الجمعة، 7 يونيو 2019

خُلُق الستر


الجمعة 7 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٠
(خُلُق الستر)

دخل رجلٌ غريبٌ على مجلس أحد الحكماء الأثرياء فجلس يستمع إلى الحكيم وهو يُعلّم تلامذته وجُلساءه، ولا يبدو على الرجل الغريب ملامح طالب العلم، ولكنه بدا للوهلة الأولى كأنه عزيزُ قومٍ ذلَّ! سلَّم، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأخذ يستمع للشيخ بأدبٍ وإنصات، وفى يده قارورةٌ فيها ما يشبه الماء لا تفارقه. قطع الشيخ العالمُ الحكيم حديثه، والتفت إلى الرجل الغريب، وتفرّس في وجهه، ثم سأله: ألك حاجةٌ نقضيها لك؟ أم سؤالٌ فنجيبك عنه؟ فقال الغريب: لا هذا ولا ذاك، وإنما أنا تاجرٌ، سمعتُ عن علمك وخُلُقك ومروءتك، فجئتُ أبيعك هذه القارورةَ التي أقسمتُ ألّا أبيعَها إلا لمن يُقدِّر قيمتها، وأنت -دون ريبٍ- حقيقٌ بها وجدير، قال الشيخ: ناولنيها، فناوله إياها، فأخذ الشيخ يتأملها ويحرك رأسه إعجاباً بها، ثم التفت إلى الضيف: فقال له: بكم تبيعها؟ قال: بمئة دينارٍ، فرد عليه الشيخ: هذا قليلٌ عليها، سأعطيك مئةً وخمسين! فقال الضيف: بل مئةٌ كاملةٌ لا تزيد ولا تنقص، فقال الشيخ لابنه: ادخل عند أمك وأحضر منها مئةَ دينارٍ. وبالفعل تسلَّم الضيف المبلغ، ومضى في حال سبيله حامداً شاكراً، ثم انفضَّ المجلسُ وخرج الحاضرون، وجميعهم متعجبٌ من هذا الماء الذي اشتراه شيخُهم بمئة دينار! دخل الشيخ إلى مخدعه للنوم، ولكنّ الفضول دعا ولده إلى فحص القارورة ومعرفةِ ما فيها، حتى تأكد -بما لا يدع مجالاً للشك- أنه ماءٌ عاديّ! فدخل إلى والده مسرعاً مندهشاً صارخاً: يا حكيم الحكماء، لقد خدعك الغريب، فواللهِ ما زاد على أن باعك ماءً عادياً بمئة دينار، ولا أدري أأعجبُ من دهائه وخبثه، أم من طيبتك وتسرعك؟! فابتسم الشيخ الحكيم ضاحكاً وقال لولده: يا بني، لقد نظرتَ ببصرك فرأيتَه ماءً عاديّاً، أما أنا، فقد نظرتُ ببصيرتي وخبرتي فرأيتُ الرجل جاء يحمل في القارورة ماءَ وجهه الذي أبَتْ عليه عِزَّةُ نفسه أن يُريقَه أمام الحاضرين بالتذلُّل والسؤال، وكانت له حاجةٌ إلى مبلغٍ يقضي به حاجته لا يريد أكثر منه، والحمد لله الذي وفقني لفَهْم مراده وإجابته، وحِفْظِ ماء وجهه أمام الحاضرين، ولو أقسمتُ ألفَ مرّةٍ أنّ ما دفعتُه له فيه لقليل، لما كنتُ حانثاً في يميني.
يعقب كاتب هذه القصة بقوله: إن استطعتَ أن تفهم حاجةَ أخيك قبل أن يتكلم بها فافعل، فذلك هو الأجملُ والأمثل، تفقَّدْ على الدوام أهلك وجيرانك وأحبابك، فربما هُم في ضيقٍ وحاجةٍ وعَوَزٍ، ولكن الحياء والعفاف وحفظَهم لماء وجوههم قد منعهم من مذلة السؤال! فاقرأ حاجتهم قبل أن يتكلموا. وما أجملَ قولَ من قال: "إذا لم تستطع أن تقرأ صمْتَ أخيك، فلن تستطيع أن تسمع كلماتِه"، فما أجمل (خُلُق الستر)!

وإليكم هذه الواقعة التي تحدثت بها كتب التراث:
قال أحد الصالحين: جاءتني امرأةٌ ببغداد، ليلةً من الليالي، فذكرتْ أنها من بنات الناس، وقالت: أسألك بالله أن تسترني، فقلت: وما محنتك؟!، قالت ُأكرهت على نفسي ـ أي يبدو أنها اُغتصبت، وأنا الآن حامل، وبما أنني أتوقع منك الخير والمعروف، فقد ذكرتُ لكل من يعرفني أنك زوجي، وأن ما بي من حملٍ إنما هو منك فأرجوك لا تفضحني، استرني سترك الله عز وجل. سمعتُ كلامها وسكتُ عنها، ثم مضتْ. وبعد فترةٍ وضعت مولوداً، وإذ بي أفاجأ بإمام المسجد يأتي إلى داري ومعه مجموعةٌ من الجيران يهنئونني ويباركون لي بالمولود؛ فأظهرتُ لهم الفرح والتهلل، ودخلتُ حجرتي وأتيت بمائة درهمٍ وأعطيتها للإمام قائلاً: أنت تعرف أنني قد طلقتُ تلك المرأة، غير أنني ملزمٌ بالنفقة على المولود، وهذه المائة أرجوك أن تعطيها للأم لكي تصرف على ابنها، هي عادةٌ سوف أتكفل بها مع مطلع كل شهر وأنتم شهودٌ على ذلك. واستمررتُ على هذا المنوال بدون أن أرى المرأة ومولودها. وبعدما يقارب من عامين تُوفي المولود، فجاءني الناس يعزونني، فكنت أُظهر لهم التسليم بقضاء الله وقدره، ويعلم الله أن حزناً عظيماً قد تملكني لأنني تخيلت المصيبة التي حلت بتلك الأم المنكوبة. وفي ليلةٍ من الليالي، إذ بباب داري يُقرع، وعندما فتحتُ الباب، فوجئتُ بتلك المرأة ومعها صرةٌ ممتلئةٌ بالدراهم، وقالت لي وهي تبكي: هذه هي الدراهم التي كنتَ تبعثها لي كل شهرٍ مع إمام المسجد، سترك الله كما سترتني. حاولتُ أن أرجعها لها غير أنها رفضت، ومضت في حال سبيلها. وما هي إلاّ سنةٌ وإذ بها تتزوج من رجلٍ مقتدرٍ وصاحب فضلٍ، أشركني معه في تجارته وفتح الله عليّ بعدها أبواب الرزق من حيث لا أحتسب.
إنها واقعةٌ فيها الكثير من الشهامة والرجولة وبيان فضيلة (خُلُق الستر).

ويُروى أن موسى عليه السلام خرج يوماً يستسقي، فلم يرَ في السماء قزعةً -أي سحابة- واشتد الحرُّ، فقال موسى: "يا ربِ، اللهم إنا نسألك الغيث فاسقِنا"، فقال الله جلَّ وعلاَّ: "يا موسى، إن فيكم عبداً يُبارِزُني بالذنوب أربعين عاماً، فصِحْ في القوم ونادِ إلى العباد: الذي بارز ربه بالذنوب والمعاصي أربعين عاماً أن اخرُج"، فقال موسى: "يا ربِ، القوم كثيرٌ، والصوت ضعيفٌ، فكيف يبلغهم النداء"؟! فقال الله: "يا موسى، قل أنتَ، وعلينا البلاغ"، فنادى موسى بما استطاع، وبلغ الصوت جميع السامعين الحاضرين، فما كان من ذلك العبد العاصي -الذي علم أنه المقصودُ بالخطاب، المرقوم في الكتاب أنه يُنادى بعينه بين الخلائق، فلو خرج من بين الجموع، عُرِف وهُتك ستره، وانفضحت سريرته وكُشفت خبيئته. فما كان منه إلا أن أطرق برأسِه وأدخل رأسَه في جيب درعه أو قميصه، وقال: "يا ربِ، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني"، فما لبث موسى ومَن معه إلا أن أظَلَّهم الغيمُ، وانفتحت السماء بمطرٍ كأفواهِ القِرَب، فقال موسى: "يا ربِ، سقيتَنا وأغثتَنا ولم يخرج منا أحدٌ"، فقال الله: "يا موسى، إن مَن منعتُكم السقيا به تاب وسألني وأعطيته، وسقيتكم بعده"، فقال موسى: "يا ربِ، أرني ذلك الرجل"، فقال الله جلَّ وعلاَّ: "يا موسى، سترتُه أربعين عاماً وهو يعصيني، أفأفضحه وقد تاب إليَّ وبين يدي؟".
هذه القصة ذكَرها ابن قدامة المقدسي في كتابه "التوَّابين"، وفيها ستر الله لعبده التائب.

أحبتي في الله .. إنه (خُلُق الستر) .. يقول العلماء أن معنى الستر في اللغة هو من فِعْل سَتَرَ، أي غطّى الشيء، وأخفاه، ويُقال هذا رجل سِتّير، أو ستور، أي عنده خُلُق العفة. وأمّا الستر في الاصطلاح فمعناه التغطية على الأخطاء، والعيوب التي تظهر من المسلم، والتغاضي عن هناته، وزلّاته، فلا يُظهر المسلمُ قبيحاً رآه في مسلمٍ آخر للناس، وبما لا يتعارض مع الإنكار عليه.
والله سبحانه وتعالى سِتِّيرٌ يحب الستر، ويستر عباده في الدنيا والآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى يُدنِي المؤمنَ فَيضَعُ عليهِ كَنفَه وسِتْرَه من النَّاسِ، ويُقرِّرُه بذُنوبِه فيقولُ: أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا؟ أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا فيقولُ: نعَم أَيْ رَبِّ، حتَّى إذا قَرَّرَهُ بذُنوبِه ورَأى في نَفسِه أَنَّه قد هَلكَ، قال: فإنِّي قد سَترتُهَا عليكَ في الدُّنيا، وأنا أَغفِرُهَا لكَ اليومَ].
وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. وقال أيضاً: [لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. كما قال: [مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]. وقال كذلك: [كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يُصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا].

وهذا أحد العارفين يقول: "أدركت أقواماً كانت لهم عيوبٌ فسكتوا عن عيوب الناس فستر اللّه عيوبهم".
وهذا آخر يقول: "إذا رأى الإنسان من أخيه في الله معصيةً فلا يفضحه ولا ينشرها بين الناس، بل يستر عليه وينصحه، ويوجهه إلى الخير، ويدعوه إلى التوبة إلى الله من ذلك، ولا يفضحه بين الناس، ومن فعل هذا وستر على أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل".
وقال الشاعر:
ومن لم يُقِمْ سِتْرًا على غيرِه
يعِشْ مُسْتَباحَ العرضِ مُنْهَتك السِّترِ
وقال آخر:
إذا أنت عِبْتَ النَّاس عابوا وأكثروا
عليك وأبدوا منك ما كان يُسْتَرُ

أحبتي .. أستعير لكم كلماتٍ قالها من أحسبه من الصالحين؛ كتب يقول: سبحانك يا رب! ما أعظمك وأكرمك! فبالرغم من ذنوب عبادك، وتفريطهم في جنبك وحدودك وأوامرك تأبى إلا أن تُسبل سِترك عليهم فلا تفضحهم على أعين الأشهاد، فاللهم استرنا في الدنيا والآخرة. ولنتخلق أحبتي بهذا الخُلق الرفيع (خُلُق الستر)؛ حتى تشيع الفضيلة والعفة، ونحفظ أنفسنا ونحفظ إخواننا، ونسمو بأخلاق أمة خير الأنام محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2QX1hYW