الجمعة، 6 أكتوبر 2017

صنائع المعروف

الجمعة 6 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٣
(صنائع المعروف)

من أغرب القصص الواقعية التي اطلعت عليها هذه القصة التي وقعت أحداثها في بريطانيا حيث كان حفلٌ أقامته نقابة الأطباء سنة 1920م لتخريج دفعةٍ من أطباء جدد، قد ضمّ رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الحين، وتقدم نقيب الأطباء لإلقاء النصائح الواجبة للخريجين الجدد؛ فقال في كلمته: "طرقَتْ بابي بعد منتصف ليلةٍ عاصفةٍ سيدةٌ عجوزٌ، وقالت: الحقني يا دكتور، طفلي مريضٌ وفي حالةٍ خطيرةٍ جداً أرجوك افعل أي شيء لإنقاذه، فأسرعْتُ غير مبالٍ بالزوابع العاصفة والبرد الشديد والمطر الغزير، حيث كان منزلها في إحدى ضواحي لندن، وبعد رحلةٍ شاقةٍ وصلنا المنزل، فوجدتُها تعيش في غرفةٍ صغيرةٍ هي وابنها، ووجدت الطفل في زاويةٍ من الغرفة وهو يئن ويتألم بشدة". وتابع نقيب الأطباء: "بعد أن أديتُ واجبي نحو الطفل المريض ناولتني الأم كيساً صغيراً فيه نقود، فرفضت أن آخذ الكيس، ورددته إليها بلطفٍ معتذراً، وتعهدت الطفل حتى مَنّ الله عليه بالشفاء". ومضى نقيب الأطباء يقول: "هذه هي مهنة الطب، إنها أقرب المهن إلى الرحمة، بل ومن أقرب المهن إلى الله".
ما كاد نقيب الأطباء ينهي كلمته حتى قفز رئيس الوزراء من مقعده واتجه إلى منصة الخطابة وقال: "اسمح لي سيدي النقيب أن أقبل يدك!  .. منذ عشرين عاماً وأنا أبحث عنك! فأنا ذلك الطفل الذي ذكرته في حديثك الآن، فلتسعد أمي الآن وتهنأ فقد كانت وصيتها الوحيدة لي هي أن أعثر عليك لأكافئك على ما أحسنت به علينا في فقرنا فأنقذت حياتي".
والطفل الفقير الذي أصبح رئيس وزراء إنجلترا كان ديفيد لويد جورج الذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا للفترة 1916 - 1922م إبان الحرب العالمية الأولى حيث قاد بلاده إلى النصر على الألمان.

وقصةٌ ثانيةٌ، واقعيةٌ هي الأخرى، حدثت في بريطانيا كذلك، وبالتحديد في اسكتلندا، ولا تقل غرابةً عن القصة الأولى؛ حيث كان يعيش فلاحٌ فقيرٌ يدعى فلمنج، كان يعاني من ضيق ذات اليد والفقر المدقع، لم يكن يشكو أو يتذمر لكنه كان خائفـاً على ابنه، فلذة كبده، فهو قد استطاع تحمل شظف العيش ولكن ماذا عن ابنه؟ وهو مازال صغيراً والحياة ليست سهلةً، إنها محفوفةٌ بالمخاطر، كيف سيكون مستقبله يا ترى؟
ذات يومٍ وبينما كان فلمنج يتجول في أحد المراعي، سمع صوت كلبٍ ينبح نباحاً مستمراً، فذهب بسرعةٍ ناحية الكلب فوجد طفلاً يغوص في بركةٍ من الوحل وعلى محياه الرقيق ترتسم علامات الرعب والفزع، يصرخ بصوتٍ غير مسموعٍ من هول الرعب.
لم يفكر فلمنج، بل قفز بملابسه في بحيرة الوحل، أمسك بالصبي، أخرجه، وأنقذ حياته. في اليوم التالي، جاء رجلٌ تبدو عليه علامات النعمة والثراء في عربةٍ مزركشةٍ تجرها خيولٌ مطهمةٌ ومعه حارسان، اندهش فلمنج من زيارة هذا اللورد الثري له في بيته الحقير، لكنه أدرك إنه والد الصبي الذي أنقذه من الموت. قال اللورد الثري: "لو ظللتُ أشكرك طوال حياتي، فلن أوفي لك حقك، أنا مدينٌ لك بحياة ابني، اطلب ما شئت من أموالٍ أو مجوهراتٍ أو ما يقر عينك"، أجاب فلمنج: "سيدي اللورد، أنا لم أفعل سوى ما يمليه عليّ ضميري، وأي فلاحٍ مثلي كان سيفعل مثلما فعلت، فابنك هذا مثل ابني والموقف الذي تعرض له كان من الممكن أن يتعرض له ابني أيضاً"، أجاب اللورد الثري: "حسنـاً، طالما تعتبر ابني مثل ابنك، فأنا سآخذ ابنك وأتولى مصاريف تعليمه حتى يصير رجلاً متعلماً نافعاً لبلاده وقومه". طار فلمنج من السعادة؛ أخيراً سيتعلم ابنه في مدارس العظماء. وبالفعل تخرج فلمنج الصغير من مدرسة سانت ماري للعلوم الطبية، وأصبح الصبي الصغير رجلاً متعلماً بل عالماً كبيراً .. نعم؛ فذاك الصبي هو نفسه السير ألكسندر فلمنج 1881 ــ 1955م، مكتشف البنسلين في عام 1929م، أول مضادٍ حيويٍ عرفته البشرية على الإطلاق، ويعود له الفضل في القضاء على معظم الأمراض الميكروبية. كما حصل ألكسندر فلمنج على جائزة نوبل في عام 1945م.
لم تنته القصة بعد؛ بل حينما مرض ابن اللورد الثري بالتهابٍ رئويٍ، كان البنسلين هو الذي أنقذ حياته.
لكن من يا تُرى ابن الرجل الثري الذي أنقذ فلمنج الأب حياته مرةً وأنقذ ألكسندر فلمنج الابن حياته مرةً ثانيةً بفضل البنسلين؟ إنه رجلٌ شهيرٌ للغاية؛ فالثري يُدعى اللورد راندولف تشرشل، وابنه يُدعى ونستون تشرشل، أعظم رئيس وزراء بريطاني على مر العصور، الرجل الذي قاد الحرب ضد هتلر النازي أيام الحرب العالمية الثانية 1939 ــ 1945م، ويعود له الفضل في انتصار قوات الحلفاء: انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على قوات المحور: ألمانيا واليابان.

سبحان الله، كأن التاريخ يعيد نفسه؛ فتقع أحداث القصتين في نفس الدولة،
ويكون طرفاها رئيسي وزراء هذه الدولة، ويكون كلاهما قد تم إنقاذه وهو صغير، ثم يكون لكليهما دور القائد المنتصر في حربٍ، ليست عاديةً، وإنما حربٌ عالمية!

أحبتي في الله .. أهم ما نستفيده من هاتين القصتين أن (صنائع المعروف) لا تضيع أبداً .. إنها عمل الخير بكل أشكاله، صغيراً كان أو كبيراً، مع فقيرٍ أو غني، في وقت شدةٍ أو رخاء، مع من نعرفه أو من لا نعرفه .. هكذا هو عمل الخير الذي نبتغي به وجه الله سبحانه وتعالى، نفعله ولا ننتظر مقابله شيئاً .. إنه نوعٌ من العبادة يغفل عنه الكثير من الناس؛ فكثيرٌ منا يطلق معنى العبادة على ما يتعلق بحقوق الله فحسب، ويغفل عن بابٍ آخر عظيم، وهو حسن المعاملة مع العباد والإحسان إليهم، إنه  (صنائع المعروف).
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾، فقوله ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ أمرٌ يشمل كل خيرٍ. وقال تعالى: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، وقال سبحانه:﴿وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلمٍ أو تكشف عنه كربةً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجد الرسول بالمدينة المنورة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشي مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام].
كما قال عليه الصلاة والسلام: [إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه].
وقال صلى الله عليه وسلم: [كل معروفٍ صدقة]، وفي رواية: [كل معروفٍ صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر وتقي الفقر، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنزٌ من كنوز الجنة وإن فيها شفاءٌ من تسعةٍ وتسعين داءً ـ أدناها الهم]، وفي رواية: [صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادةٌ في العمر، وكل معروفٍ صدقةٌ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف].

و(صنائع المعروف) لا تتم إلا بصانعٍ لها، ولله در الشاعر حين وصف صانع المعروف معن ابن زائدة، وكان شديد الكرم، بأبياتٍ بليغةٍ قال فيها:
يقولون معنٌ لا زكاةَ لمالِه
وكيف يُزكي المالَ مَنْ هو باذلُه
إذا حالَ حولٌ لم يكن في ديارِه
من المالِ إلا ذكرُه وجمائلُه
تراه - إذا ما جئتَه - متهللاً
كأنك تُعطيه الذي أنت آملُه
هو البحرُ من أيِ النواحي أتيتَه
فلجتُه المعروفُ والبِرُ ساحلُه
تَعَوَّدَ بسطُ الكفِ حتى لو أنه
أرادَ انقباضاً لم تُطِعُه أناملُه
فلو لم يكن في كفِه غيرُ نفسِه
لجادَ بها فليتقِ اللهَ سائلُه

أحبتي .. فلنكثر من (صنائع المعروف) ما استطعنا، ولا نستصغر منها شيئاً؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشقِّ تَمْرةٍ]. فلنكثر من الصدقات وإن صَغُرت فأقل منها الحرمان، ومن بر الوالدين، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، والإحسان إلى الناس، وتقديم العون للمحتاجين، ومساعدة الغير، والتبرع بالمال والوقت والجهد والعلم، وعمل الخير بصفة عامة.
ثم علينا أن نشكر من أسدوا لنا معروفاً ونكافئهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ].
 قال تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. اللهم أعنا على فعل الخير، وقنا شُح أنفسنا، واجعلنا اللهم من عبادك المفلحين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/CUSg74

ليست هناك تعليقات: