الجمعة، 24 مايو 2019

سلاح المؤمن


الجمعة 24 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٨
(سلاح المؤمن)

قصةٌ واقعيةٌ حدثت بحق لتلك المرأة. هي من أرض نجد بالمملكة العربية السعودية، كانت تجمع أطفالها قبل الإفطار في كل يومٍ من أيام شهر رمضان وتدعو فتقول: "يا رب أعطنا بيت مِلْكٍ أمامه نهر"؛ فكان أطفالها يرددون خلفها ويقولون كما تقول: "يا رب أعطنا بيت مِلْكٍ أمامه نهر"! وكان زوجها يضحك من فعلها ويقول: "بيتٌ مِلْكٌ واقتنعنا، أما أمامه نهرٌ فكيف ونحن في بلدٍ صحراوية؟!" فكانت تجيبه بقولها: "قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؛ سأدعو الله بما أشتهي وأريد وسيعطيني فهو كريم". دعت ودعت وأطفالها يؤمنون على دعائها ويدعون معها طيلة الشهر. وانتهى رمضان؛ فأتى زوجها يضحك منها ساخراً يقول: "أين البيت؟ وأين النهر؟"، فكانت ترد: "سيعطيني ربي، ولن يخيب رجائي فيه". تقول: ما أن انتهيت من صيام الست من شوالٍ إلا وقد حدث أمرٌ عجيبٌ؛ فبينما زوجي يهم بالخروج من المسجد بعد صلاة العصر، إذ أتاه رجلٌ لا يعرفه من أثرياء مدينة الرياض، سلَّم عليه وقال: "إنني أملك منزلاً نصفه لوالدي، والنصف الباقي منه مستغنون عنه أنا وعائلتي؛ فقد وسع الله علينا من فضله، وقررت أن أعطيه أول رجلٍ أراه؛ فخذه بدون مقابل، وإن أردت أن تدفع فادفع ما تستطيع أن تدفعه"! تقول المرأة: استحيينا أن نأخذ البيت بلا مقابلٍ؛ فجمعنا المال من هنا وهناك حتى حصلنا سبعة آلاف ريالٍ فقط سلمناها للرجل. تقول: فعلاً من صدق الله صدقه، ومن تيقن بالإجابة وجد. بعد رمضان أصبحنا نملك منزلاً في حيٍ راقٍ من أحياء الرياض. ثم استدركت تقول: أنه لفت نظري أمرٌ هو أننا كنا نسأل الله أن نملك منزلاً أمامه نهرٌ، ها هو البيت فأين النهر؟ تقول: حدَّثت حينها أحد المشايخ وقلت له: أليس الله عز وجل يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟ قال: بلى، قالت: سألتُ الله يا شيخ شهراً كاملاً أن يهبني منزلاً أمامه نهرٌ، وها هو المنزل قد وهبني الله إياه ولكن أين النهر؟! استعجب الشيخ من دعائها، وازداد عجباً ليقينها بالله بأنه معطيها ما دعت، سألها: ماذا يوجد الآن أمام باب منزلكم؟ نظرت المرأة فقالت: يوجد مسجد؛ فضحك الشيخ وقال لها: هذا هو النهر مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟]، قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: [فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا]!
إن الله قادرٌ على أن يُفَجِّر لهذه السيدة نهراً في صحراء هذه الأرض، لكنه أبدلها بخير أنهار الدنيا: الصلاة؛ فهي النهر العذب لكل مؤمنٍ يستريح بها من وَصَبِ الدنيا وتعبها.

أحبتي في الله .. استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء هذه المرأة، التي كانت تُخلص في الدعاء وتُلح فيه، وكان دعاؤها في خير شهور العام؛ شهر رمضان المبارك. لقد استخدمت (سلاح المؤمن) الذي هو الدعاء، وهي موقنةٌ بالإجابة، فكان عطاء الله مدهشاً.
يقول أهل العلم أن الدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه وما يكشف ضُرَّه. وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله عزَّ وجلَّ وإضافةِ الجود والكرم إليه. ويقولون إن الدعاء من العبادات العظيمة الجليلة على سهولته ويُسره؛ فهو ليس شاقاً ولا يحتاج لبذل جهدٍ، لا يتقيد بزمانٍ أو مكانٍ، ولا يُشترط لصحته الوضوء أو استقبال القبلة، ولا يكلف مالاً، وهذا كله من فضل الله على عباده.
أمر الله تعالى عباده بالدعاء؛ قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وهو سلامةٌ من الكبر؛ ففي ذات الآية يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾. والدعاءُ أكرمُ شيءٍ على الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ]. وفيه خصوصيةٌ بين العبد وربه، وهو سببٌ لدفع غضب الله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ]، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
لا تسألن بني آدم حاجةً
وسلِ الذي أبوابُه لا تُحجبُ
الله يغضبُ إن تركتَ سؤاله
وبني آدم حين يُسأل يَغضبُ
والدعاء سلامةٌ من العجز؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلامِ]. وهو أيضاً دليلٌ على التوكل على الله، وسببٌ لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور، كيف لا وهو (سلاح المؤمن)؛ يقول الشاعر:
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ عليَّ
فما ينفك أن يتفرّجا
ورُبَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ
أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا

ومن فضائل الدعاء أن ثمرته مضمونةٌ بإذن الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصُبُ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يَسْأَلُهُ مَسْأَلَةً، إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا؛ إِمَّا عَجَّلَهَا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا ذَخَرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مَا لَمْ يَعْجَلْ]، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَجَلَتُهُ؟ قَالَ: [يَقُولُ: دَعَوْتُ وَدَعَوْتُ، وَلا أُرَاهُ يُسْتَجَابُ لِي].
والدعاءَ دليلٌ على الإيمان بالله، والإقرار له بالربوبية، والألوهية، وهو عبادةٌ له؛ فقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الدُّعَاءُ هُوَ اَلْعِبَادَةُ]. وهو سببٌ لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمَا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الدُّعَاءَ لَيَلْقَى الْبَلاءَ، فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]، ومعنى يعتلجان أي: يتصارعان، ويتدافعان؛ فالدعاء هو حقاً (سلاح المؤمن).

ومن آداب الدعاء: الإخلاص لله تعالى وعدم إشراك أيٍ من مخلوقاته معه والاستعانة به وحده عزَّ وجلَّ، تحري المطعم والمشرب والملبس الحلال والابتعاد عن الحرام، استحضار القلب عند الدعاء وعدم الغفلة، التيقن من الإجابة والإيمان الخالص بأنّ الله تعالى لن يرد الدعاء، بدء الدعاء بالحمد والثناء على الله تعالى والصلاة على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، دعاء الله بأسمائه الحسنى المناسبة للدعاء، التوسل في الدعاء لله تعالى بصفاته مثل: أستغيث برحمتك وألوذ بكرمك، الاستمرار في الدعاء ومواصلته وعدم الانقطاع واليأس والقنوط بل الإصرار على الدعاء والإلحاح فيه، والتزام البساطة وعدم التكلف وتَقَصُّد السجع. ومن المستحب - وإن لم يكن شرطاً - أن يكون المسلم وقت الدعاء طاهراً مستقبلاً القبلة.

يقول العلماء إذا كان الدعاء سُنَّةً مشروعةً عموماً، فإنه في أوقاتٍ مخصوصةٍ وأماكن معلومةٍ يكون أكثر أهميةً وأشد طلباً. ومن الأوقات التي يُلتمس فيها الدعاء ويُرجى فيها القبول والإجابة أيام شهر رمضان ولياليه؛ قال تعالى عقب آيات فرضيَّة الصيام: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾؛ ففي الآية إيماءٌ إلى أن الصائم مرجوَ الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مستجابةٌ دعواته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ؛ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ..].
ومن الأدعية المأثورة في رمضان، ما جاء عند رؤية هلال رمضان: [اللَّهُمَّ أَهِّلِهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ]. ومنها ما علَّمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دُعينا للإفطار أن ندعوَ للداعي بهذا الدعاء: [أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلائِكَةُ]. ومنها ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم عند فطره: [ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ].
يقول العارفون أن على الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه.
وتُعد أفضل أوقات استجابة الدعاء في الثلث الأخير من الليل، وعند الآذان، والوقت بين الأذان وإقامة الصلاة، ووقت السجود، وبعد الانتهاء من الصلاة. كما أن وقت الإفطار من الصيام، من أكثر أوقات إجابة الدعاء.

أحبتي .. حذارِ أن نتهاون في شأن الدعاء بصفةٍ عامةٍ، وفي شهر رمضان بصفةٍ خاصةٍ، وفي العشر الأواخر منه تحديداً. فكم من الفضائل تضيع علينا إذا تغافلنا عن الدعاء، وكم من الأجر والثواب نحرم أنفسنا منه إذا تكاسلنا عن الدعاء، وكم من قَدَرٍ كان يمكن كتابته لنا أو رده عنا بإخلاص الدعاء والإلحاح فيه واليقين الكامل في استجابة المولى عزَّ وجلَّ له. أحبتي .. إذا كان الدعاء (سلاح المؤمن) فهو نعمةٌ وهِبةٌ وفضلٌ من الله سبحانه وتعالى علينا؛ ومن باب شكر النعم أن نُحسن الدعاء، ونجتهد فيه متضرعين خاشعين متذللين موقنين بالإجابة، ونغتنم هذه الأيام الطيبة المباركة لنستزيد منه، عسى أن يستجيب رب العالمين. ولنحذر من ترك الدعاء جهلاً أو تكاسلاً أو نسياناً أو غروراً وكِبراً، ولنتذكر قول المولى تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون﴾، وقوله سبحانه: ﴿قُل ما يَعبَأُ بِكُم رَبّي لَولا دُعاؤُكُم﴾.
نسأل الله سبحانه أن يلهمنا خير الدعاء، وأن يستجيب لنا، ويحقق أمانينا، ويكتب لنا الخير حيثما كان.
وفقنا اللهم لصالح الأعمال وتقبلها منا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://bit.ly/2W1Cw3j