الجمعة، 15 أبريل 2016

أبناؤنا أكبادنا

15 أبريل، 2016م
خاطرة الجمعة / ٢٧

(أبناؤنا أكبادنا)

سألني حفيدي الذي لم يتم الرابعة من عمره: "إنت جدو ولا بابا ولا عمي؟!"، فوجئت بالسؤال، رغم أن سببه كان واضحاً؛ فأخواه ينادونني "جدو"، ووالده يقول لي "بابا"، ووالدته تخاطبني بكلمة "عمي".
هكذا هم أطفالنا، حفظهم الله وبارك فيهم، يتابعون كل كلمة، يرصدون كل حركة، يسجلون بدقة كل ما يدور حولهم، حتى في أوقات لعبهم ولهوهم، آذانهم مفتوحة كأجهزة تسجيل، وعيونهم متابعة كآلات تصوير، وأفئدتهم يقظة للمشاعر المحيطة بما يسمعون وبما يرون. نظن نحن الكبار أن أطفالنا مشغولون عنا بلعبة في أيديهم أو متابعة لتلفاز فنركن إلى ذلك ونقول في وجودهم ما لا ينبغي أن يسمعوه، أو نفعل وهم قريبون منا ما لا يجب أن يشاهدوه، أو نظهر من مشاعرنا ما ليس من المناسب أن يحسوا به أو يدركوه. يثبت الواقع أن هذا الكائن الصغير الجميل يسمع ويرى ويحس وإن بدا ساكناً أو صامتاً أو مشغولاً. جميع أدوات الاستقبال لديه تعمل بكفاءة عالية، خاصة ما يتعلق منها بالسمع والبصر والإحساس، وسبحان الله حين يشير إلى هذه الأدوات فيقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾، إنها ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾.
فإذا تأملنا نعم الله: الآذان للسمع، والعيون للإبصار، والأفئدة للفكر والفهم وإعمال العقل والحس، نجد أنها، وكما توصل إلى ذلك علماء التربية المحدثون، هي أدوات التعلم والمعرفة؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. من هنا فإن علينا كراشدين أن ننتبه إلى كل كلمة نقولها أمام أطفالنا وإلى كل فعل يصدر منا بمرأى منهم وإلى كل انفعال أو شعور مصاحب لكلماتنا وأفعالنا؛ فلا يصدر منا إلا كل ما هو مفيد للطفل:
* أقوال وأفعال صادقة ليس فيها كذب، واضحة ليس بها غموض، متسقة لا تناقض بينها.
* أقوال وأفعال مشبعة بقيم راقية مرغوب فيها.
* مشاعر إيجابية تجعل الطفل يحس بالقبول والأمان.
هذا هو الجو الذي ينبغي أن ينشأ أبناؤنا وأطفالنا فيه، إنهم في حاجة إلى بيئة إيجابية ينعمون فيها بالحب والحلم والرفق والتفهم والثقة والمشاركة والرحمة والعدل، بعيداً عن سلبيات القسوة والتخويف والإذلال والسخرية والتهكم والاستهزاء والمقارنة بالغير، وبعيداً عن المشاحنات والمشكلات بين الوالدين. ومما يُروى في مجال التربية الإيجابية أن امرأتين جلستا في إحدى الحدائق العامة ومع كل امرأة ولدها، وكان هناك عامل نظافة ينظف الحديقة، قالت إحداهما لولدها: "إذا فشلت في دراستك فسوف يكون مصيرك مثل ذلك الرجل الذي ينظف القمامة"، أما الأخرى فقالت لولدها: "إذا تفوقت في دراستك فسيكون بإمكانك أن تصنع حياة أفضل لذلك العامل"، اتفقت غايتهما، وهي تحفيز ابنيهما للاجتهاد في الدراسة، ولكن اختلف الأسلوب: الأولى استخدمت عبارة سلبية "فشلت في دراستك"، واحتقرت عامل النظافة، أما الثانية فاستخدمت عبارة إيجابية " تفوقت في دراستك"، وحثت ابنها أن يكون رحيماً بغيره ويفكر في تحسين أحوالهم. والعبرة من ذلك أن ننتبه إلى رسائلنا التي نوجهها لأبنائنا، فهي تصنع وتشكل شخصياتهم وأخلاقهم وتوجهاتهم.
أحبتي في الله .. أبناؤنا أمانة في أعناقنا، يقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ]، ويقول: [كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُوْلُ]، وهل من ضياع أكبر من ضياع الدين والأخلاق والقيم؟
أحبتي .. أبناؤنا هم أعز ما نملك ..(أبناؤنا أكبادنا)، هم زينة الحياة الدنيا؛ قال المولى عز وجل: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحياة الدنيا﴾، وهم قرة الأعين؛ قال تعالى: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾. وإن كنتُ ناصحاً فلن أجد وصايا أوجهها للآباء في التعامل مع أبنائهم أفضل من وصية يعقوب لبنيه؛ قال تعالى:﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ...﴾، وكذلك وصايا لقمان لابنه والتي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ...﴾. كما لا أجد أوضح في هذا الشأن مما قاله الإمام الغزالي: (الصبيُّ أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ خاليةٌ عن كل نقشٍ وصورة، وهو قابلٌ لكل نقش، ومائلٌ إلى كل ما يُمالُ إليه، فإن عُوِّد الخيرَ نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة أبواه، وإن عُوِّد الشر وأُهْمِلَ إهمال البهائم، شَقِيَ وهَلَكَ، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه. وكما أن البَدن في الابتداء لا يُخلق كاملاً، وإنما يكمل ويقوى بالغذاء، فكذلك النفس تُخلق ناقصةً قابلةً للكمال، وإنما تُكمل بالتربية، وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم). وخلاصة القول أن أهم حق من حقوق أبنائنا علينا أن ينشأ في أسرة تُطَبِّق تعاليم الله، فتترسَّخ مبادئ الإسلام في قلبه، فينشأ محبًّا للإسلام مطبِّقًا لتعاليمه؛ فلنكن قدوة لأبنائنا في الالتزام بأصول ديننا في العبادات والمعاملات، ولنحذر إذا خالفنا هذا المنهج ما تتوعد به الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
أحبتي أختم بهمسة لكل والدين .. لكل أب ولكل أم .. لنتقِ الله في أنفسنا وأبنائنا .. ولنجنب أطفالنا أن يعيشوا خلافاتنا واختلافاتنا .. تمضي الخلافات والاختلافات بين الوالدين ويبقى أثرها في نفوس الأطفال خطيراً مدمراً مشوهاً لنفسياتهم وشخصياتهم .. تذكروا (أبناؤنا أكبادنا)، إنهم نعمة من الله سبحانه وتعالى تستوجب الشكر، وهم أمانة سنحاسَب عليها حفظناها أم ضيعناها، هدانا وهداكم الله.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.