الجمعة، 18 يونيو 2021

تضحية الأم

 

خاطرة الجمعة /296


الجمعة 18 يونيو 2021م

(تضحية الأم)

 

داخل إحدى غرف العمليات بمعهد الكبد القومي بمحافظة المنوفية بجمهورية مصر العربية تسطر أمٌ تضحيةً ليست بجديدةٍ على مَن تحت أقدامهن جنة الرحمن، قررت الأم التبرع لابنتها ذات السنوات الأربع بجزءٍ من كبدها. وانتشرت عبر صفحات التواصل الاجتماعي دعواتٌ للتبرع بالدم ودعواتٌ بالدعاء للأم وطفلتها الصغيرة.

‏ تعود أحداث قصة (تضحية الأم) إلى أربع سنواتٍ مضت؛ بعد ولادة الطفلة بعدة شهور، حيث فوجئت الأم أن ابنتها مصابةٌ بتليفٍ في الكبد؛ فبدأت الأم رحلتها في البحث عن أملٍ لعلاج ابنتها، فعرضتها على أطباء المعهد الذين أجمعوا على ضرورة زراعة كبدٍ للطفلة، وكان عمرها حينئذٍ لا يتجاوز ستة شهور؛ فأرجأ الأطباء تنفيذ عملية الزراعة إلى حين يكون الوقت مناسباً لذلك، واستمروا في متابعة الطفلة بشكلٍ دقيقٍ حتى بلغت عمر أربع  سنواتٍ، فقرر الأطباء أنه حان الوقت لإجراء الجراحة وزرع الكبد، وكان لابد من وجود متبرعٍ، دون أي تفكيرٍ قررت الأم إجراء جميع التحاليل للتبرع لابنتها بجزءٍ من كبدها، لتأتي نتيجة التحاليل متوافقةً مع حالة الطفلة، وتمت العملية بنجاحٍ، لتضيف هذه القصة قصةً جديدةً إلى ملف قصص (تضحية الأم).

 

أحبتي في الله .. (تضحية الأم) لإنقاذ أحد أبنائها ليست بالأمر الغريب، فهي تحدث في كل زمانٍ ومكانٍ، إذ أن الأمهات فُطرن على ذلك؛ فهذه أمٌ أخرى عندما أفاقت بعد الولادة، طلبت من الممرضة رؤية ابنها الذي انتظرته لسنين طويلةٍ، فأحضرته لها الممرضة لتراه ثم خرجت، رفعت الأم الغطاء من عن وجه ابنها فخافت مما رأت! رأت طفلاً بلا أذنين! عادت الممرضة فسألتها الأم: "هل طفلي يسمع"!؟ فقالت الممرضة: "نعم يسمع رغم تشوه أذنيه"؛ فابتسمت الأم في وجه طفلها، ورفعت يديها وشكرت الله على عطيته مهما كانت، واحتضنت الطفل في صدرها وهمست إليه: "أنت ابني مهما يكن". مع الأيام كبر الطفل وواجهت أمه معه صعوباتٍ كثيرةً نتيجةً لمضايقات أصدقائه وجيرانه وأقربائه، إلا أنها كانت دائماً مبتسمةً في وجهه وداعمةً له. لن تنسى تلك المرة التي رمى طفلها بنفسه في أحضانها باكياً من استهزاء أحد أصدقائه به، وتسميته بالوحش، إلا أنها قالت: "أحبك كما خُلقت". ورغم هذه الإعاقة إلا أن أداء الابن كان متميزاً في الدراسة، حتى كبر ودخل كليةً مرموقةً، ودرس السياسة والعلاقات الإنسانية. في أحد الأيام كان والده جالساً مع أحد الجراحين المشهورين، فحكى له مأساة ابنه؛ فقال له الطبيب: "إن هناك عمليات نقلٍ للأذنين، ولكننا في حاجةٍ لمتبرع"، فوافق الأب على إجراء العملية حينما يظهر أي متبرع. بعد فترةٍ من الزمن، اتصل الطبيب بالأب، وقال له: "لقد وجدنا المتبرع لإجراء العملية لابنك". أُجريت الجراحة للشاب بنجاح، وأصبح الطفل الوحش رجلاً وسيماً، وسأل عن المتبرع حتى يشكره؛ فرفض الطبيب ذكر اسم المتبرع، بناءً على رغبته. دفعت هذه الحالة الجديدة، الابن للتفوق أكثر وأكثر حتى أصبح سفيراً لبلاده، وتزوج بمن أحب، إلا أنه، وطوال السنوات التي أعقبت إجراء العملية، ظل يتساءل عن الشخص الذي قدم له أذنيه! هل كان متوفياً دماغياً، ومن هم ذووه؟ هل كان شخصاً مريضاً؟ ولماذا تبرع؟ أسئلةٌ كثيرةٌ بدون أجوبةٍ كانت تمر دائماً على خاطره ولا تفارقه أبداً. سأل والده عدة مراتٍ عن المتبرع، وقال إنه يحمل له الكثير من التقدير والعرفان بالجميل، ولا يستطيع أن يكافأه، لأنه كان له الدور الكبير في نجاحاته المتعاقبة في حياته، يبتسم الأب ويقول لابنه: "صدقني؛ حتى لو عرفته، فلن تستطيع أن توفيه حقه". في أحد الأيام زار الابن بيت والديه بعد سَفرٍ طويلٍ أمضاه في دولةٍ أجنبيةٍ في إطار عمله، حمل الابن لوالديه الكثير من الهدايا كان من ضمنها قرطان ذهبيان اشتراهما لأمه، وكانت دهشة الأم كبيرةً عندما شاهدت جمال هذين القرطين، حاولت رفض الهدية بشدةٍ قائلةً له إن زوجته أحق بهما منها، فهي أكثر شباباً وجمالاً، إلا أن إصرار الابن كان أكبر من إصرار والدته؛ فأخرج القرط الأول ليلبسها إياه، واقترب منها، وأزاح شعرها فأصابه الذهول عندما رأى أمه بلا أذنين! أدرك الابن وقتها فقط أن أمه هي من تبرع له بأذنيها، فأُصيبَ بصدمةٍ، وأجْهش بالبكاء. وضعتْ الأمُ يديها على وجنتي ابنها وهي تبتسم، قائلةً له: "لا تحزن، فلم يقلل ذلك من جمالي أبداً، ولم أشعر بأني فقدت أذنيّ يوماً، بل ازداد جمالي بولدي الذي استطاع أن يعيش حياةً كريمةً من دون تجريحٍ من أحد".

 

وعن (تضحية الأم) يحكي شابٌ هذه القصة فيقول:

تُوفي أبي منذ أن كنتُ في الرابعة من عمري، وكانت أمي تعمل عاملةً في مدرسةٍ لكي توفر لي احتياجاتي، وكانت أمي بعينٍ واحدة. عندما كنتُ في المدرسة كان أصدقائي يعايرونني بأن أمي عاملةٌ في المدرسة وبأنها بعينٍ واحدة. وكلما كنتُ أكبر كلما كانت تزيد معايرة أصدقائي لي. كرهتُ أمي وأصبحتُ أُحرج منها، ولا أسير معها في الطريق من شدة خجلي من شكلها ومن عملها، بالرغم من أنها كانت تعمل وتتعب كثيراً من أجلي إلا أنني كنتُ أعاملها بكل قسوةٍ، وأكره النظر في وجهها. كبرتُ وأصبحتُ مهندساً -بفضل عملها وتعبها- لكني لم أُقدِّر لها ذلك، وسافرتُ خارج البلاد ولم أسأل عنها يوماً ولا عن أحوالها. بعد عدة سنواتٍ عدتُ إلى بلدي، ولم أفكر أن أذهب إلى أمي أو أعطيها أموالاً، وتزوجتُ من فتاةٍ جميلةٍ من عائلةٍ كبيرةٍ، وعندما سألتني عن أمي أُحرجت أن أحكي لها عنها أنها كانت عاملةً في مدرسةٍ وأن شكلها مخيف. مرت سنواتٌ أخرى وأنجبتُ ولداً وبنتاً. وفي أحد الأيام طُرق باب المنزل ففتحتُ الباب فوجدتُ أمي، كانت تلبس ثياباً قديمةً، وكان يظهر عليها الفقر وكِبَر السن، لم أُدخلها إلى المنزل، وطلبتُ منها الرحيل قبل أن يراها أبنائي ويخافوا من شكلها لأنها بعينٍ واحدة. بعدها بيومٍ واحدٍ جاء إليّ رجلٌ من جيران أمي وأخبرني أنها تُوفيت، لم أندم وقتها على ما فعلتُه بها، وقلتُ لزوجتي إني سوف أسافر للعمل وأعود بعد بضعة أيام. دفنتُ أمي، وقام أحد الجيران بإعطائي جواباً من أمي، فتحتُ الجواب فوجدتُ أمي قد كتبت فيه (ابني العزيز؛ أحبك بالرغم من كل ما فعلتَه بي، ولن أغضب عليك، فقد ضحيتُ كثيراً من أجلك، ولكنك لم تقدر ذلك، وكنتَ تخاف من شكلي لأني بعينٍ واحدةٍ، لكن ما لم تكن تعرفه هو أنك أنت كنتَ بعينٍ واحدةٍ يا بني؛ عندما كنتَ صغيراً وتعرضتَ لحادثٍ أفقدك إحدى عينيك، فلم أتردد لحظةً في أن أُقدِم عيني لك. أتمنى لك أن ترى السعادة مع أسرتك بكلتا العينين: عيني وعينك). عندما قرأتُ تلك الكلمات كان قلبي يبكي قبل عينيّ، وندمتُ كثيراً على ما فعلتُه بأمي؛ فبدلاً من أن أُقدرها وأُكرمها كما أكرمتني أهنتها. لكن ماذا يفيد الندم الآن؟ لقد أصبحتُ غير قادرٍ على الحياة بسبب عذاب الضمير وخوفي من عذاب الآخرة.

 

بعيداً عن جحود بعض الأبناء، تظل (تضحية الأم) نهجاً مستمراً للأمهات يُضحين بأكبادهن وآذانهن وعيونهن، ويضحين بأموالهن وأملاكهن وحتى بأنفسهن، ويتنازلن عن حقوقهن من أجل أبنائهن، منتهى الإيثار والنبل، فما السبب في ذلك يا تُرى؟

كشفت دراسةٌ علميةٌ حديثةٌ عن (تضحية الأم) أن الأم يمكنها التضحية بحياتها دفاعاً عن حياة أبنائها، وأن الأمر متعلقٌ بنشاط أحد الهرمونات الموجود بالدماغ، والمعروف باسم «هرمون الحب»، والذي يلعب دوراً رئيسياً في الترابط بين الأمهات وأبنائهم، إذ لاحظ الباحثون زيادة نشاط هذا الهرمون عند شعور الأمهات بخطرٍ يُهدد أبناءهن، في حين يتجمد نشاطه تلقائياً عندما يزول الخطر.

أما نحن المسلمون فنقول سبحان الله إنها ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

 

عن قلب الأم قال الشاعر:

أغرى امرؤٌ يوماً غُلاماً جاهلاً

بنقودِه حتى ينالَ به الوَطَرْ

قال: ائتني بفؤادِ أمكِ يا فتى

ولكَ الدَراهمُ والجواهرُ والدُرَرْ

فمضى وأغرزَ خِنجراً في صَدْرِها

والقَلبُ أخرَجهُ وعادَ على الأثرْ

لكنه مِن فرطِ سُرعتِه هوى

فتدَحْرَجَ القلبُ المُعَفَّرُ إذْ عَثرْ

ناداه قَلبُ الأمِ وهو مُعَفرٌ:

ولدي، حَبيبي، هَلْ أصابكَ مِن ضَررْ؟

فكأن هذا الصَوتَ رُغْمَ حُنُوِّهِ

غَضَبُ السَماءِ على الوليدِ قَدْ انْهَمَرْ

ورَأى فَظيعَ جِنايةٍ لم يأتِها

أحَدٌ سِواهُ مُنْذُ تاريخِ البَشَرْ

وارتدَ نَحو القَلبِ يغسلهُ بما

فاضتْ به عيناهُ مِن سيلِ العِبرْ

ويقول: يا قلبُ انتقمْ مني ولا

تغفرْ، فإن جريمتي لا تُغتفرْ

واستلَّ خِنجرَهُ ليطعنَ صدرَهُ

طعناً سيبقى عبرةً لمن اعتبرْ

ناداه قلبُ الأمِّ: كُفَّ يداً ولا

تذبحْ فؤادي مرتين ِ على الأثرْ

 

أحبتي .. صدق عالمٌ جليلٌ حين قال: "الأم هي تجسيدٌ لأسمى معاني الحُبِّ والعطاء، والتضحية والوفاء، وهي المأمن في المُلمات، وحِصن القلب في الفَزَعَات، أعلى ربُّنا منزلتها؛ فجعل الجنَّة عند قدميها، وكرَّر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في برِّها الوصية، فقال: [أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك....] فكونوا لأمهاتكم كما كُنَّ لكم".

أختم بقولي إن وجود الأم نعمةٌ من أعظم نعم الله علينا، فمن كانت له أمٌ يبرها فليحمد الله، ويزد في بِره لها، وليسأل نفسه متى كانت آخر مرةٍ قَبَّل فيها قَدم أمه، وهو يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا]؟ أو قَبَّل يديها؟ أو قَّبَّل -على الأقل- رأسها وجبينها؟ ابدأ من اليوم، واجعلها عادة، وانظر مقدار السعادة الذي أدخلته على قلب أمك.

أمّا مَن كان لا يبر أمه لأي سببٍ من الأسباب؛ فليراجع نفسه فوراً ويصحح خطأه، وينقذ نفسه قبل فوات الأوان، ويُبادر إلى الاعتذار لها، وتعويضها عن كل برٍ فاته القيام به، ويعاملها -ووالده-بالرحمة؛ يقول تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾.

ومَن كانت أمه في ذمة الله؛ فليكثر من الدعاء لها -ولوالده- بالرحمة؛ يقول تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ وليتصدق عنها، ويصل الرحم التي لا تُوصل إلا بها، ويُكرم صديقاتها، ويُحسِن إلى جميع معارفها.

جعلنا الله وإياكم ممن يبرون أمهاتهم ويقدرون تضحياتهم.

 

https://bit.ly/3gAHUD9