الجمعة، 9 مارس 2018

إتقان العمل


الجمعة 9 مارس 2018م

الخاطرة /١٢٥
(إتقان العمل)

هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت بين عميلٍ لشركة جنرال موتورز الأمريكية وقسم خدمة العملاء بالشركة. تبدأ القصة بشكوى تلقتها شعبة إنتاج السيارة "بونتياك" بالشركة نصها كما يلي:
"هذه هي المرة الثانية التي أكتب فيها إليكم، وأنا لا ألومكم لعدم الرد، ولكن الواقع أن لدينا تقليداً في أسرتنا وهو تناول الأيس كريم للتحلية بعد العشاء كل ليلةٍ. لكن نوع الأيس كريم يختلف كل ليلةٍ حيث يتم تصويتٌ بين أفراد الأسرة يومياً على نوع الأيس كريم الذي سنتناوله، وهنا مكمن المشكلة؛ فقد قمت مؤخراً بشراء سيارة بونتياك جديدة من شركتكم ومنذ ذلك الحين أصبحت رحلاتي اليومية إلى السوبر ماركت لشراء الآيس كريم تمثل مشكلةً. فقد لاحظت أنني عندما أشترى أيس كريم فانيليا وأعود للسيارة لا يعمل محركها ولا تدور السيارة، أما إذا اشتريت أي نوعٍ آخر من الأيس كريم تدور السيارة بصورةٍ عاديةٍ جداً! صدقوني أنا جادٌ فيما أقول".
عندما قرأ رئيس شركة بونتياك هذه الرسالة أرسل أحد مهندسي الصيانة لمنزل صاحب السيارة، فأراد صاحب السيارة أن يثبت للمهندس صدق روايته؛ فأخذه لشراء الأيس كريم واشترى أيس كريم فانيليا وعندما عادا للسيارة لم يدر محركها، تعجب مهندس الصيانة، وقرر تكرار هذه التجربة ثلاث مراتٍ في ثلاث ليالٍ، وفى كل ليلةٍ كان يختار نوع أيس كريم مختلف، وبالفعل كانت السيارة تدور بصورةٍ عاديةٍ بعد شراء أي نوعٍ من الأيس كريم إلا نوع الفانيليا!
تعجب مهندس الصيانة من ذلك ورفض تصديق ما يراه بنفسه لأنه منافٍ للمنطق، وبدأ في تكرار الرحلة للسوبر ماركت يومياً مع تسجيل ملاحظاتٍ دقيقةٍ للمسافة التي يقطعها يومياً والزمن الذي يستغرقه والشوارع التي يمر منها وكمية الوقود بالسيارة والسرعة التي تسير بها وكل معلومةٍ تتعلق بالرحلة إلى السوبر ماركت، وبعد تحليل البيانات التي جمعها وجد أن شراء أيس كريم الفانيليا يستغرق وقتاً أقل من شراء أي نوعٍ آخر من الأيس كريم؛ وذلك لأن قسم بيع أيس كريم الفانيليا في السوبر ماركت يقع في مقدمة السوبر ماركت كما توجد كمياتٌ كبيرةٌ منه لأن الفانيليا هي النوع الشعبي والمفضل للزبائن، أما باقي أنواع الأيس كريم الأخرى فتقع في الجهة الخلفية من السوبر ماركت وبالتالي تستغرق وقتاً أطول في شرائها. اقترب مهندس الصيانة من حل المشكلة؛ حيث استنتج أن السيارة لا تدور مرةً أخرى بعد وقف محركها لفترةٍ قصيرةٍ وهو ما يحدث عند شراء أيس كريم الفانيليا؛ أي أن الموضوع متعلقٌ بالمدة التي يستريح فيها المحرك وليس بنوع الأيس كريم، وتوصل المهندس إلى نتيجةٍ هي أن محرك السيارة يحتاج لوقتٍ ليبرد لكى يستطيع أن يؤدى عمله مرةً أخرى عند إعادة تشغيل السيارة، وهو ما لا يحدث عند شراء أيس كريم الفانيليا نظراً لقصر الوقت، لكن الوقت الإضافي الذى يستغرقه صاحب السيارة للحصول على نكهاتٍ أخرى من الأيس كريم كان يسمح بتبريد المحرك لفترةٍ كافيةٍ لبدء تشغيل السيارة مرةً أخرى!

لو كان أحدنا رئيس الشركة، وجاءته تلك الشكوى؛ ماذا سيكون تصرفه؟ ولو أن واحداً منا كان هو مهندس الصيانة الذي أرسلته الشركة لفحص مشكلة السيارة؛ هل كان سيتعامل بجديةٍ مع شكوى العميل رغم أنها تبدو للوهلة الأولى غير معقولة؟ أم كان سيهزأ من الأمر وينظر إليه نظرةً ريبةٍ وشكٍ لمجرد أنه منافٍ للمنطق؟ 
في الواقع أن كليهما، رئيس الشركة والمهندس، كان عملهما يتسم بالإتقان. نعم الإتقان هو كلمة السر التي لولاها لكان مصير الشكوى أن تُرمى في سلة المهملات، ولكان انتهى الأمر إلى التصديق بأن السيارة البونتياك لا تحب بالفعل الأيس كريم بنكهة الفانيليا!

أحبتي في الله .. (إتقان العمل) هو القيام بالعمل المراد إنجازه، والانتهاء منه بأفضل صورةٍ وعلى أتمّ وجهٍ، ويكون ذلك ببذل الجهد، والبعد عن التراخي في العمل. ولفظ إِتْقَان هو مصدرٌ للفعل أَتْقَنَ، بمعنى أنجز العمل بإحكامٍ وبمُنتهى الدقّة.
إن (اتقان العمل) فضيلةٌ يحث عليها ديننا الحنيف، فقد وصف الله سبحانه وتعالى عمله وصنعه بالإتقان؛ يقول سبحانه: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ...﴾، ويدعونا تعالى للتأمل في خَلقه فلا نرى في عمله وصنعه نقصاً أو خللاً أو اضطراباً؛ يقول عز وجل: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ...﴾. هذا هو قمة الإتقان، فماذا عن عملنا نحن البشر؟ يقول تعالى حاثاً لنا على تجويد العمل وإتقانه:  ﴿وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، والإحسان هو قمة (إتقان العمل)، ثم يبين لنا أن أعمالنا يراها سبحانه ورسوله والمؤمنون، وأننا محاسبون عليها يوم القيامة؛ يقول عز وجل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ولا شك أن المسلم عندما يعلم أن الله سبحانه وتعالى ورسوله يرون عمله فإنه سيتقنه غاية الإتقان ويحاول أن يصل به إلى حد الكمال ما استطاع.
و(إتقان العمل) صفةٌ يحبها الله سبحانه وتعالى؛ يقول رسول الله عليه الصّلاة والسّلام: [إنَّ الله تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملاً أنْ يُتقِنَهُ]، فلا يكفي أن يعمل المسلم العمل بشكلٍ صحيحٍ بل عليه أن يُتقنه ويُحَّسِنَه قدر استطاعته. كما استخدم صلى الله عليه وسلم لفظ الإحسان للدلالة على منتهى الإتقان؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ الله كَتَبَ الإِحْسانَ على كلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ...]، وهذا يعني أنَّ على المسلم (إتقان العمل) حتى وإن كانَ ذبح الحيوانات، فمن باب أولى الإتقان في باقي الأعمال الأخرى.    
يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهلِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيتِ زَوجِهَا وَمَسؤُولَةٌ عَن رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ]، ويُستفاد من هذا الحديث أنّ (إتقان العمل) واجبٌ شرعيٌّ على كل مُوظفٍ وعاملٍ مهما كانت وظيفتهُ؛ فالحاكمُ أو ولي الأمر عليهِ إتقانُ عملهِ بتطبيق شرع الله والعدل بين الناس، والأب في أسرته مسؤولٌ عن بيتهِ وعليه إتقان رعاية أبنائه، وكذا الزوجةُ راعيةٌ في مالِ زوجها وعليها المُحافظة على الأمانةِ التي كُلّفت بحملها وإتقانُ تربية أبنائها.

يقول أهل العلم أن التنافس في هذه الحياة يشتد بين الأفراد في كل المجالات طلباً للتفوق والرقي، منهم مَن يقصد بذلك وجه الله عز وجل، ومنهم من يقصد الرقي في الدنيا فحسب، كذلك يوجد هذا التنافس بين الجماعات والأمم، وفي عالمنا المعاصر نجد أن دولاً تقدمت وارتقت، مع أن كثيراً منها لا يدين بالإسلام، فما السر إذن في تقدمها وارتقائها؟ السر ببساطة يعود إلى (إتقان العمل)، وهذه قيمةٌ إسلاميةٌ نبيلةٌ أولى بنا نحن المسلمين أن نحرص عليها ونجعلها شعار أعمالنا.
إن (إتقان العمل) في الإسلام فريضةٌ على المسلمِ، ذلك أنَّ أيّ عملٍ يقوم به المسلم في الحياةِ الدنيا مهما صَغُر واستهان به الفرد يُحتسب عبادةً إذا صحّت فيهِ النيةُ وكانت خالصةً لله سبحانه وتعالى.
فعلينا أن نُراقب الله في أعمالنا وفي كل شؤوننا، فإذا التزمنا بعملٍ وجب علينا القيام به على أكمل وجهٍ يُرضي الله. ولا يخفى على الجميع أن العمل بغير إتقانٍ لا ينفع صاحبه ولا يُنتفع به، وهو مردودٌ على صاحبه؛ وحديث النبي للأعرابي الذي أساء في صلاته مثالٌ على ذلك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ]، فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ: [وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ]، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فعَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: [إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ اَلْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِماً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا].

أحبتي .. هذا هو (إتقان العمل) الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، ويوجهنا إليه رسوله الكريم؛ فليبدأ كلٌ منا بنفسه وبأسرته، ولينظر أي الأعمال تحتاج إلى إتقانٍ، وأيها متقنٌ يُمكنا أن نزيد في إتقانه ليبلغ درجة الإحسان كلما كان ذلك ممكناً: إتقان الذكر وأفضله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والتفكر في معناها والعمل بها، إتقان الصلاة بإسباغ الوضوء لها وإتمام ركوعها وسجودها والخشوع فيها وجبر نقصانها وتعظيم ثوابها بالنوافل كقيام الليل وصلاة الضحى والسنن الرواتب وغيرها، إتقان الزكاة بإخراجها كاملةً غير منقوصةٍ في مواعيدها ولمستحقيها وجبر النقص فيها وتعظيم ثوابها بالصدقات، إتقان الصوم بصوم الجوارح عند صوم رمضان وجبر نقصانه وتعظيم ثوابه بصوم التطوع كالست من شوالٍ وأيام البيض ويومي الإثنين والخميس، إتقان الحج لمن استطاع إليه سبيلاً بأداء شعائره بإخلاصٍ تامٍ وأداء العمرة كلما أمكن ذلك. وكذلك إتقان رعاية الأبناء، وإتقان صلة الرحم، وإتقان علاقاتنا مع الجيران والأصدقاء والزملاء وكل من نتعامل معهم. ثم (إتقان العمل) نفسه ليكون على أكمل وأتم وجهٍ، وفي أسرع وقتٍ، وبأقل كُلفةٍ، وتجويده وتحسينه وتطويره بصفةٍ مستمرةٍ.
و(إتقان العمل) والإحسان فيه مرتبطٌ بقدرات الإنسان وإمكاناته وما يتوفر له من ظروفٍ تساعده على إتمام العمل بأعلى مستوىً ممكنٍ من الجودة، فإذا توفرت له كل هذه الظروف وقَصَّر في عمله انطبق عليه قول أبي تمام:
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً
كَنَقصِ القـادِرِينَ على التّمَامِ
أما من يتقن العمل ويصل به إلى درجة الإحسان، فله البشرى؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾، ويقول سبحانه: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، كما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾. فأي بشرى أجمل وأعظم من هذا؟

نفعنا الله وإياكم بما ورد في كتابه الكريم، وجعلنا وإياكم من المتقنين أعمالهم المحسنين فيها.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/SCiGBS