الجمعة، 27 يناير 2017

هل أنا حرامي؟!

الجمعة 27 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٨
(هل أنا حرامي؟!)

انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقالٌ للسيد/ مؤمن غالي، الصحفي السوداني، بعنوان (هل أنا حرامي؟!) يذكر فيه موقفين:
الموقف الأول يرويه طبيب سوداني يقول: كان عندي امتحانات للطب في أيرلندا، وكانت رسوم الامتحان 309 جنيهاً ولم يكن لدي فكة فدفعت 310 جنيهاً، امتحنت وانتهيت من الامتحان ومضت الأيام ورجعت إلى السودان وإذا برسالة تصلني من أيرلندا جاء فيها "أنت أخطأت عند دفع رسوم الامتحانات حيث أن الرسوم كانت 309 وأنت دفعت 310، وهذا شيك بقيمة واحد جنيه؛ فنحن لا نأخذ أكثر من حقنا"، مع العلم أن قيمة الظرف والطابع أكثر من هذا الجنيه!!
أما الموقف الثاني فحدث مع الصحفي نفسه حينما كان يدرس في بريطانيا عام ١٩٨٧م ويسكن بمنطقة بادنجتون؛ يقول: كنت ما بين الكلية والسكن أمُر على كُشكٍ تبيع فيه سيدةٌ إنجليزيةٌ عجوز فأشتري منها لوح شيكولاتة بسعر 18 بنساً وأمضي، وفي مرةٍ من المرات رأيتها قد وضعت رفاً آخر لنفس نوع الشيكولاتة ومكتوبٌ عليه السعر 20 بنساً؛ فاستغربت وسألتها: "هل هناك فرق بين الصنفين؟"، قالت: "لا، نفس النوع ونفس الجودة". فقلت: "إذاً ما القصة؟! لماذا السعر بالرف الأول 18 وبالرف الثاني السعر 20؟"، قالت: "حدث مؤخراً في نيجيريا التي تصدر لنا الكاكاو مشاكل فارتفع سعر ألواح الشيكولاتة، وهذا من الدفعة الجديدة نبيعها ب 20 والقديم ب 18"، فقلت لها: "إذاً لن يشتري منك أحدٌ سوى بسعر 18 حتى نفاد الكمية وبعدها سيأخذون بسعر 20"، قالت: "نعم، أعلم ذلك"، قلت لها: "اخلطيهم ببعض وبيعيهم بالسعر الجديد 20، ولن يستطيع أحدٌ التمييز بينهم". فجحظت عينا المرأة .. وبات وجهها في صُفرة الموت .. ثم مالت نحوي .. وهي تهمس في فزع .. "هل أنت حرامي؟!".
اختتم الصحفي مقاله بالقول: "استغربت لما قالته، ومضيت ومازال السؤال يتردد في أذني ..(هل أنا حرامي؟!). أي أخلاق هذه؟! الأصل أنها أخلاقنا نحن، أخلاق ديننا .. أخلاق مبادئنا .. أخلاق عَلَّمَنا إياها نبيُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم".

 أحبتي في الله .. عندما انتهيت من قراءة ما نُشر من المقال قلت في نفسي تعليقاً على كلا الموقفين: "هذه هي الأمانة، هذه بضاعتنا رُدت إلينا، فهلا قمنا باستردادها والاحتفاظ بها والعمل بمقتضاها؟".
ثم وجدت نفسي أتساءل: (هل أنا حرامي؟!). فكرتُ في السؤال ملياً قبل أن أبدأ في الإجابة؛ فقلت لنفسي لابد أن أحدد أولاً مفهوم السرقة؛ الأمر الذي جعلني أرجع إلى تعريف السرقة.
تُعَرَّف السرقة بأنها "أخذ أموال وممتلكات الغير خُفيةً أو عُنوةً دون وجه حق"، أي أنها "اعتداء على الأموال بالغصب أو الاختلاس أو النهب أو خيانة الأمانة أو الجحد". فهل يا تُرى أنا حرامي بهذا المعنى؟ كانت الإجابة قاطعةً لا شك فيها: بالتأكيد لا والحمد لله.
لكني، وما زلت أعايش فكرة (هل أنا حرامي؟!)، تذكرت حديثاً شريفاً للحبيب المصطفى لا يتحدث فيه عن السرقة فقط بل يوضح فيه أسوأ أنواع السرقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته لا يُتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها]، وهذا حديثٌ صحيحٌ يقول أهلُ العلم عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام بَيَّنَ فيه حقيقة السرقة؛ إذ أن السرقة نوعان: نوعٌ متعارفٌ عليه ونوعٌ غيرُ متعارفٍ عليه، فنبه على الثاني وأنه أسوأ من الأول. وحاصل معنى الحديث: أن المصلي قد يُصلي ولكنه لا يطمئن في صلاته فيخل بالركوع والسجود، أو لا يُلقي لها بالاً فيخون تلك الأمانة ويسرق حق نفسه؛ فلا يحصل له الخشوع الذي هو روح الصلاة، فيخرج من صلاته ولم تتأثر جوارحه، ولم تخالطها بشاشة ولذة مناجاة الله في الصلاة.
إذن السرقة في معناها العام أوسعُ كثيراً من مجرد الاستيلاء على أموالِ وممتلكاتِ الغير بغيرِ وجهِ حق، إنها تتعدى هذا المفهومَ الضيقَ لتصل إلى ما هو أبعدُ من ذلك .. يتسع مفهومها ويمتد ليشمل السرقةَ من النفس .. وهذا من وجهة نظري يعني الانتقاص من أيِ شيء ينبغي أن يؤديه الإنسان كاملاً وهو قادرٌ على ذلك ..
فعدتُ إلى نفسي متسائلاً: (هل أنا حرامي؟!) بهذا المعنى الواسع الممتد؟
كنت أميناً مع نفسي صادقاً مخلصاً في تشخيصي لمجمل أحوالي؛ فاكتشفت أنني كنت بالفعل أسرقُ من نفسي في عدةِ أمور، أخطرها هو أنني كنت أسرقُ من صلاتي! .. نعم كنت أسرقُ من صلاتي؛ لم أكن، على سبيل المثال، لسنوات عديدة أبدأ الصلاة بدعاء الاستفتاح، ولم أكن أدعو بالأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام عند الرفع من الركوع وبين السجدتين وقبل ختام الصلاة، بل ولم أكن أخشع في صلاتي كما ينبغي أن يكون الخشوع، كل ذلك وأنا قادر عليه.
بذات المفهوم وجدت نفسي أسرقُ في مجالاتٍ أخرى كان يمكن لي بمجهودٍ بسيط أن أتمها على خير وجه.
تفكرت في الأمر وتدبرت معنى السرقة من النفس؛ فوجدت السارقَ من نفسه يحرمُها كثيراً من الحسنات ويبخلُ عليها بخيرٍ وفيرٍ يمكن أن يحصل عليه لو أنه ألزم نفسه إتمامَ العبادات والمعاملات على أتم وجه يستطيعه؛ فلا يتركُ نفسَه تتبع هواها ثم يتمنى على الله الأماني.

أحبتي .. لو أن كلَ واحدٍ منا سألَ نفسه (هل أنا حرامي؟!)، وأجاب بصدقٍ لاكتشف مجالاً أو أكثر قَصَّرَ فيه ولم يُعطه حقه كاملاً وهو يستطيع.
ربما تكون سرقته: في صلاته؛ فيؤخر أداءها على أوقاتها أو يصليها في بيته بعيداً عن جماعة المسلمين بغير عذرٍ أو لا يوفيها حقها في الطمأنينة والخشوع.
أو في زكاة ماله؛ فيخرجها أقل من قيمتها أو يعطيها لمن لا يستحقونها أو يخطئ في الحساب فيعتبر العام الميلادي هو الحول بدلاً من العام الهجري.
أو في صومه؛ فيصوم عن الطعام والشراب ومباشرة النساء ولا يصوم عن الكذب والغش والغيبة والنميمة وأكل المال الحرام.
أو في بره بوالديه؛ فلا يهتم بهما كما ينبغي أن يكون الاهتمام أو أن يهتم بزوجته أكثر من اهتمامه بأمه.
أو في صلة رحمه؛ فلا يتصل بهم أو يتواصل معهم أو يتفقد احتياجاتهم أو أنه لا يتصل بأحدهم إلا وقت أن يحتاج خدمةً أو يطلب مساعدة.
أو في معاملته للناس؛ فتجده فظاً غليظ القلب عبوساً أو قد تراه يتقاعس عن مساعدة الناس أو إعانتهم أو قضاء مصالحهم وهو قادرٌ على ذلك.
أو في أي مجال آخر، والأمثلة كثيرة.
لكن، هل يكفي أن يسأل كلٌ منا نفسه (هل أنا حرامي؟!) ثم يجيب بصدقٍ عن هذا السؤال؟ بالتأكيد لا، هذا لا يكفي، هذا أشبه ما يكون بمريضٍ اجتهد ليعرف تشخيصَ مرضه ثم توقف بعد ذلك ولم يبدأ رحلة العلاج.
على كلٍ منا أن يعزم على ألا يعود لهذا النوع من السرقة أبداً، والعزمُ هنا هو النية بإخلاص، ثم يبدأ بإصلاح ما يمكن إصلاحه بِرَّدِ الحقوق إلى أصحابها إن كانت هناك حقوق، أما إذا لم تكن للغير حقوقٌ فليبادر دون تراخٍ أو تأجيلٍ أو تسويف إلى تحسين وتجويد ما يقوم به من عملٍ وَجَدَ نفسه مُقصراً فيه أو مُقلاً في أدائه أو متراخياً عنه؛ فيؤديه على وجهه الأكمل كما لو كان سيموت بعد ساعة؛ ولينظر ويتمعن فيما ورد في الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". ولا ينسى الدعاء لله بأن يساعده ويوفقه، والدعاء كما هو معلومٌ عبادةٌ، وهو سبيلٌ للحصول على رضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه.
 إن محاسبةَ النفس كما ذكرَ ابنُ القيم تكون "أولاً بالبدء بالفرائض فإذا رأى فيها نقصاً تداركهُ، وثانياً بالنظر في المناهي فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية، وثالثاً بمحاسبة النفس على الغفلةِ ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم، ثم رابعاً بمحاسبة النفس على حركاتِ الجوارح وكلامِ اللسان ومشيِ الرجلين وبطشِ اليدين ونظرِ العينين وسماعِ الأذنين، ماذا أردتُ بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجهٍ فعلته؟".

أحبتي .. إذا كانت السرقة من النفس سيئةً من السيئات؛ فعلينا ألا ننسى قولَ الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقولَه تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
أما إذا كانت السرقة من النفس ذنباً؛ فلنتذكر قولَ المولى عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقولَه سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾،
وأما إن كانت السرقة من النفس ظلماً من الإنسان لنفسه؛ فلنتذكر قولَه تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وقولَه: ﴿فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وقولَه سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ...﴾ ثم لنسارع إلى رفع الظلم عن أنفسنا بالمبادرة إلى عمل الخير بكل أشكاله وأنواعه وبقدر ما نستطيع؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات‏﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون‏﴾، هذا هو مجال التنافس الشريف المرغوب فيه.
تأملوا أحبتي قول الشاعر:
إنا لنفـرحُ بالأيـامِ نقطعُـها        **        وكـلَّ يومٍ يُدني من الأجـلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً ** فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

نسأل الله أن يرزقنا جميعاً ذكره وشكره وحسن عبادته.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.



https://goo.gl/V7xXVl