاد يا عزيزي!"، قلت له: "ما أردتُ أن أتحدث عن هذا الأمر، لكنك سألت، وكان لزاماً علي أن أكون أميناً في ردي عليك"، أنهى مكالمته بالقول: "على أي حال، كل عام وأنت بخير Happy Birthday to you".

أحبتي .. يحتفل كثير من الناس بأعياد ميلادهم وأعياد ميلاد أبنائهم وأحبائهم رغم أن الفتوى بعدم جواز ذلك واضحة لا لبس فيها، وها أنا أنقلها بنصها لمن لم يسبق له الاطلاع عليها:
دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ولا أصل لها في الشرع المطهر ولا تجوز إجابة الدعوة إليها، لما في ذلك من تأييد للبدع والتشجيع عليها. وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾، وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وقال سبحانه:﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: [من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد] أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: [خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة]. ثم إن هذه الاحتفالات مع كونها بدعة منكرة لا أصل لها في الشرع هي مع ذلك فيها تَشَبُّه باليهود والنصارى في احتفالهم بالموالد. وقد قال عليه الصلاة والسلام محذراً من سنتهم وطريقتهم: [لتتبعن سنة من كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه]، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟، قال: [فمن؟]. ومعنى قوله [فمن؟] أي هم المعنيون بهذا الكلام وقال صلى الله عليه وسلم: [من تشبه بقوم فهو منهم]. فإن الاحتفال بمناسبة أعياد الميلاد عادةٌ دخيلة على المسلمين، فلا يجوز الاحتفال بها بأي نوعٍ من أنواع الاحتفال، لما في ذلك من التشبه بالمشركين الذين أمرنا الله تعالى بمخالفتهم والابتعاد عن اتباع ما سنّوه من سنن. وواجب على المسلمين تحري الحق والصواب في عاداتهم وتقاليدهم بأن تكون منضبطة بضوابط الشرع الحكيم، لا بالتقليد الأعمى للأمم الكافرة. وأي أمرٍ يحدث في هذا الدين لم يكن على هدي سيد المرسلين فهو أمر مردود على صاحبه، وأعياد الميلاد لم تكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، ولا عُرفت مثل هذه الأعياد إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة مما يدل على أنها ليس لها أصل في الإسلام.
وقال أهل العلم: ليس في الإسلام عيدٌ لأي مناسبة سوى عيد الأضحى، وعيد الفطر من رمضان، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة.
ولبعض العلماء رأي آخر في هذا الأمر حيث يرون أن الاحتفال بعيد الميلاد الشخصي ليس له أي بُعدٍ عقائدي؛ فقد جاءت الشريعة بالمنعِ والحذَر والتوقيف للأشياء ذات البُعد الديني، لكن الأشياء الدنيوية والعادات، فإن الأصل فيها الإذن والسماح، إلا إذا اقترن بها شيء يمنع منها مثل التشبُّه، والأصل فيها هو الإذن وليس المنع، والأصل دائمًا أقوى من الشيء الطارئ على الأصل. والاحتفال بأعياد الميلاد ليس تشبهًا، فهو ليس من خصوصيات الأمم الكافرة، وإنما هذا موجود الآن عند معظم، بل كل، شعوب العالم. كما أن دار الإفتاء المصرية أفتت بجوازها كذلك، ورأت أنه لا مانع من ذلك شرعًا؛ لما فيه من تذكر نعمة الله على الإنسان بالإيجاد، على ألا يُعد ذلك عيداً ولا يسميه بذلك، وعلى أن يكون الاحتفال خاليًا من المحرمات كالاختلاط المحرم وكشف العورات ونحو ذلك مما لا يجوز شرعًا، ويُستأنس لذلك بقوله تعالى حكاية عن سيدنا عيسى: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ﴾، وبما رواه صحيح مسلم عن أبى قتادة الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: [ذاك يوم وُلدتُ فيه، ويوم بُعثت - أو أُنزل علي فيه]، فأشار بذلك إلى المعنى الذي يقتضي الحكم أن يوم مولد الإنسان هو يوم نعمة توجب الشكر عليها. ويجوز لأقارب صاحب المناسبة وأصحابه المشاركة في الاحتفال لما فيه من إدخال السرور على قلبه، وذلك من الأمور المستحبة شرعًا، فقد أخرج ابن شاهين في الترغيب بإسناد لا بأس به عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: تُدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً.

أحبتي في الله .. وضعت بين أيديكم بأمانة رأيين مختلفين حول موضوع واحد هو: الاحتفال بأيام الميلاد. فماذا علينا أن نفعل في مثل هذه الحالة، حالة اختلاف العلماء في الرأي حول المسألة الواحدة؟ إليكم أحبتي ما يقوله أهل العلم في ذلك:
إذا كان المسلم عنده من العلم ما يستطيع به أن يقارن بين أقوال العلماء بالأدلة والترجيح بينها ومعرفة الأصح والأرجح وجب عليه ذلك، لأن الله تعالى أمر برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة، فقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ فيرد المسائل المختلف فيها للكتاب والسنة، فما ظهر له رجحانه بالدليل أخذ به، لأن الواجب هو اتباع الدليل، وأقوال العلماء يُستعان بها على فهم الأدلة. وأما إذا كان المسلم ليس عنده من العلم ما يستطيع به الترجيح بين أقوال العلماء، فهذا عليه أن يسأل أهل العلم الذين يُوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾. وقد نص العلماء على أن مذهب العامي مذهب مفتيه، فإذا اختلفت أقوالهم فإنه يتبع منهم الأوثق والأعلم، وهذا كما أن الإنسان إذا أصيب بمرض عافانا الله جميعاً فإنه يبحث عن أوثق الأطباء وأعلمهم ويذهب إليه لأنه يكون أقرب إلى الصواب من غيره، فأمور الدين أولى بالاحتياط من أمور الدنيا. ولا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ولو خالف الدليل، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى، بل عليه أن يحتاط لدينه فيسأل من أهل العلم من هو أكثر علماً، وأشد خشية لله تعالى.

أحبتي .. حتى في مسألة اختلاف العلماء يوجد اختلاف! فقد اختلف العلماء في الواجب على المسلم إذا وجد اختلافاً حول العلماء، فقيل يتبع الأشد لكونه أحوط ولحصول براءة الذمة به بيقين، وقيل يأخذ بأي الأقوال شاء ما لم يقصد تتبع الرخص، وقيل يأخذ بالأيسر لكون الشريعة مبنية على التخفيف. عن نفسي: قرأت واستخرت الله سبحانه وتعالى واتخذت لنفسي ما أعتقد أنه صواب؛ فبدلاً من أن يحتفل الإنسان بعيد ميلاده، الأولى به أن يقول (ها قد عدتَ يا يوم مولدي) ويتذكر أنه كلما مر عليه يوم من أيام عمره فإنما هو يقترب من النهاية أي الموت والحساب، فما بالنا إذا كان الذي مر عام كامل!! فلتكن له عبرة بانقضاء الأيام والشهور والأعوام، ولتكن فرصة لحساب النفس، والبعد عن الشبهات، وصرف الوقت والجهد في أعمال البر والخير التي تثقل موازيننا يوم القيامة.
وأختم بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/Oc8K2v

الجمعة، 9 ديسمبر 2016

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ

الجمعة 9 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦١
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

سألني حفيدي الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات: "جدي، ما معنى كلمة عظيم؟"، أجبته باختصار: "عظيم تعني كبير جداً"، ليتأكد من فهم المعنى سألني: "إذن عشرة جنيهات مبلغ عظيم، أليس كذلك يا جدي؟"، قلت موضحاً: "بالنسبة لك هي كذلك، لكن الأمر يختلف من شخص لآخر حسب عمره ومدى غناه أو فقره" .. أردت أن أبسط له مفهوم النسبية قدر إمكاني.
تذكرت هذا الموقف قبل أيام، وكنت أتلو سورة القلم، حينما وصلت للآية الكريمة:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، التي يصف بها المولى سبحانه وتعالى خُلُق رسوله الكريم، استوقفتني كلمة "عظيم"، قلت في نفسي إذا كان الله سبحانه وهو "العظيم" يصف خُلُق الرسول بأنه "عظيم"، فكيف تكون حقيقة هذه العظمة؟ وكيف لنا أن نتصور مقدارها؟
إذا كانت الأوصاف نسبية تختلف باختلاف البشر، وتختلف من زمان لزمان ومن مكان لآخر، فكيف إذا كان الواصف هو خالق البشر المتحكم في الزمان والمكان كيفما شاء؟ وكيف إذا كان الموصوف هو سيد البشر؟ فكيف لنا بمقاييسنا البشرية القاصرة أن نقارن بين صفة "عظيم" إذا أطلقها العباد، وصفة "عظيم" عندما يطلقها رب العباد ؟! مهما اجتهدنا كبشر فلن نصل إلى فهم وتصور واستيعاب صفة "عظيم" التي وصف بها العظيم سبحانه وتعالى خُلُق المصطفى عليه الصلاة والسلام، يكفي أنه سبحانه هو من خلق العظمة ذاتها وأوجدها من عدم!
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، لم يكتفِ العزيز الحكيم بوصف خُلُق رسوله الكريم بالعظمة، بل ووضع نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام  فوق كل خُلُق عظيم، جعله أعلى من كل خُلُق عظيم، وكأنما أُوتي بكل خُلُق عظيم فجُمع بعضه فوق بعض ثم جيء برسولنا الكريم ليكون فوق كل هذا الخُلُق. لم يقل المولى سبحانه: إن خُلُقُك يا محمد عظيم، بل قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، بمعنى أنك يا محمد تعلو وترتفع وترقى عن كل خُلُق عظيم يعلمه البشر أو لا يعلمونه! لست فوق أي خُلُق وإنما فوق ما هو عظيم منها بمقياسنا الإلهي الذي لا يمكن لبشرٍ أن يدرك حدوده وأبعاده، إلا كما يدرك طفل صغير أن الجنيهات العشرة مبلغ عظيم!
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ حقاً وصدقاً، فرسولنا الكريم معلم الأخلاق والقيم؛ قال المولى سبحانه وتعالى فيه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه أُسْوَة حَسَنَة﴾، إنه رسولنا وأسوتنا الحسنة، وأن يصفها الله سبحانه وتعالى بأنها "حسنة" فهي كل الحُسن كما نتصور وكما لا نتصور، إنها الحُسن كله تَجَمَّع في حبيبنا وشفيعنا وسيدنا رسول الله.
لِمَ لا وقد نشأ الحبيب صلى الله عليه وسلم متحلياً بكل خلقٍ كريم، مبتعداً عن كل وصفٍ ذميم، يُضرب به المثل في الصدق والأمانة فكانت قريش قبل الرسالة تطلق عليه لقب "الصادق الأمين"، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكان أرجح الناس عقلاً، وأكثرهم أدباً، وأوفرهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأكثرهم حياءً، وأوسعهم رحمةً وشفقةً، وأكرمهم نفساً، وأعلاهم منزلةً؛ فكلُ خُلُقٍ محمودٍ له منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكلُ وصفٍ مذمومٍ هو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه، شهد له بذلك القاصي والداني، والعدو قبل الصديق.

أحبتي في الله .. اختص الله سبحانه وتعالى نبينا الكريم بكل السمات الطيبة والصفات الكريمة، وصفه هو والمؤمنين معه بالرحمة؛ قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قبَّل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: "إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا"، فنظر إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم قال: [من لا يَرحم لا يُرحم]. وقال صلوات الله وسلامه عليه للمشركين يوم فتح مكة: [أقول كما قال يوسف: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"]. هذه بعض صور رحمته بالبشر، أما رحمته بالحيوان، فمنها قوله: [عُذبت امرأةٌ في هرةٍ حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض].
اختصه الله سبحانه وتعالى بصفتين من صفاته لم يصف بهما أحدًا غيره من البشر أو الأنبياء، "رؤوف" و"رحيم"، كان رحيماً بالمؤمنين حريصاً على ألا يشق عليهم أو يعنتهم؛ قال عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. وامتدت رحمته عليه الصلاة والسلام لتشمل غير المؤمنين، فقد كان يشق عليه كُفر مَن كَفَر، وإعراض من أعرض؛ قال سبحانه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾، أي أنك تُهلك نفسك متأسفًا على كفرهم وإعراضهم.
أرسله الله عز وجل رحمةً لجميع البشر مؤمنهم وكافرهم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
ووصفه الله سبحانه وتعالى بأوصاف أخرى منها أنه شاهدٌ ومبشرٌ ونذيرٌ، وأنه داعٍ إلى الله وأنه سراجٌ منير؛ يقول عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا*وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾، ونفى عنه المولى الضلال؛ قال سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ﴾، وأثبت له السداد والرشاد وأنه على صراط مستقيم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ*عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
كرمه ربه فلم يُخاطبه بشخصه ولم يناده باسمه وإنما كانت مناداته بالنبوة والرسالة، بخلاف ما خاطب به تعالى أنبياءه السابقين؛ فقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، بينما نادى سبحانه وتعالى أنبياءه بأسمائهم؛ قال لآدم: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾، وقال لنوح: ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ﴾، وقال لإبراهيم: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾، وقال لموسى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وقال لعيسى: ﴿يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾.
ومن تكريم المولى عز وجل لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه يبعثه يوم القيامة مقامًا محمودًا؛ قال تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾، والمقام المحمود الذي اُختص به رسولنا الكريم هو مقام الشفاعة، وهو مقام لم ينله أحدٌ غيره؛ فالناس يكونون يوم القيامة جالسين على ركبهم، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع ! يا فلان اشفع ! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يومَ يبعثه الله المقام المحمود.
وهل من تكريمٍ أكثر من أن يصلي الله سبحانه وتعالى وملائكته على النبي المصطفى ويأمرنا بالصلاة عليه وأن نسلم تسليماً؟ قال تعالى: ‏﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏﴾.
وهل من تكريمٍ أكثر من أن نؤمر بأن نأخذ بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وننتهي عما نهى عنه؟ قال عز وجل: ‏﴿‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا‏﴾، وجعل طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام من طاعته؛ قال سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾.
وهل من تكريمٍ له أكثر من تكون محبة الله جل جلاله وغفرانه لذنوبنا في اتباعه عليه الصلاة والسلام؟ قال سبحانه:﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

أحبتي في الله .. هذا هو رسولنا المختار المصطفى عليه الصلاة والسلام، سيد ولد آدم، خير الخلق كلهم، خاتم الأنبياء والرسل، النبي الكريم محمد بن عبد الله، زكاه ربه فأحسن تزكيته؛ زكَّاه في كل شيء: زكَّاه في عقله فقال جل وعلا: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾، وزكَّاه في بصره فقال جل وعلا: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾، وزكاه في فؤاده فقال جل وعلا: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾، وزكَّاه في صدره فقال جل وعلا:﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، وزكَّاه في ذِكْره فقال جل وعلا: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾، وزكَّاه في طُهره فقال جل وعلا: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾، وزكَّاه في صِدقه فقال جل وعلا: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾،وزكَّاه في عِلمه فقال جل وعلا:﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾، وزكَّاه في حِلمه فقال جل وعلا: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، وزكَّاه في خُلُقِه كلِه فقال جل وعلا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. وقال هو عن نفسه: [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق].
هذا هو نبينا المصطفى الذي وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: "كَانَ خُلُقُهُ القُرآنُ، يَرضَى لِرِضَاه، وَيَسخَطُ لِسَخَطِهِ"، وفي ذلك يقول أهل العلم: "يعني أنه كان يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن كان فيه سخطه".

قال في وصفه شاعره حسان بن ثابت:
أَغرّ عليه للنبوةِ خاتمٌ
من اللهِ مشهودٌ يلوحُ ويشهدُ
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النبيِ إلى اسمِه
إذا قالَ في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ
وشَقَّ له من اسمِه ليُجِّلَه
فـذو العرشِ محمودٌ وهذا محمدُ
وقال فيه الإمام البوصيري قصيدته الشهيرة "البردى"، ومن أبياتها:
محمدٌ سيدُ الكونين والثقلين
والفريقين مِن عُرْبٍ ومِنْ عَجمِ
هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتُه
لكلِ هولٍ مِنَ الأهوالِ مُقتحمِ
فاقَ النبيين في خَلْقٍ وفي خُلـُقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كَرمِ
وقال فيه أحمد شوقي قصيدته "نهج البردى"، ومن أبياتها:
محمدٌ صفوةُ الباري، ورحمتُه
وبُغيَةُ اللهِ من خَلْقٍ ومن نَسَمِ
البدرُ دونكَ في حُسنٍ وفي شَرفٍ
والبحرُ دونك في خيرٍ وفي كرمِ
يا ربِّ، أَحسنتَ بَدءَ المسلمين به
فتمِّم الفضلَ وامنحْ حُسنَ مُخْتَتَمِ
ونظم فيه شوقي قصيدة "وُلِدَ الهُدى"، قال فيها:
وُلِدَ الهُدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
يا خَيرَ مَن جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً
مِن مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جاؤوا
بِكَ بَشَّرَ اللَهُ السَماءَ فَزُيِّنَت
وَتَضَوَّعَـت مِسكاً بِكَ الغَبراءُ
وفي قصيدة "سلوا قلبي" قال شوقي:
أَبا الزَهراءِ قَد جاوَزتُ قَدري
بِمَدحِكَ بَيدَ أَنَّ لِيَ انتِسابا
فَما عَرَفَ البَلاغَةَ ذو بَيانٍ
إِذا لَم يَتَّخِذكَ لَهُ كِتابا
مَدَحتُ المالِكينَ فَزِدتُ قَدرًا
فَحينَ مَدَحتُكَ اقتَدتُ السَّحابا
وقال الحلاج مادحاً إياه:
واللهِ ما طلعت شمسٌ ولا غَرُبت
إلا وحُبّـك مقرونٌ بأنفاسي
ولا خَلوتُ إلى قومٍ أُحدّثهم
إلا وأنتَ حديثي بين جُلاسي
ولا ذكرتُك مَحزوناً ولا فَرِحاً
إلا وأنتَ بقلبي بين وسْواسِي

أحبتي .. هذا هو رسولنا المصطفى، الوحيد من البشر في هذا الكون، منذ الأزل وإلى الأبد، الذي دُوِّنَ له كل قولٍ قاله ووُصف عنه كل فعلٍ فعله أو امتنع عن فعله، وهذه بعضٌ من أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة .. علينا أن نتأسى به ونقتدي بأخلاقه وصفاته؛ فهو نبينا وقدوتنا وأسوتنا الحسنة، وهو من نزل فيه وصف المولى عز وجل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وليكن حبنا له في طاعته والالتزام بسنته؛ فكما قال الإمام الشافعي:
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

عذراً سيدي رسول الله كيف أوفيك حقك وقد اضطررت إلى التقصير؟ وعذراً أحبتي على الإطالة!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إن أَذِن الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.


https://goo.gl/Tdw1Ut

الجمعة، 2 ديسمبر 2016

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ

الجمعة 2 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٠
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

يُروى أن الإمام أحمد ابن حنبل كان في مدينة غريبة لا يعرفه أهلها، وقرر بعد أن بلغ به التعب مبلغه بعد صلاة العشاء أن ينام في المسجد، فرآه حارس المسجد ورفض أن يمكث فيه، فقال الإمام سوف أنام موضع قدمي فقط، ونام الإمام موضع قدمه، فقام الحارس بسحبه من قدميه وأخرجه من المسجد، وكان الإمام أحمد شيخاً وقوراً تبدو على وجهه ملامح التقوى والصلاح، فلما رآه خباز بهذه الهيئة عرض عليه أن يحضر لينام في منزله، فذهب معه، ولاحظ الإمام أحمد أن الخباز وهو يقوم بعمله في عجن العجين لا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فاستأذنه أن يسأله سؤالاً، فقال له هل وجدت لهذا الذكر من ثمرة؟، أجابه الخباز: نعم .. أنا والله كلما دعوت الله دعوة استجابها لي، ما عدا دعوة واحدة، قال له الإمام أحمد وما هي هذه الدعوة التي لم تُستجب؟ قال الخباز: دعوت الله أن يريني الإمام أحمد بن حنبل، فقال الإمام: أنا الإمام أحمد بن حنبل، والله إني جُررت إليك جراً!
تنتشر هذه القصة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة رغم عدم التأكد من مدى صدقها، وسواءً وقعت بالفعل أو كانت مختلقة، فإنها توجهنا إلى أهمية ذكر الله، وإلى أن وعد الله سبحانه وتعالى حق حين قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

أحبتي في الله .. يقول العارفون أن الذكر هو كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرِّب إلى الله. وهو يُقال لحضور الشيء القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان. ويكون الذكر بالقلب واللسان تارةً، وذلك أفضل الذكر، وبالقلب وحده تارةً، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارةً، وهي الدرجة الثالثة. وذِكرُ الله عز وجل هو خير الأعمال وأزكاها وأفضلها، وهو من أجلّ الطاعات، وباب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته، وروح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. والذكر منه ما هو حمدٌ، ومنه ما هو ثناءٌ، ومنه ما هو تمجيدٌ.
وذكر الله حياةٌ للقلب، وسبيلٌ لانشراح الصدر، به تُجلى الكروب، وتزول الهموم، وتُطرد الشياطين، به تُستدفع الآفات، وتُستكشف الكربات، وتهون المصائب والملمات، به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين.
حثنا ديننا الحنيف على ذكر الله وأن يتصل المسلم بربه؛ فيحيا ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه، ويستمد من ربه العون والتوفيق.
أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالإكثار من ذكره في كل وقت؛ قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً*وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾، وطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام خفض الصوت وعدم الجهر به عند ذكره؛ قال تعالى: ﴿وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ﴾، ومَدَح أصحاب العقول السليمة الذين يذكرونه في كل أحوالهم؛ في حال قيامهم أو قعودهم أو على جنوبهم؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَـٰتٍ لأوْلِى ٱلألْبَـٰبِ*ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وحث المؤمنين ألا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ قال تعالى: ﴿لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَاء ٱلزَّكَـوٰةِ﴾، ووعد سبحانه الذين يكثرون من ذكره بالمغفرة والأجر العظيم؛ فقال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وأخبر المؤمنين أن الذكر يجعل قلوبهم مطمئنة؛ قال تعالى:﴿الذين آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وبيَّن جل شأنه أن الذكر الكثير سبب من أسباب الفلاح؛ فقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، كما قال سبحانه واعداً من يذكرونه بذكره لهم: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، وأكد ذلك في الحديث القدسي؛ فقال سبحانه وتعالى: {أنا مع عبدي إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم}يعني بهم الملائكة؛ فكيف لعبد منا أن يستغني عن الذكر الذي يقربه إلى الله، ويجعل الله يذكره ويثني عليه في الملأ الأعلى؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى: {من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}.
وفي السنة المطهرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيراً لكم من إعطاء الذهب والورق، وخيراً لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل]. كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم]، وقال عليه الصلاة والسلام: [من قال سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة]، وقال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله]، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم العبد مع ذكر الله بالذي خرج في طلبه أعداءٌ يريدون قتله فأوى إلى حصن حصين فنجا منهم، قال: [وكذلك ذكر الله عز وجل هو حصن المسلم] الذي يتحصن به من أعدائه من شياطين الإنس والجن، فينبغي للمسلم أن يلازم ذكر الله بلسانه وبقلبه وبأفعاله.
وأعظم الذكر ما كان في الصلاة، ولهذا فرضها الله في اليوم والليلة خمس مرات لحاجة العباد إليها؛ فهي تجمع من الأذكار ما لا يجتمع في غيرها، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.

أحبتي .. في حال الغفلة عن ذكر الله عز وجل ينشط الشيطان وتزيد ذنوب الإنسان، كبائرها وصغائرها؛ فالتارك للذكر الناسي له ارتضى لنفسه أن يتخذه الشيطان قريناً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، أما المعرض عن ذكر الله فهو يعاني من ضنك العيش في الحياة الدنيا، وفي الآخرة يُحشر أعمى؛ قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾. إن الغفلة عن ذكر الله عز وجل تبعد المسلم عن كمال الإيمان؛ قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.
يقول أهل العلم أن ذكر الله تعالى يمنح الإنسان قوةً واطمئناناً في عمل القلب، وشفاءً من معظم الأمراض التي سببها القلب، وتنشيطاً للخلايا، وقدرةً أفضل على التنفس، وتخفيفاً للإجهاد عن أعضاء الجسد وبخاصة الدماغ، وتخلصاً من الخوف والقلق والتوتر والاضطرابات النفسية وهموم الحياة والغم والحزن، ومساعدةً على النوم لمن يعاني من الأرق واضطرابات النوم، وزيادةً في الثقة بالنفس، ومزيداً من السعادة، فتمتلأ نفسه فرحاً برحمة الله تعالى، وتفاؤلاً واستبشاراً وأملاً كبيراً يملأ حياته لما يجده في الحياة الدنيا من راحة نفس وما ينتظره في الآخرة من المغفرة والأجر العظيم.
أحبتي .. علينا أن نتذكر دوماً وعد الصدق الذي وعدنا الله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) .. علينا ألا نغفل عن ذكر الله، فهو أكبر من أي شيء وأكبر من كل شيء؛ قال تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، عسى أن نكون من الذين قال الله فيهم: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وخاطبهم بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ولا نكون من الذين قال الله فيهم: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/MQkh9e


الجمعة، 25 نوفمبر 2016

لا تقنطوا من رحمة الله

الجمعة 25 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٩
(لا تقنطوا من رحمة الله)

اتصل بي هاتفياً بعد أن قرأ خاطرة الأسبوع الماضي بعنوان "تزودوا" .. قال لي أن فقرة استوقفته كثيراً في نهاية الخاطرة .. سألته عن اسمه، رد متهرباً من الإجابة: "وهل يهم الاسم؟"، قلت: "أبداً، أردت فقط أن أخاطبك باسمك، المهم أخبرني ما هي الفقرة التي استوقفتك في خاطرة الأمس؟"، قال: "تلك التي قلت فيها: {أما أحبتنا الذين ما تزال حقائبهم خاوية أو قليلة المتاع، فبادروا أعزتنا إلى توبةٍ نصوحٍ أخلصوا فيها النية وصححوا مسيرة حياتكم، ارجعوا إلى قائمة التحقق، نفذوا ما تستطيعون تنفيذه منها، فلا يعلم أحدٌ منا موعد سفره أو تاريخ رحلته!}"، قلت: "لعلك ممن تزال حقائبهم قليلة المتاع"، قال: "يا ليت حقيبتي قليلة المتاع، بل يا ليتها كانت خاوية، أنا يا سيدي ليس لدي حقيبة من الأساس!"، سألته: "أليس لديك قلب ينبض؟"، قال: "بلى"، قلت: "فذلك هو الحقيبة .. قلبك هو حقيبتك، لا تعتقد أنها خاوية؛ اتصالك بي الآن يعني أن بذرة الإيمان في قلبك صالحة للنمو"، قال معقباً: "أحمد الله أنني في أعماق قلبي أشهد وأؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، قلت: "هذه بداية طيبة، علينا أن نعبر عنها بالعمل"، قاطعني قائلاً: "هذه هي المشكلة: {العمل}، ما يؤلمني أن كثيراً من أعمالي سيئة"، وبصوتٍ أحسست الصدق في نبراته قال: "لن أقول لك كما يقول غيري: {الشيطان شاطر}، لكني أعترف لك بأني كنت أختار العمل السئ عن عمدٍ أستمتع وأتلذذ به"، قلت له: "وما الذي جعلك الآن تفكر في التغيير وترك ما كنت عليه من مُتعٍ وملذات؟"، قال: "شئٌ ما في داخلي طالما قال لي أنني أسير في الطريق الخطأ، لكني كنت أتجاهله حتى خَفَتَ وصار همساً، ثم إن الهمس بدأ هو الآخر يخفت شيئاً فشيئاً، إلى أن قرأت خاطرتك فراودني شعورٌ بأنها ربما تكون الفرصة الأخيرة لي لتوبةٍ نصوح، لكن لا أدري هل يقبل الله توبتي بعد كل ما فعلت؟"، رددت بحسم: "إن الله غفورٌ رحيم"، وقلت له: "ألم تقرأ قول الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟"، سكت برهة ثم أجاب: "للأسف لم أقرأ القرآن الكريم ولا مرة واحدة في حياتي"، قلت مخففاً عنه: " كذلك كنا من قبل فَمَنَّ الله علينا، فأنت لست وحدك مَن عَبَرَ هذا الطريق من الظلمات إلى النور"، قال وكأنه وجد ضالته: "تماماً، هذا هو ما أبحث عنه: {طريق النور}، هذا هو الذي أرغب في السير فيه، كفاني ما عشت في الظلمات"، قلت ملاطفاً: "أعاذنا الله من الظلمات وجعلنا من أهل النور".
استمرت المكالمة الهاتفية مع هذا الشخص، الذي لا أعرفه، فيها من الوضوح والصدق والرغبة في التطهر ما لم أُحسه أو ألمسه في غيره، وكانت الآية التي أَثَّرَت فيه كثيراً طوال هذه المكالمة (لا تقنطوا من رحمة الله)، قال لي أنه يُحس أن هذه الآية تخاطبه هو شخصياً، وأنها قد أيقظت ذلك الشئ في داخله الذي كان دوماً يحدثه بأنه يسير في الطريق الخطأ.

أحبتي في الله .. كثيرٌ ممن يعيشون معنا في محيط الأسرة أو الجيرة أو العمل ما زالوا في طريق الظلمات يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النور .. يزين لهم الشيطان أعمالهم، فإذا أرادوا التوبة والعودة إلى طريق الحق والاستقامة وسوس لهم الشيطان أن الله لن يقبل توبتهم بعد كل ما فعلوه من سيئات واقترفوه من آثام .. هؤلاء يحتاجون إلى من يذكرهم بأرجى آية في كتاب الله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ .. يقول العلماء أن فيها نَهْيٌ عن القنوط من رحمة الله تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يقنط من رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه. والقنوط هو اليَأْس، واليَأْس نقيض الرجاء،
أمرنا الله عز وجل بعدم اليأس من روحه ووصف من يفعل ذلك بأنه من القوم الكافرين؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، ووصف مَن يقنط مِن رحمته بأنه من الضالين؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾.
 القنوط يكون بأن يعتقد أحدنا أن الله لن يغفر له، وأنه إذا تاب لن يقبل الله توبته ويمحو ذنوبه، رغم أن الله سبحانه أخبرنا أنه يقبل التوبة؛ قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، وقال إن الاستغفار من الذنوب يوجب المغفرة والرحمة؛ قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ثم وصف نفسه في كتابه الكريم بالقول: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾، وبالقول: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾.
ما أكرمك يا الله، طلبتَ من نبيك المصطفى عليه الصلاة والسلام أن يُنبئ عبادك بأنك أنت الغفور الرحيم؛ فقلتَ: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وأكدتَ على أن رحمتك وسعت كل شئ؛ بقولك: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، حتى مع ظلم الناس تفضلتَ عليهم بالمغفرة؛ فقلتَ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾، تغفر كل شيء إلا أن يُشرك بك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.

أحبتي .. (لا تقنطوا من رحمة الله).. كلنا مقصرون .. وجميعنا مذنبون .. ليس منا من لم يظلم نفسه .. فماذا نحن فاعلون يا تُرى؟ حدد لنا عز وجل الطريق وبيَّن السبيل بالاستغفار وعدم الإصرار على المعصية، ووعدنا سبحانه بالمغفرة والجنة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
ومن كرم المولى عز وجل ورحمته أنه ألزم نفسه ليس فقط بأن يغفر لنا، بل بأن يبدل سيئاتنا حسنات، شرط أن نُتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، فهل هناك كرمٌ ورحمةٌ أكثر من ذلك؟ قال تعالى: ﴿إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾، وفي الحديث القدسي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغَتْ ذنوبك عَنَان السماء، ثم استغفرتَني غفرْتُ لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمُ السَّمَاءَ ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ عَلَيْكُمْ]، أي كرمٍ ورحمةٍ أكثر من ذلك؟ وأي توبةٍ أوسع من ذلك؟.
أحبتي .. كثيرٌ منا، وأنا منهم، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فإذا اعترفوا بذنوبهم شملهم الله بغفرانه ورحمته؛ قال تعالى: ﴿وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فاللهم تُب علينا وأنت الغفور الرحيم.
هلم أحبتي إلى التوبة و(لا تقنطوا من رحمة الله)، وليكن لسان حالنا كما قال الشاعر:
إلهي أتيتُ بصدقِ الحنين .. يناجيكَ بالتوبِ قلبٌ حزين
إلهي أتيتكَ في أضلعي ... إلى ساحةِ العفوِ شوقٌ دفين
إلهي أتيتُ لكم تائباً ....... فألحق طريحَكَ في التائبين
أعنه على نفسهِ والهوى ..... فإن لم تُعنه فمَن ذا يُعين
أتيتُ وما لي سوى بابِكم ... فرحماكَ يا ربِ بالمذنبين

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/toShZV

الجمعة، 18 نوفمبر 2016

تزودوا

الجمعة 18 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٨
(تزودوا)

أخيراً وصلته تأشيرة دخول تمهيداً لسفر كان يتوقعه .. كان قد أعد نفسه للسفر قبل وصول التأشيرة .. أحضر الكثير من الكتب التي تتحدث عن المكان الذي ينوي السفر إليه.. واستمع إلى كثير ممن كانوا يتكلمون عن هذا المكان .. وكلما خطر على ذهنه سؤال أو استفسار كان يسارع للبحث عن إجابات عن أسئلته .. باختصار، كان قد استعد نفسياً استعداداً كاملاً لهذه الرحلة.
وكان عليه أن يستعد بشكل عملي؛ رجع إلى قائمة تحقق check list مدون فيها كل ما يحتاج إليه المسافر في رحلته إلى هذا المكان .. وضع القائمة في مكان محدد على مكتبه ووضع بجوارها قلماً ليضع علامة على كل شيء يكون انتهى من تحضيره وإنجازه.
ومع كل هذا الاستعداد فقد انتابته بعض هواجس خوف، لكنه أقنع نفسه بأن الخوف من المجهول ظاهرة إنسانية وأنه إنسان .. برر لنفسه هذا الخوف الذي أحس به.
وفي خطوة عملية أخيرة جهز حقيبة سفره واستعد لبدء الرحلة .. لاحظ أن هناك أشياء في القائمة لم يتسع وقته لتجهيزها ووضعها في حقيبة السفر .. لم يكن يستطيع تدارك الأمر فالوقت كان قد نفد .. وحان وقت انتقاله إلى المطار للسفر .. وصل إلى المطار محاطاً بعدد كبير من أهله وأصدقائه ومحبيه الذين حضروا خصيصاً لوداعه .. لم يبخلوا عليه بدعواتهم الطيبة أن ييسر الله سبحانه وتعالى له رحلته ويوفقه في حياته الجديدة في ذلك المكان البعيد.
هذا سيناريو يحدث بشكل اعتيادي مع أي شخص منا يسافر تاركاً مكاناً تعَوَّد أن يعيش فيه إلى مكان جديد لم يألفه بعد .. ربما أهم ما في هذا السيناريو هو الاستعداد الجيد للرحلة، فكلما كان الاستعداد جيداً ومخططاً له كلما كانت النتائج مُرضية، وإذا سألك بعضهم عن كلمة السر لنجاح الرحلة قلت لهم: (تزودوا)!
هذا فيما يتعلق برحلة عادية من مكان إلى آخر لا يختلفان كثيراً إلا في تفاصيل بسيطة وصغيرة نسبياً .. فما بالنا برحلة غير عادية .. رحلة من مكان ألفناه واعتدنا عليه إلى آخر مختلف تمام الاختلاف في كل شيء .. ما أقصده هو تلك الرحلة التي لا مفر منها لكلٍ منا، رحلة الموت، وهو حقٌ علينا جميعاً؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾، ويقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾، ويقول: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾، ويقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، ويخاطب حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، ولا مجال للهروب من الموت؛ يقول عز وجل: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾، ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، ويقول: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، بمعنى هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص.
يا لها من رحلة؛ تأشيرة الدخول فيها هي قرب انتهاء الأجل، والمكان الذي نغادره هو دار الدنيا، والمكان الذي نسافر إليه هو الدار الآخرة، وقائمة التحقق check list هي الأعمال التي ينبغي علينا أن نؤديها من عبادات ومعاملات، أما حقائب السفر فغير مسموح لنا أن نحمل فيها سوى أعمالنا التي قمنا بها بالفعل في حياتنا الدنيا؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله]، والمطار هو القبر الذي يوماً ما سيدخله كلٌ منا ليصل إلى الدار الآخرة فلا طريق آخر ولا بديل، والأهل والأحبة والأصدقاء المودعون هم المشيعون لنا إلى آخر مكان لنا في دار الدنيا ينظرون إلينا ولا يملكون لنا أي شيء سوى الدعاء؛ يقول سبحانه: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ*وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ*فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ*تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وتبقى كلمة واحدة هي الأهم في الاستعداد لهذه الرحلة، هي كلمة السر: (تزودوا)!

أحبتي في الله .. أعلم أن حديث الموت لا يحبه الكثيرون، بل ويهربون من مجرد ذكره .. وأعلم أن الكثيرين لن يكملوا قراءة هذه الخاطرة إلى نهايتها! .. والسبب أننا مقصرون وغافلون، أعمالنا قليلة وأمانينا كثيرة وقلوبنا لاهية، ينطبق على أغلبنا قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ*مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ*لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ..﴾، ومع ذلك فعلينا أن نتذكر الموت دائماً ونستعد له لنكون "أكيس المؤمنين"، تأمل رد الرسول عليه الصلاة والسلام على رجل من الأنصار سأله: أي المؤمنين أكيس؟، قال: [أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس]، والكَيِّسُ هو العاقل المتبصر في الأمور، الناظر في العواقب، كما أن العاقل من يتعظ بالموت؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا ..].

أحبتي .. كلنا يعلم أن وجودنا في الدنيا هو ابتلاء واختبار، إنه امتحان لنا ليرى المولى عز وجل أينا أحسن عملاً؛ قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، فهل انتبهنا وأفقنا من غفلتنا وأحسنا العمل؟ وهل اتعظنا من كل تلك الآيات الكريمة وتدبرنا معانيها؟ أم نحن كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟
وبلغة العصر نقول أن أي طالب مقبل على امتحان يكون منتهى أمله أن يعلم أسئلة الامتحان قبل أن يبدأ، فما بالنا في امتحان الدنيا، جميع الأسئلة معلومةٌ لنا مسبقاً ويعلم كلٌ منا ما سيُسأل عنه عند وقوفه بين يدي ربه سبحانه وتعالى يوم الحساب، ولا نعمل لهذا اليوم، بل والبعض يرسب في الامتحان رغم أن الأسئلة مكشوفة ومعلومة ومعروفة وتم تسريبها عمداً؟!

لنحذر أحبتي من التسويف، ولنبادر إلى العمل لما بعد الموت، ولنطرد الهوى والأمل الكاذب والأماني الخادعة التي تجعلنا عاجزين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ]، ولتكن الكلمة التي نتواصى بها فيما بيننا هي (تزودوا)، فإذا سأل سائل: "ما هو الزاد الذي علينا أن نتزود به؟" جاءت الإجابة واضحة ومحددة لا لبس فيها: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، إذن فالزاد هو تقوى الله سبحانه وتعالى، والتقوى هي أن يأخذ العبد وقايته من سخط الله عز وجل وعذابه؛ وذلك بامتثال المأمور، واجتناب المحظور، ونلاحظ في هذه الآية الكريمة التأكيد على التقوى بلفظين مختلفين: المصدر وفعل الأمر، كما نلاحظ أن الآية انتهت بتوجيه هذا الأمر للعقلاء ذوي الأفهام والألباب.

هيا أحبائي نقتنص كل فرصةٍ ولا نضيع دقيقةً واحدةً حتى نملأ حقائب سفرنا بخير زادٍ لرحلةٍ آتيةٍ لا شك فيها، ندعو الله سبحانه وتعالى أن تكون وجهتنا الأخيرة فيها الفردوس الأعلى من الجنة، وهذا هو الفوز العظيم.
أما أحبتنا الذين ما تزال حقائبهم خاوية أو قليلة المتاع، فبادروا أعزتنا إلى توبةٍ نصوحٍ أخلصوا فيها النية وصححوا مسيرة حياتكم، ارجعوا إلى قائمة التحقق، نفذوا ما تستطيعون تنفيذه منها، فلا يعلم أحد منا موعد سفره أو تاريخ رحلته!
اجعلنا اللهم ربنا من المسارعين إلى مغفرةٍ منك، واجعلنا من المتقين؛ لنكون من أصحاب الجنة مصداقاً لوعدك، ووعدك حق: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/3MkSbm