الجمعة، 8 فبراير 2019

التعود على النعمة


الجمعة 8 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٣
(التعود على النعمة)

هذه قصةٌ واقعيةٌ حدثت مع خير البشر؛ مع النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومع اثنين من أقرب الصحابة إليه: أبي بكرٍ الصديق، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: [مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟] قالا: الجوعُ يا رسول الله. قال: [وَأَنا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُما، قُوما] فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَيْنَ فُلانٌ؟] قالت: ذهب يستعذبُ لنا الماء، إذ جاء الأنصاريُ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمدُ لله، ما أحدٌ اليوم أكرمَ أضيافاً مني. فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسْرٌ وتمرٌ ورطبٌ، فقال: كلوا، وأخذ المُدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكَ وَالحَلُوبَ] فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْقِ وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما: [وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعيمِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ].

وفي روايةٍ: قال صلى الله عليه وسلم: [هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسألون عَنْهُ].
وفي روايةٍ: مرّ عليه الصلاة والسلام حتى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: [أطْعِمْنا بُسْرًا]، فجاء بعذقٍ فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماءٍ باردٍ فشرب، فقال: [لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ]، فأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر، ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسئولون عن هذا؟ قال: [نَعَمْ، إلا مِنْ كِسْرَةٍ يُسَدُّ بِها جَوْعَةٌ، أوْ حُجْرٌ يُدْخَلُ فِيه مِنَ الحَرِّ والقَرِّ]. وفي روايةٍ: [نَعَمْ، إلا مِنْ ثَلاثَةٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِها عَوْرَتَهُ، أو كِسْرَةٍ سَدُّ بِها جَوْعَتَةُ، أوْ جُحْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الحَرِّ والقَرّ].
ولما نزلت الآية: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قالت الصحابة: يا رسول الله، وأي نعيم نحن فيه، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: [أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ، وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ].

أحبتي في الله .. تصوروا أن هذا كان حال هذا سيد الخلق أجمعين؛ الذي عرض عليه كفار قريش أن يجمعوا له مالاً كثيراً ليكون أغنى الناس، وعرضوا عليه مُلكاً ليكون أعز الناس، على أن يترك أمر الرسالة فرفض، وقال لهم قولته المشهورة: [وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته]. تخيلوا للحظاتٍ أن هذا كان حال أعظم من أنجبتهم البشرية منذ الأزل وإلى الأبد؛ النبي الكريم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، يعانون من الجوع ولا يجدون ما يسد رمقهم!
قارنوا بين حياة هؤلاء الذين عانوا شظف العيش والجوع والعطش والبطش والتكذيب والتهجير وكل صنوف العذاب، وبين حياتنا نحن الآن حيث الإسراف والتبذير في كل شيئٍ من: مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ ووسائل نقلٍ وأدوات ترفيهٍ وأمنٍ ونعمٍ كثيرةٍ لا تُعد ولا تُحصى.
هل أحسسنا بكل هذه النعم الظاهرة؟ هل شعرنا بكل النعم الباطنة؟ هل شكرنا المنعم على جميع نعمه وأفضاله؟

يقول أحد الصالحين هناك مرضٌ صامتٌ من أشد الأمراض فتكاً، لا تُرى له ملامح، ولا تشعر له بأية أعراض. إذا تمكن منك فسوف يضرك ضرراً شديداً.
هذا المرض الخطير هو مرض (التعود على النعمة)، وله مظاهر منها: أن تألف نِعمَ اللهِ عليك وكأنها ليست بِنِعَم، وتفقد الإحساس بها، كأنها حقٌ مكتسب. وأن تتعود الدخول على أهل بيتك وتجدهم بخيرٍ وفي أحسن حال، فلا تحمد الله. وأن تذهب للتسوق، وتضع ما تريد في العربة وتدفع التكلفة وتعود لمنزلك دون أدنى إحساسٍ بالمنعم وشكره، لأن هذا شيئٌ عاديٌ. وأن تستيقظ كل يومٍ وأنت في أمانٍ وصحتك جيدةٌ لا تشكو من شيءٍ، دون أن تحمد الله. انتبه! فأنت في هذه الحالات والله في خطر!
إذا أَكلتَ وهناك من بات جائعاً، أو من يملك طعاماً ولا يستطيع أن يأكله، فاحمد الله وأشكره كثيراً. أن تدخل بيتك وقد أنعم الله عليك بالستر والمودة، بوجود أمٍ أو أبٍ أو زوجةٍ وأطفالٍ بصحةٍ وفي أفضل حالٍ، فاحمد الله واشكره كثيراً.
لا تجعل الحياة تُرغمك أن تألف النعم، بل ارغم أنت حياتك أن تألف الْحَمْد والشكر لهذا الإله العظيم؛ فإذا سُئِلت عن حالك؟ لا تقل: لا جديد؛ فأنت في نعمٍ كثيرةٍ لا تحصيها، قد جدَّدها الله لك في يومك هذا، وواجبٌ عليك حمده وشكره؛ فغيرك قد حُرِمها في يومه ذاك!
فكم من آمنٍ أصبح خائفاً، وكم من صحيحٍ أصبح سقيماً، وكم من عاملٍ أصبح عاطلاً، وكم من غَنيٍ أصبح محتاجاً، وكم من مبصرٍ أصبح أعمى، وكم من متحركٍ أصبح عاجزاً. وأنت جُدِّدَت لك كل تلك النعم، فَقُل الحمد لله على ما أعطى وأبقى.

يقول أهل العلم أنه ورد في القرآن الكريم ما يُذَكِّر النّاس بفضل ربّهم ونِعمه عليهم، وكثُرت الآيات الكريمة التي عدّدت تلك الفضائل والنعم، وبعد فيض النِّعم التي ذُكرت في القرآن جُملةً أو مُفصّلةً قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصوها إِنَّ اللهَ لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾؛ فنِعم الله سبحانه وتعالى على عباده عظيمةٌ وجليلةٌ لا يُحصيها من أراد ذكرها وتعدادها، وقد أوجب الشكر عليها ومَدَح الشّاكرين، وذَمَّ جحود النّعم وكفرانها، حيث قال: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ وقال أيضاً: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.

وأخبر الله تعالى عباده أنّهم محاسبون يوم القيامة عن كلّ نِعمة تقلّبوا فيها في الحياة الدّنيا، حيث قال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، فكان ذلك الإخبار حُجّةً على الإنسان أنّه سيُسأل عن النّعم التي أوتيها في الحياة الدنيا. يقول المفسرون لهذه الآية الكريمة إن الله سبحانه وتعالى يسأل كل ذي نعمةٍ عما أنعم عليه من كل أنواع النعيم الذي تَنَعَّم به في دار الدنيا، هل قام بشكره، وأدى حق الله فيه، ولم يستعن به على معاصيه، فينعمه نعيماً أعلى منه وأفضل؟ أم اغتر به، ولم يقم بشكره؟ بل ربما استعان به على معاصي الله فيعاقبه على ذلك، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.
والمراد بالنعيم: ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مالٍ وولدٍ، ومن طعامٍ وشرابٍ، ومن متعةٍ وشهوةٍ. قيل أن النعيم هو ما يُسَد به الجوع، وما يُدفَع به العطش، وما يُستَكَن فيه من الحر، وتُستَر به العورة. وقيل أن النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار. وقيل هو الأمن والرزق والمال والفراغ. وقيل أنه شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخُلُق، ولذة النوم، والتلذّذ حتى عن شَربةِ عسل. هو بالإجمال كل لذةٍ من لذات الدنيا.
ثم إننا سنُسأل يوم القيامة عن ألوان النعم التي منحنا الله تعالى إياها، فمن أدى ما يجب عليه نحوها، من شكر الله تعالى عليها كان من السعداء، ومن جحدها وشغلته عن طاعة ربه، وتباهى وتفاخر بها، وربما استعان بها على معصية الله كان من الأشقياء. الكل سيُسأل، ولكن سؤال المؤمن سؤال تشريفٍ لأنه شكر، وسؤال الكافر سؤال توبيخٍ لأنه قد ترك الشكر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أولَ ما يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقَالَ لَهُ: ألَم نُصِحَّ لَك جِسْمَكَ، وَتُروَ مِنَ الماءِ البارِدِ؟].
وقال صلى الله عليه وسلم: [النَّعِيم المَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ: كِسْرَةٌ تُقَوّيهِ، وَماءٌ يُرْوِيهِ، وَثَوْبٌ يُوَارِيهِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ].



قال أهل العلم أن المؤمن يعيش دائماً وأبداً مع المنعم، ويعيش الكافر دائماً وأبداً مع النعمة، يستغرق فيها، وينغمس فيها، ويفعل فيها الحرام، هي كل دنياه، إلهه شهوته، لكن المؤمن يعيش مع المنعم، مع خالق النعمة، مع الذي سخرها له، مع الذي أعطاه إياها.
إن في حياة الإنسان نعماً كثيرةً قد لا ينتبه إليها، بحكم (التعود على النعمة). من بين هذه النعم نعمة الصحة، وسوف تُحاسب عنها، أنت بكامل أعضائك، وبكامل حواسك، وبكامل تفكيرك، تتحرك، وتنام، وتستيقظ، وتنظف نفسك بيدك، لستَ بحاجةٍ إلى أحد، ترى، وتسمع، وتفكر، وتعقل، وتشم، وتنطق، وتتكلم. جوارحك كلها سليمةٌ: فهذه العين؛ كيف استخدمتَها؟ هل نظرتَ إلى ما حرَّم الله أم نظرتَ إلى آيات الله؟ هل غضضتَ بصرك عن محارم الله أم نظرتَ إلى الحرام؟ وهذه الأذن؛ إلى ماذا استمعتَ بها؟ هل استمعتَ إلى ما لا يرضي الله؟ أم استمعتَ إلى الحق؟ وهذا اللسان؛ كيف يتحرك؟ بالغيبة، بالنميمة، بالكذب، بالبهتان، بالسخرية؟ أم بقول الحق، ونشر العلم، وذِكر الله عز وجل؟
ومن النعم المغبون فيها الإنسان نعمة الفراغ؛ عندك وقت فراغٍ كيف أمضيتَه؟ في اللهو واللعب، في القيل والقال، في إيذاء الناس؟ أم أمضيتَ هذا الوقت الثمين في مجلس علمٍ، مجلس ذكرٍ، في طاعةٍ، في عملٍ صالحٍ، في توفيقٍ بين اثنين، في كلمةٍ طيبةٍ تلقيها على الناس، في خدمةٍ لإنسانٍ ضعيف، في معونةٍ لإنسانٍ فقير، في معاونة أرملةٍ أو مسكينٍ؟ ونعمة الكفاية؛ عندك ما تأكل، عندك بيتٌ تسكنه، عندك زوجةٌ تحصنك، عندك ولدٌ يعينك. هذه كلها، وغيرها من نعيم الدنيا سوف تُسأل عنها يوم القيامة.

أحبتي ..  انتبهوا حتى لا تصابوا بمرض (التعود على النعمة). حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكَيِّسُ من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

اللهم أَدِمْ علينا نِعَمك ظاهرةً وباطنةً، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء. اللهم لك الحمد حمداً يوافي نعمك ويدفع نقمك ويكافئ مزيدك.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. اللهم إنك قلت وقولك الحق: ﴿لئِن شكرتمْ لأزيدنَّكُم﴾.
اللهم كما رزقتنا النعم، فارزقنا شكرها، واجعلنا حامدين شاكرين فضلك علينا، واجعلنا ممن قلت فيهم: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. اللهُم اجعلنا جميعاً من عبادك الشاكرين الذاكرين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/1rXHC3