الجمعة، 17 نوفمبر 2017

إكمال الدين وإتمام النعمة

الجمعة 17 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٩
(إكمال الدين وإتمام النعمة)

في صلاة الفجر قرأ إمامُنا في أول ركعة الآيات الأولى من سورة المائدة، وما إن وصل إلى الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ حتى وجدتُ نفسي وقد انشغلت بهذه الآية وبمعانيها وبكل ما هو مرتبطٌ بها؛ فإذا بالمصلين يرددون خلف الإمام، وأنا أردد معهم، "الله أكبر" ثم ركعنا كلنا. سبحان الله، هل ذهب تفكيري في هذه الآية بعيداً حتى أني لم أنتبه إلى ما بعدها من آيات؟
للأسف يتكرر حدوث هذا الأمر معي، خاصةً مع آياتٍ بعينها أجد نفسي مشدوداً لها. أعترف أن هذا لا ينبغي أن يحدث، وأنه نقصٌ في الصلاة لا يجوز أن يتكرر، لكنه ضعف النفس حين تستمع إلى مثل هذه الآيات من التنزيل الإلهي المعجز فتسرح معها وتتذكر سبب نزولها وتفسيرها وما تتضمنه من معانٍ ساميةٍ وقيمٍ راقيةٍ.
حين انتهينا من الصلاة، كان حديثنا عن هذه الآية فذكر صديقٌ عزيزٌ أنه وصلته رسالة عن طريق برنامج "واتس آب" أخرج هاتفه وقرأها لنا، تقول الرسالة:
"ما الفرق بين كلمتي: أكملت وأتممت في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾؟
أكمل الأمْـرَ: أي أنهاهُ على مـراحل مُتقطّعةٍ بينها فواصلُ زمنيّةٌ؛ فالذي عندهُ أيّام إفطارٍ في رمضان وعليه صيامها فيما بعد، لديه فرصة أحد عشر شـهراً لقضائها، ولو على فتراتٍ متقطّعةٍ، لذلك قال تعالى: ﴿وَلْتُكْـمِلُوُا اَلْـعِدَّةَ﴾. أما أتـمّ الأمـر: أي لا ينقطع العمل حتّى ينتهي؛ فلا يجوز مثلاً الإفطار عند النهار في يوم الصيام، ولو لفترةٍ قصيرةٍ جدّاً، لذلك يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّـوُا اَلْصِـيَامَ إِلَىَ اَلْلَيْلِ﴾ ولم يقل "أكملوا". وكذلك لا يجوز للإنسان أن يتحلّل مِنَ الإحرام في الحجّ حتى ينتهي من شعائره؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوُا اَلْحَجَّ وَاَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ ولم يقل "أكملوا". وفي الآية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ لماذا استخدم مع الدين لفظ "أكملت" بينما مع النعمة استخدم لفظ "أتممت"؟ لأنَّ الدين نزل على فتراتٍ متقطّعةٍ، على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، أما نعمة الله فلم تنقطع أبداً ولا لثانيةٍ واحدةٍ عن هذه الأمّة؛ فقال سبحانه: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾.

أحبتي في الله .. يُروى أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آيةً في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: أي آيةٍ هي؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ فقال عمر:  إني لأعلم حين أُنزلت وأين أُنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أُنزلت يوم عرفة وأنا والله بعرفة.
قال ابن عباس: فإنها نزلت في عيدين اتفقا في يومٍ واحدٍ: يومُ جمعةٍ وافق يومَ عرفة.
نزلت بعد عصر ذلك اليوم في حجة الوداع سنة عشرٍ هجرية، والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعرفات على ناقته العضباء، فلما نزلت بكى أبو بكر الصديق عند سماعها فقالوا له: ما يبكيك يا أبا بكر؟ فقال: "هذا نعي رسول الله". ولما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ما يبكيك؟] قال: "أبكاني أنَّا كنا في زيادةٍ من ديننا، فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيءٌ إلا نقص". فقال صلى الله عليه وسلم: [صدقت].
وكأن الشاعر الذي نظم قصيدة "رثاء الأندلس" قد استلهم مقولة عمر حين صاغ أبياته فقال:
لكلِ شيءٍ إذا ما تم نُقصانُ
فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأيامُ كما شاهدتُها دُولٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
أين الملوكُ ذَوو التيجانِ مِن يَمَنٍ
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟
وأين ما شادَهُ شدَّادُ في إرمٍ
وأين ما ساسَهُ في الفرسِ ساسانُ؟
وأين ما حازهُ قارونُ من ذهبٍ
وأين عادٌ وشدادٌ وقَحطانُ؟
أتى على الكُلِ أمرٌ لا مَردَ له
حتى قَضَوْا فكأن القومَ ما كانوا
وصار ما كان من مُلْكٍ ومن مَلِكٍ
كما حكى عن خيالِ الطّيفِ وَسْنانُ

يقول أهل العلم في الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ أن معناها: اليوم أكملت لكم نصر دينكم؛ بعزه وظهوره، وأتممت نعمتي لكم بزوال الخوف من العدو والظهور عليه.. أو أن معناها: أنه قد رُفع النسخ عن القرآن. أو أن معناها: أن الله سبحانه وتعالى قد أَمَّنَ هذه الشريعة من أن تُنسخ بأخرى بعدها كما نُسخ بها ما تقدمها من شرائع.
قال الطبري في تفسير الآية: "إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينَهم، بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجَّه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون".
وعن (إكمال الدين وإتمام النعمة) قال ابنُ كثير: "هذه أكبرُ نِعَم الله تعالى على هذه الأمَّة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجون إلى دينٍ غيره، ولا إلى نبيٍّ غير نبيِّهم صلَوات الله وسلامُه عليه ولهذا جعله الله تعالى خاتمَ الأنبياء، وبعَثَه إلى الإنسِ والجنِّ، فلا حلالَ إلاَّ ما أحلَّه، ولا حرامَ إلاَّ ما حرَّمه، ولا دينَ إلاَّ ما شرعَه، وكلُّ شيءٍ أَخبرَ به فهو حقٌ وصدقٌ لا كذبَ فيه ولا خُلف، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾؛ أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنَّواهي، فلمَّا أكمل لهم الدّين تمَّت عليهم النِّعْمة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾؛ أي: فارضوه أنتُم لأنفُسِكم، فإنَّه الدّين الَّذي أحبَّه الله ورضِيَه، وبعث به أفضل الرُّسُل الكرام، وأنزل به أشرفَ كتُبِه".
وقال ابنِ عبَّاس: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ وهو الإسْلام، أخبر الله نبيَّه صلَّى الله عليْه وسلَّم والمؤمِنين أنَّه قد أكمل لهم الإيمان فلا يَحتاجون إلى زيادةٍ أبداً، وقد أتمَّه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضِيَه فلا يَسخطه أبداً".
والراجح أن المراد من كمال الدّين في الآية: كمال أصوله، وقواعد الأخلاق، وكليّات الشرع، أما المسائل الجزئية فهي متجددةٌ لا نهاية لها.
قال الشاطبي: "المراد: كلياتها، فلم يبقَ للدّين قاعدةٌ يُحتاج إليها في الضروريات، والحاجيات، أو التكميليات، إلا وقد بُينت غاية البيان. يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد؛ فإن قاعدة الاجتهاد أيضاً ثابتةٌ في الكتاب والسنّة، فلا بد من إعمالها، ولا يسع الناس تركها، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه".
وقال ابن القيم عن (إكمال الدين وإتمام النعمة): "بيَّن الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه، وكلام رسوله: جميع ما أمره به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه، وبهذا يكون دينُه كاملاً".

يقول العلماء أن من فوائد هذه الآية الكريمة:
أوَّلاً: أنَّ الدين قد كَمُل فلا يحتاج إلى زيادةٍ أبداً، فما يفعله أهل الضَّلالة من البدَع إنَّما هو ابتِداعٌ في دين الله، واتِّهامٌ لهذا الدِّين بالنَّقص؛ قال صلَّى الله عليْه وسلَّم: [مَن أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ].
 ثانياً: أنَّ الله أتمَّ على المؤمنين نِعَمَه الظَّاهرة والباطنة، ومن أعظم هذه النِّعَم بَعْثُ النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
 ثالثاً: أنَّ الله تعالى رضِي للمؤمنين هذا الدين العظيم، دين الإسلام، بل إنَّ الله لا يقبل من النَّاس غيره؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. فوجب على المؤمنين أن يَرْضَوا بهذا الدّين الَّذي رضِيَه الله لهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن قال حين يسمع المؤذِّن: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه، رضِيتُ باللَّه ربّاً، وبمحمَّدٍ رسولاً، وبالإسلام ديناً، غُفِر له ذنبُه].
 رابعاً: أنَّ أحكام هذا الدّين وشرائعَه قد كملتْ، فلا تتغيَّر ولا تتبدَّل إلى يوم القيامة، فعلى سبيل المثال ذكَرَ الله في كتابه اليهودَ والنَّصارى وغيرهم من الكفَّار، ونهانا عن موالاتهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، فلا يأتِي أحدٌ فيقول: إنَّ الزَّمن قد تغيَّر، وإنَّ اليهود والنَّصارى أصدقاء، وبيْننا وبيْنهم مصالح فلا بُدَّ من صداقتهم، وإنَّ هؤلاء ليسوا كأسْلافهم من قبل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾.

أحبتي .. الفرق بين الإكمال والإتمام هو الفرق بين الفرض والفضل، أدعو نفسي وإياكم إلى إكمال كل نقصٍ في عباداتنا وشعائرنا، ثم أن نُتبع ذلك بإتمام كل ما اكتمل لنكون من أهل الفضل وليس فقط من أهل الفرض، وكما قال أحد الفضلاء:
فأهل الفرض من أصحاب اليمين، أما أهل الفضل فمن المقربين.
أهل الفرض كثيرٌ من المسلمين، أما أهل الفضل فقليلٌ من المحسنين.
أهل الفرض يكتفون في الصوم بصيام شهر رمضان، أما أهل الفضل فيصومون الست من شوال وأيام البيض والإثنين والخميس وتسع ذي الحجة، ويوم عرفة ويوم عاشوراء.
أهل الفرض يصلون الفرائض دون نقصان، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾.
أهل الفرض ﴿إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون﴾، أما أهل الفضل فإذا ما غضبوا هم يحسنون.
أهل الفرض يقابلون الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة، أما أهل الفضل فيقابلون الحسنة بأحسن منها ويقابلون السيئة بالحسنة..
أهل الفرض يخرجون زكاة المال، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾.
أهل الفرض هم الذين "يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه"، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.
أهل الفرض قد يتصدقون ويمدون يد العون للمحتاجين، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ﴾ وتُقضى على أيديهم حوائج الناس.
أهل الفرض يطمعون في قوله تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، أما أهل الفضل فيتنافسون على قوله تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا﴾.
جعلنا الله وإياكم من أهل الفضل ومن أصحاب الدرجات العلا برحمته وإحسانه، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأنعم علينا بإكمالها وإتمامها على الوجه الذي يرضيه عنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/XGMvgC