الجمعة، 29 مارس 2024

الصبر والشكر

 

خاطرة الجمعة /440

الجمعة 29 مارس 2024م

(الصبر والشكر)

 

قال أحد الأطباء: من أغرب ما شاهدتُ في حياتي المهنية مريضاً، عمره سبعون سنةً، كان يُراجعني بسبب إصابته بمرض السكري، وكل مرةٍ يُراجعني يقول مع ابتسامةٍ كبيرةٍ على وجهه: "الحمد لله يا ربّي على نعمة السكري"! سألته مرةً: "عمي أنت غريب! أول مرةٍ أسمع أحداً يُسمي مرض السكري نعمة"، قال: "يا ولدي السكري نعمةٌ وأكثر!"، قلتُ له: "كيف؟"، قال سأقول لك: "الله أعطاني مرضاً ليس فيه ألمٌ، وكثيرٌ من النّاس يتألمون من أمراضهم.. الله أعطاني مرضاً في وقتٍ استطاع الطبّ أن يجد له العلاج والدواء، وكثيرٌ من النّاس عندهم أمراضٌ لا شفاء منها ولا دواء لها.. الله أعطاني مرضاً يجعلني أراجع الطبيب كل أربعة أشهرٍ فأتأكد من سلامة صحتي بشكلٍ دوري.. الله أعطاني مرضاً حتى اسمه حلوٌ "سكري".. والأهم من ذلك أن الله أعطاني مرضاً لأصبر وأشكر فيغفر لي سيئاتي وذنوبي ويزيد من حسناتي من دون تعبٍ أو عناء.. كما أنه أعطاني مرضاً يجعلني أصحو في الليل مرتين لقضاء الحاجة؛ فصرتُ مواظباً على صلاة التهجد وقيام الليل، والفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى ثم لمرض السكري.. ثم لا تنسَ أن الله أعطاني مرضاً يجعلني أراجع طبيباً حلواً مثلك!".

يقول الطبيب: قرأتُ الكثير عن الصبر وعن الرضا بأقدار الله، وعن شكر الله على كل حال، لكني لم أتعلم منها كما تعلمتُ من هذا الرجل في دقيقتين!!

 

أحبتي في الله.. لله در هذا الرجل؛ فقد تجاوز مرحلة الرضا بقضاء الله وقدره، ومرحلة الصبر على ما أصابه، إلى مرحلة شكر الله عزَّ وجلَّ على ما هو فيه؛ وكأنه يتمثل الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، واختار لنفسه أن يكون من القليلين الذين يقول عنهم سبحانه: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. وعن الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قال المفسرون: هذا عامٌ في جميع أنواع الصبر؛ الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حسابٍ، أي: بغير حدٍ ولا عدٍ ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه، وأنه معينٌ على كل الأمور.

وعن (الصبر والشكر) بَشَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنَ الصابرَ الشاكرَ لا يزال ينقلب من خيرٍ إلى خيرٍ، ومن أجرٍ إلى أجرٍ حتى يلقى ربَّه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلَّا للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ].

وعن التلازم بين (الصبر والشكر) يقول العلماء إن الإيمان نصفان: نصفه صبرٌ، ونصفه شكرٌ، ولا يكون العبد مؤمناً حقَّ الإيمان إلا إذا كان صابراً شاكراً. والصبر ثلاثة أنواعٍ لا بُدَّ منها لكل مؤمنٍ: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على بلاء الله. وقد كتب الله تعالى البلاء في هذه الدنيا على عباده جميعاً؛ فلا ينجو من بلائه غنيٌّ ولا فقيرٌ، ولا عظيمٌ ولا حقيرٌ، ولا مؤمنٌ تقيٌّ، ولا كافرٌ شقيٌّ؛ بل ربما يكون حظُّ المؤمن من البلاء أعظمَ، ونصيبه من المصائب أكبر؛ ليُكفِّر الله بها من سيِّئاته، ويُضاعف له في حسناته، ويرفع له في درجاته. والصبر صبرٌ على شيءٍ أمر به الله، وصبرٌ عن شيءٍ نهى الله عنه.

وأما الشكر فهو شكرٌ بالقلب؛ اعترافاً بأن الفضل لله وحده، وشكرٌ باللسان؛ حمداً لله وثناءً عليه سبحانه، وشكرٌ بالجوارح؛ باستعمالها في الطاعة وترك المعصية.

وتأكيداً على العلاقة بين (الصبر والشكر) يقول أهل العلم إنه لا يكون العبد شاكراً إلا إذا كان صابراً، فإن الصبر أساس الشكر. ودرجة الشكر فوق درجة الصبر؛ بل فوق درجة الرِّضا؛ لأن الرِّضا مندرجٌ في الشكر ومندمجٌ فيه؛ فلا يكون العبد شاكراً لربِّه إلا إذا كان راضياً بقضائه، مُثْنِياً عليه بالثناء الحسن الجميل.

فلا شكَّ أن الوصفين: (الصبر والشكر) مُتَلازِمان، بهما يكمل الإيمان ويتم اليقين، وبهما يصل المؤمن المُوقن إلى مقام الإحسان الذي فَسَّره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ].

 

أحبتي.. جعل الله للصابرين أموراً ثلاثةً لم يجعلها لغيرهم: وهي الصلاة منه والرحمة والهداية؛ يقول تعالى: ﴿الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. كما وعد بالجزاء للشاكرين؛ يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾. فلنجعل حياتنا كلها دائرةً بين (الصبر والشكر)، فلا نخرج من الصبر إلى الجزع، ولا نخرج من الشكر إلى الكفر؛ فإذا نزل بنا بلاءٌ صبرنا، وإذا أنعم الله علينا بسرّاء شكرنا. وهكذا تكون حياتنا كلها دائرةً بين عبادتين: عبادة الشكر وعبادة الصبر، فتكون خيراً كلها.

اللهم أعنّا على الصبر، وألهمنا الشكر، وتقبل منا صالح الأعمال، وارزقنا اللهم رزقاً واسعاً، وعِلماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، وجسداً على البلاء صابراً، ولساناً ذاكراً شاكراً.

 

https://bit.ly/4aixamr