الجمعة، 15 مارس 2019

أم الكتاب


الجمعة 15 مارس 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٨
(أم الكتاب)

اسمها فيكتوريا، كانت تعمل في أحد القصور في خدمة أميرٍ وأسرته، كتبت تقول: توقفت الممرضة عن الكلام وأخذت تنظر إلى نتيجة الفحص، تغيرت ملامح وجهها، أسرعت نحو الهاتف تستدعي الطبيب. شعرتُ بالخوف يتسلل إلى قلبي؛ لماذا بدا عليها القلق؟ هل نتيجة الفحص تستدعي حضور الطبيب بسرعة؟ كدت أن أصرخ بها. عدتُ أُطمئن نفسي؛ إنها آلامٌ بسيطةٌ، لا داعي للخوف، إنها عادة الممرضات يُظهرن المهارة، ويضخمن الأمور. حضر الطبيب، نظر في نتيجة الفحص؛ بدا عليه الذهول، ارتسمت في عينيه علامات الاستياء. أيقنتُ بالخطر، ترقرقت الدموع في عيني. "دكتور .. دكتور" .. وجدتُ صعوبةً بالغةً في النطق بها. التفت الطبيب نحوي، بدا حزيناً. سألتُه: "ما الذي تقوله الفحوصات؟" تحدث كثيراً، وبكيتُ أكثر، لم أعد أذكر من كلماته إلا تلك الجمل، والتي حشد لها الكثير والكثير من العبارات التي حاول بها أن يصبرني، ويُذهب عني الخوف والفزع .. "سرطانٌ في الرحم، يجب استئصاله .. لابد من إجراء العملية بأسرع وقت .. أي تأخير قد يتسبب في انتشار السرطان في جميع أجزاء الجسم". أجهشتُ ببكاءٍ رهيبٍ .. كلمة "ماما" أصبحت مستحيلةً .. طفلٌ صغيرٌ أقبله .. أضمه إلى صدري .. صار مستحيلاً. غربتي .. آلامي .. أحزاني .. أربعة أعوامٍ مضت .. وكل يومٍ يمضي أشعر بأنني أقترب من الحلم .. تناهى إلى سمعي حديثي مع زوجي: " غداً نعود إلى الوطن، ومعنا المال؛ سنعيش سعداء، سيكون لنا منزلٌ واسعٌ، الأطفال يلعبون من حولنا .. غداً .. غداً ..". آهـ .. غداً الذي أرقبه بشوقٍ ولهفةٍ لن يأتي بعد اليوم. بكيتُ بحرقة، غبتُ عن الوعي لحظاتٍ، وعندما أفقتُ وجدتُ زوجي بجانبي يحاول تهدئتي، أبصرتُ الحزن في عينيه، تساءلتُ في نفسي: "هل حزنه بسبب مرضي؟ أم بسبب الحلم الذي تلاشى ولم يعد هناك أملٌ في تحقيقه؟". أقبلت الممرضة، بدأت الفحوصات استعداداً للعملية، الوقت يمضي. جفت دموعي .. توقفتُ عن البكاء .. واستسلمتُ للأمر الواقع؛ جاء السرير أو جاء النعش ليحمل حلم حياتي إلى المقبرة. جاءت اللحظة التي لم أكن أتوقعها في يومٍ من الأيام، تمنيتُ لحظتها أن تُنتزع روحي مع رحمي الذي سينتزعونه مني، أتراهم لا يعلمون أن هذا الرحم هو سر سعادة النساء؟ هو نعمة الرب علينا، هو الذكرى الباقية والحياة الثانية، فيه نحفظ فلذات أكبادنا قبل أن نلقيهم إلى الأرض. مضى بي السرير إلى غرفة العمليات .. الخطوات .. صوت العجلات .. نغماتٌ حزينةٌ تشيعني .. أغمضتُ عينيّ .. جرت الدموع على خدي .. زوجي يمسحها بيديه .. يربت على رأسي .. شعرتُ بالأسى عليه ..اقتربنا من غرفة العمليات؛ فُتح الباب الكبير، وقف الجميع .. ممنوع الدخول .. دخلتُ لوحدي .. منظرٌ رهيبٌ؛ أجسادٌ تتحرك بشكلٍ مرعبٍ .. تلبس الرداء الأخضر .. الكمّامات تغطي وجوههم، تظهر العينان من خلال فتحتين صغيرتين وغالباً تختفي وراء النظارات الطبية، السرير في وسط الغرفة تحيط به الأجهزة المختلفة. أدوات التشريح تثير في النفس الخوف .. الكشافات الضوئية تسلط أشعتها على السرير .. رائحة البنج تقتحم جيوبي الأنفية .. لم أستطع تحمل تلك المناظر .. أغمضتُ عينيّ.
تذكرتُ الأميرة والأمير وأبناءهما .. تذكرتُ القصر الكبير .. تذكرتُ الأميرة وهي تصلي .. تذكرتُ سجادتها التي تبدأ بها كلما عادت من سفرٍ. .. تعودتُ على تلك الكلمات: "أحضروا لي السجادة لأصلي" .. تساءلتُ: "لماذا لا تؤجل الصلاة، خاصةً أنها مرهقة من أثر السفر؟" .. تذكرتُ ذلك اليوم عندما قلتُ لها: "ارتاحي قليلاً فأنت متعبةٌ"، غضبت حينها وقالت كلماتٍ لم أستوعبها جيداً لكنني فهمتُ أن الصلاة هي أهم أمرٍ بالنسبة لها. تذكرتُ الأمير ومحافظته على الصلاة، وكذلك الأبناء؛ إنها أسرةٌ كريمةٌ. تذكرتُ شهر رمضان .. تغييرٌ شاملٌ .. صيامٌ وصلاةٌ .. يتحول القصر إلى مسجدٍ كبيرٍ لا تسمع فيه سوى القرآن وصوت الأئمة وهم يرتلون القرآن. في هذا القصر لم أسمع صوت موسيقى أو غناء .. لم أشاهد أفلاماً ماجنةً .. لم أجد منهم سوى المعاملة الحسنة .. الرفق واللين.
تذكرتُ سورة الفاتحة، تلك السورة التي كانت تتكرر مراتٍ ومراتٍ في القصر، ومن خلال التلفاز أو المذياع .. ومن خلال المسجد القريب .. كنتُ أشعر بها تخاطبني .. تهزني .. تجعلني أعيش معها .. حتى حفظتها وأخذتُ أكررها بيني وبين نفسي .. وفي غرفتي كنتُ أرفع بها صوتي؛ فيتعجب زوجي مني ويسألني: "وهل تعرفين معناها؟"، فأقول له: "لا .. ولكنني أحبها .. أحبها كثيراً". تم نقلي إلى السرير الخاص بالعمليات، بدأ العد التنازلي للعملية .. طبيب التخدير يجهز أسلحته .. لحظاتٍ ويغرزها في جسدي فلا أشعر بشيء .. رفعتُ رأسي إلى السماء .. منظر الكشافات أرهبني .. أخذتُ أردد سورة الفاتحة .. وأدعو الله أن يشفيني بها؛ "يا رب لقد أحببتُ هذه السورة؛ فاجعل فيها شفائي" .. "يا رب بحبي لهذه السورة فَرِّج عني ما أجده".
بدأت العملية .. أقبل طبيب التخدير .. لم أستغرق وقتاً كي أنام .. غبتُ عن الوجود، وعندما أفقتُ من التخدير، كانت المفاجأة تنتظرني؛ الممرضة تناديني وعلى وجهها فرحٌ عظيمٌ: "فيكتوريا .. فيكتوريا" .. نظرتُ إليها .. "لقد أُزيل الخطر عنك يا فيكتوريا؛ لقد رفض الطبيب أن يستأصل الرحم، وضْعُه مستقرٌ، يمكن إزالة الورم بالأدوية" .. لم أصدق ما تقول .. أمعقول .. لا زال رحمي موجوداً .. حلم حياتي سيتحقق .. لم تتلاشَ آمالي .. سأسمع كلمة "ماما" .. سيكون لي أطفالٌ ؟! .. بكيتُ من الفرح .. الحمد لك يا رب .. الحمد لك يا رب .. لقد استجبتَ دعائي .. سورة الفاتحة أنقذت حياتي .. لقد رحم الله ضعفي .. لقد قبل الله دعائي وشفاني بسورة الفاتحة .. أخذتُ أردد سورة الفاتحة .. أُقَّبِلُ الكلمات التي تنطلق في فضاء الغرفة .. شعرتُ كأنني أعانقها. سوف أسلم .. سوف أعتنق هذا الدين .. من الآن أنا مسلمةٌ .. إنه الدين الحق .. لقد قبل الله دعائي بحبي للفاتحة .. طلبتُ من زوجي أن يذهب بي إلى قسم التوعية الدينية بالمستشفى؛ هتفتُ به:  "أريد أن أُسُلِم" .. "لا زلتِ متعبةً؛ نعود فيما بعد" .. "كلا ثم كلا .. أريد أن أعتنق الإسلام الآن .. أريد أن أشكر ربي الآن؛ لقد أنقذني .. لقد سمع ندائي واستجاب لدعائي .. أريد أن أصبح مسلمةً". وبين يديّ الشيخ نطقتُ بالشهادتين بعد أن لَقَّني إياها: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، وعندما رأى زوجي حالتي .. نطق بالشهادتين أيضاً. عدتُ إلى القصر أحمل خبر إسلامي إلى الأميرة .. فرحت كثيراً، ثم قالت: "أنتِ اليوم ابنتي"، بكيتُ وأنا أسمع هذه الكلمات .. لقد زادت محبتي لها. أيقنتُ أن الإسلام عظيمٌ .. وأن المسلمين هم السعداء في هذه الحياة .. لقد أسلمتُ أنا وزوجي في يومٍ واحدٍ؛ فحمدتُ الله أن ساقني إلى العمل في هذا القصر ومع هذه الأسرة الفاضلة التي دعتني بأفعالها .. بأخلاقها .. بمحافظتها على الصلاة والصيام وسائر العبادات .. بما كان يصل إلى سمعي من آيات القرآن، وخاصةً سورة الفاتحة.

أحبتي في الله .. كانت تلك قصةً حقيقةً تبين فضل سورة الفاتحة (أم الكتاب) على غير المسلمين؛ فما بالنا بفضلها علينا نحن المسلمين!
تُسمى هذه السورة بالفاتحة لأنه يُفتتح بها القرآن العظيم، وتفتتح بها كل ركعة من ركعات الصلاة، وتُسمى (أم الكتاب)، وتُسمى سورة الحمد، والوافية، والكافية، ، وتُسمى السبع المثاني؛ قال الله تعالى عنها: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾. وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إذا قرأتم ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فاقرءوا ﴿بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏﴾ إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني و﴿بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏﴾ إحدى آياتها]. ورُوِي عَن أبي سعيد بن المعلَّى رضي اللَّه عنه، قَال: كُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ حَتَّى صلّيت، قال: فأتيته، فَقَالَ: [مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟]، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، قَالَ: [ألم يقل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؟]، ثُمَّ قَالَ: [لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ]، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لأعلمنَّك أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: [نَعَمْ ﴿الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [﴿الْحَمْدُ لِلهِ﴾ أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسبعُ المثاني].
وسُميت "مثاني" لأنها تُقرأ في كل ركعةٍ، وكلمة "مثاني" لها معانٍ أخرى؛ منها اشتمال سورة الفاتحة على ثنائياتٍ كثيرةٍ حصرها أحد الباحثين فيما يلي:
- لفظ الجلالة ذكر مرتين: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين
- الرحمن الرحيم ذكر مرتين: في البسملة، وفي آية منفصلة
- صفات الله ذكرت مرتين: رب العالمين، ومالك يوم الدين
- "إياك" ذكرت مرتين: إياك نعبد، وإياك نستعين
- صفات الهالكين ذكرت مرتين: المغضوب عليهم، والضالين
- حرف العطف الواو ذكر مرتين: إياك نعبد وإياك نستعين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين
- أفعال المضارعة ذكرت مرتين: إياك نعبد، وإياك نستعين
- صفات الإضافة ذكرت مرتين: رب العالمين، مالك يوم الدين
- صفات الصراط ذكرت مرتين: الصراط المستقيم، وصراط الذين أنعمت عليهم
- ضمائر المتكلمين ذكرت مرتين: نعبد .. نستعين، واهدنا
- الضمائر المستترة ذكرت مرتين: بعد الأفعال المضارعة نعبد ونستعين، وبعد أنعمت
- الضمائر المنفصلة ذكرت مرتين: إياك نعبد، وإياك نستعين
- الضمائر المتصلة ذكرت مرتين: أنعمت، واهدنا
- الاستثناء ذكر مرتين: غير المغضوب عليهم، ولا الضالين
- لفظ "عليهم" ذكر مرتين: أنعمت عليهم، وغير المغضوب عليهم
- الفاعل ذكر مرتين: نعبد .. نستعين "ضمير مستتر تقديره نحن"، وأنعمت ..اهدنا "ضمير مستتر تقديره أنت"
- المفعول ذكر مرتين: إياك نعبد ..إياك نستعين "أي الله"، واهدنا .. الصراط
- أسلوب القصر ذكر مرتين: الحمد لله "قصر الحمد لله"، وإياك نعبد ..إياك نستعين "قصر العبادة والاستعانة على الله"
- الاسم المشتق ذكر مرتين: مالك "اسم فاعل"، والمغضوب "اسم مفعول"
- صيغ المبالغة ذكرت مرتين: صيغة فعلان "الرحمن" ذكر مرتين، صيغة فعيل "الرحيم" ذكر مرتين.

وفضائل سورة الفاتحة كثيرةٌ منها أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كان في مسيرٍ فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبِه، قال: فالتفت النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فقال: [ألا أخبِرُك بأفضلِ القرآنِ؟]، قال: بلى، فتلا ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾".
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: [لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ].
ومنها ما رواه ابنِ عباسٍ؛ قال: بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ. سمع نقيضًا من فوقِه. فرفع رأسَه. فقال: [هذا بابٌ من السماءِ فُتِحَ اليومَ. لم يُفتَح قط إلا اليومَ. فنزل منهُ ملكٌ]. فقال: [هذا ملكٌ نزل إلى الأرضِ. لم ينزل قط إلا اليومَ. فسلَّم وقال: أبشِرْ بنوريٍنِ أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك. فاتحةُ الكتابِ وخواتيمُ سورةِ البقرةِ. لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه].

إنها فاتحة الكتاب، وهي الصلاة التي قال عنها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ].
يقول أهل العلم أن (أم الكتاب) اشتملت على أغراض عدة؛ وهي: الحمد لله وتمجيده في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، والثناء عليه بذكر أسمائه في قوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وتنزيهه عن جميع النقائص، وإثبات البعث والجزاء في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وإفراده بالعبادة والاستعانة في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، والتوجه إليه بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، والتضرع إليه بتثبيتهم على الصراط المستقيم في قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، والإخبار عن قصص الأمم السابقين في قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.
وسورة الفاتحة رغم قصرها قد اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. كما أنها تضمنت أنفع الدعاء. يقول بعض العلماء: "اُختزل القرآن في سورة الفاتحة، واُختزلت الفاتحة في آية ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾". وسورة الفاتحة ركنٌ عظيمٌ من أركان الصلاة؛ فالصلاة لا تصح إذا لم تُقرأ الفاتحة فيها.

أحبتي .. هذه هي (أم الكتاب)، التي يقرأها المسلم سبع عشرة مرةً كل يومٍ على الأقل في صلواته الخمس المفروضة، وهذه منزلتها العظيمة، أما قوتها الكامنة فيقول عنها أحد العلماء: "لسورةِ الفاتحة قوةٌ كامنةٌ تبعث في النفس طاقةً روحيةً عجيبةً على مدار اليوم والليلة، لو تدبر المسلمون هذه السورة ووقفوا على أسرارها وكنوزها لرأيت حال أمتنا غير هذا الحال"!
نفعنا الله بفاتحة الكتاب، وجعلها لنا نوراً ورحمةً وشفاءً من كل داء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/CB2UmS