الجمعة، 7 أبريل 2023

رزق ربك

 خاطرة الجمعة /390

الجمعة 7 إبريل 2023م

(رزق ربك)

يقول راوي القصة: خرجتُ في أحد الأيام وركبتُ سيارة أُجرة فوجدتُ السائق رجلاً كبيراً في السن تظهر عليه معالم الكِبَر من تجاعيد في الوجه ومعاني الشقاء؛ فتكلمتُ معه، وكان من ضمن حديثي سألته: "مُنذ متى وأنت في هذه المهنة يا والدي؟"، فقال: "من سنة 1968م"، فقلتُ: "ما هو أغرب موقفٍ حدث معك يا والدي؟"، فحكى لي قصةً عجيبةً؛ قال: في يومٍ من الأيام لم يكن في البيت جنيه واحد؛ فقد ظللتُ لمدة ثلاثة أيامٍ لا أستطيع العمل، وفي شدة المرض والإجهاد، لا أستطيع الحركة، وزوجتي تمر على الجيران تُحاول أن تجد من يُقرضها 20 جنيه أو من معه أي فائض طعام، وتعود إليّ زوجتي تبكي لأنها لم تجد من الجيران من يستطيع مساعدتنا، قلتُ لها: "سأقوم وأحاول العمل لإحضار أي مال"، قالت لي: "لا؛ أنت متعبٌ جداً، وأخشى عليك" فكذبتُ عليها وقلتُ: "إذن سأنزل أجلس على المقهى فقد انتابني الملل" -وأنا أنوي الخروج للعمل لإحضار أي مال- فوافقتْ على وعدٍ مني ألا أذهب للعمل.

نزلتُ وركبتُ سيارتي الأجرة، واستغفرتُ الله كثيراً وقلتُ في نفسي: "يا ربِ لقد اجتهدتُ وضغطتُ على نفسي، ارزقني بأي مالٍ أُطعم به عيالي" وظللتُ أمشي وأمشي بالسيارة ولا فائدة! وفجأةً ظهر أمامي رجلٌ بسيارة أُجرةٍ مُعطلةٍ أوقفني وقال لي: "معي رجلٌ عربيٌ أريد توصيله إلى المطار؛ وتعطلت سيارتي فهلا وصلته أنت؟"، أخذتُ الراكب معي لتوصيله إلى المطار، وفي الطريق دار بيننا الحديث وعلمتُ منه أنه يُريد الذهاب إلى المطار ليس للسفر وإنما لاستلام بضاعةٍ من قرية البضائع بالمطار؛ فأخبرته بأن لي قريباً هناك يستطيع إنهاء الإجراءات له بسرعةٍ ويُسرٍ فطلب مني أن أفعل. وصلنا إلى قرية البضائع وقابلتُ قريبي وأخبرته عن الراكب فأنهى له معاملته بسرعةٍ واستلم البضاعة بتكلفةٍ أقل؛ فبدلاً من أنه كان سيدفع 1500 جنيه لاستلام البضاعة دفع 500 جنيهاً فقط! فشكرني الرجل، وقال لي: "أرجعني إلى منزلي"، رجعتُ به إلى المنزل فأخرج من جيبه 200 جنيه وقال لي: "هل أنت راضٍ بهذه الأجرة؟"، قلتُ له: "نعم؛ راضٍ جداً، أنا كنتُ أبحث فقط عن 20 جنيهاً فأعطاني الله عشر أضعافها، الحمد لله"، فناداني الرجل ثانيةً قائلاً: "كنتُ سأدفع 1500 جنيها لإنهاء إجراءات استلام البضاعة فساعدتني على إنهاء الإجراءات ب 500 جنيه فقط فهذه ألف 1000 جنيه حلالٌ عليك وربنا يسعدك". يقول الرجل فذهبتُ وأخذتُ طوال طريق عودتي للبيت أبكي وأقول: "يا ربِ ما أكرمك.. خرجتُ لترزقني 20 جنيهاً فرزقتني 1200 جنيه!!".

 

أحبتي في الله.. إنه (رزق الله) يهبه لمن يشاء من عباده فهو سبحانه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ وهو الذي يُنزِّل الأرزاق على عبيده؛ يقول تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾.

 

ولنعلم أن ليس كل الرزق مالاً يجنيه الإنسان في حياته، وليس منصباً ولا جاهاً يفخر به بين أهله وناسه، فقد يمتد (رزق ربك) إلى ما لا يتوقعه أحدٌ؛ قد يمتد إلى بعد موت الإنسان! نعم يمتد الرزق إلى ما بعد وفاة الشخص، وقد حدث هذا قبل يومين؛ كنا قد صلينا الظهر في مسجد السلام بمدينة نصر بالقاهرة، ثم صلينا صلاة الجنازة على من حضر من أموات المسلمين، فما إن انتهينا من صلاة الجنازة إلا وتقدم أهل ميتٍ آخر بجُثمان ميتهم يطلبون الصلاة عليه، فأعاد الإمام صلاة الجنازة كاملةً على جميع الأموات؛ من صلينا عليهم بالفعل، ومن أتى متأخراً؛ فصار دُعاء المصلين مُضاعفاً لمن سبقت الصلاة عليهم، وكان ذلك (رزق ربك) ساقه سبحانه وتعالى لهم وهُم أموات.

 

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾. قال المفسرون إنّ المراد بالرزق هنا الثواب، والمعنى أن ما وعد الله به عباده من الثواب في الآخرة هو خيرٌ وأبقى من متع الحياة الدنيا؛ لأن ثوابه سبحانه لا انقطاع له ولا نفاد. وإضافة الرزق إلى الرب في قوله: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ إضافة تشريفٍ؛ وإلا فإن الرزق كله من الله، ولكن رزق الكافرين لِمَا خالطه وحفَّ به حال أصحابه من غضب الله عليهم، ولِمَا فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة لكفرانهم النعمة، جُعِلَ كالمنكور انتسابه إلى الله، وجُعِلَ رزق الله هو السالم من ملابسة الكُفران ومن تبعات ذلك.

ويقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾، قال المفسرون إنّ الله يبسط رزقه لمن يشاء من عباده؛ فيُوسع عليه، ويقدر على من يشاء أي يقِّل ويضيِّق عليه. والله هو الرزاق بما يشاء؛ فيُغني من يشاء، ويُفقر من يشاء، بما له في ذلك من الحكمة؛ يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ بَصِيْرٌ﴾، وكما جاء في الحديث المروي: {إنَّ مِن عبادي مَن لا يَصلحُ إيمانُهُ إلَّا بالغِنى ولَو أفقرتُهُ لَكَفرَ، وإنَّ مِن عبادي من لا يَصلحُ إيمانُهُ إلَّا بالفَقرِ ولَو أغنيتُهُ لَكَفرَ}، وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجاً، والفقر عقوبةً عياذاً بالله من هذا وهذا.

 

ويرى أهل العلم أنّ للرزق أسباباً عديدةً من أهمها تقوى الله وطاعته؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾. والعكس صحيحٌ أيضاً فإن المعصية تنقص الرزق وتمحق البركة؛ لأن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، يقول سبحانه: ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ]. ومن أسباب الرزق التوبة والاستغفار؛ يقول تعالى على لسان نبيه هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾. ويقول سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾. وأيضاً بِرُ الوالدين وصلة الأرحام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ]. وكذلك الإنفاق في سبيل الله؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. والإحسان إلى الضعفاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلَّا بضُعَفَائِكُمْ؟]. وأيضاً استحضار القلب في العبادات؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ يا ابنَ آدمَ: تفرَّغْ لعبادتي أملأْ صدرَكَ غنًى وأسدَّ فقرَكَ، وإلَّا تَفْعَلْ ملأتُ يديْكَ شغلاً، ولم أسدَّ فقرَكَ]. وشكر الله على النعم الموجودة؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. وكذلك الزواج؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. والمتابعة بين الحج والعمرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ، فإنَّهما ينفِيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفي الْكيرُ خبثَ الحديدِ والذَّهبِ والفضَّةِ]. ويكون ذلك كله مع الأخذ بأسباب الكسب؛ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾.

 

وعن (رزق ربك) قال الشاعر:

وكيف أخافُ الفقرَ والله رازقي

ورازقُ هذا الخلقِ في العُسرِ واليُسرِ

تكفّلَ بالأرزاقِ للخلقِ كلهمُ

وللضبِ في البيداءِ والحوتِ في البحرِ

 

وقال آخر:

لا تجزعْ لضيقِ الرزقِ أبداً

يرزقُ العُصفورَ من بين النسور

واعلم بأن اللهَ يعلمُ

نظرةَ العينِ وما تُخفي الصدور

كُنْ شاكراً ما دمتَ حياً

واعلم بأن الدُنيا أيامٌ تدور

 

أحبتي.. علينا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على كل ما تفضل به علينا من أرزاق لا تُعد ولا تُحصى. وعلينا -ونحن نسعى لتحصيل الرزق- ألا يكون همنا إرضاء صاحب العمل أو الوزير أو المدير، وإنما يكون رضا الله هو غايتنا فهو ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. وإذا كنا في سبيل تحصيل الرزق نستجيب لطلبات المسئولين وأوامرهم ولا نخالفها أبداً مهما بدت صعبةً أو شاقةً، فمن باب أولى علينا أن نستجيب لطلبات الله سبحانه وتعالى وأوامره ونلتزم بفروضه وننتهي عما نهانا عنه، وهي كلها أمورٌ ليست صعبةً ولا شاقةً؛ إنْ فعلناها نلنا رضاه، ومَن يرضَ عنه الله يُدهشه بعطائه.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.

https://bit.ly/3maTbjt