الجمعة، 21 يناير 2022

رد المظالم

 

خاطرة الجمعة /327


الجمعة 21 يناير 2022م

(رد المظالم)

 

يحكي قصته فيقول: في مقتبل شبابي وتحديداً قبل سبعٍ وعشرين سنةً من الآن تقدمتُ لأسرةٍ صالحةٍ أطلب يد ابنتهم؛ تمت النظرة الشرعية، وحصلت الموافقة من الطرفين. بعد أيامٍ من الخِطبة، وقبل إتمام عقد النكاح جدَّ جديد؛ خلافٌ في أمرٍ ما أدى إلى عدم إتمام الزواج. مضى فينا قدر الله، ولن يأخذ الإنسان إلا ما قُدِّر له؛ فلا لوم على أحدٍ، لا في ساعتها ولا الآن بعد كل هذه السنين من باب أولى. ومنذ افترقنا لم تزل صورة تلك الأسرة كما هي في نظري؛ أسرةٌ صالحةٌ، وذات سمعةٍ طيبةٍ، والظن في نظرتهم نحو أسرتي كذلك، والموضوع لم يأخذ برمته منذ بدأ وانتهى سوى أيامٍ قلائل، ولم يترك بفضل الله في النفوس شيئاً، وإن ترك فلأيامٍ فقط، لا يستدعي الموضوع أكثر من هذا، ثم مضى كلٌ إلى حال سبيله. رزقني الله غيرها، وهي رُزقت غيري، وتمضي السنون سراعاً، لا أعرف عن والدها وإخوتها شيئاً، وأظنهم كذلك نحوي، فقد أتى كلَ واحدٍ منا ما يُنسيه أمسه لكثرة بلايا الدنيا وهمومها فكيف لا ينسى أحدنا تفاصيل ما حدث، ولأكثر من عقدين من الزمان، كل ما عرفته أن الذي تزوجها أحد أحبتي الكرام، وحين صرتُ بعدها بسنواتٍ إماماً كان زوجها من رواد مسجدي في صلاة التراويح ويصطحب أهله معه، كل ذلك يؤكد صفاء النفوس، ولا ينصرف من المسجد كل ليلةٍ إلا بعد تبادل السلام والسؤال عن الحال؛ للعلاقة الكريمة القديمة بيننا.

قبل خمس سنواتٍ من الآن وكان قد مضى على خِطبتي تلك 23 سنة، وفي ليلةٍ ما، وفي صلاة عشاءٍ، وأنا في محرابي، وبعد إقامة الصلاة التفتُ للناس أقول: "استووا اعتدلوا"، انتبهتُ لرجلين في الصف الأول؛ العم والد الفتاة التي خطبتها قديماً، ومعه ولده بجانبه، والذي نحسبه من أهل القرآن وهو من أترابي. جاء في خاطري قبل أن أشرع في التكبير أنهما مجرد عابري سبيلٍ ليس أكثر، حين فرغتُ من الصلاة والتفتُ إلى المصلين في جلوسي، إذ بالعم يقوم مباشرةً يمشي نحوي يتكئ على عصاه بيده اليُسرى وعلى ولده بيده اليُمنى، يمشي الهوينا برفقٍ وتؤدة وعليه آثار الكِبَر والمرض، لم يُسعفني قرب مكانهما مني وسرعة الحدث لأن أهتدي بالتفكير عن سر مجيئهما،

غير أني قمتُ عَجِلاً لاستقبالهما وكلي ذهولٌ، وصل إليّ وهو يردد: "كيف حالك يا شيخ؟"، وأنا أقول: "الحمد لله، أهلاً بوالدي الغالي"، قبَّلتُ يده ورأسه وتعانقنا، أثناء السلام والسؤال عن الحال أسمعني ما أدمع عينيّ؛ نعم دمعت عينايّ، وما لها لا تدمع وهو يقول لي: "سامحني، قبل أن أموت؛ لا أريد أن ألقى الله وبيني وبين أحدٍ خصومة"، هكذا قال، وأنا على يقينٍ أنه لم يُخطئ في حقي وأن الخلاف الذي حصل لا يصل إلى درجة الخصومة التي تُلقي بحرجٍ على أصحابها يوم القيامة، فكان ردي عليه على وجه الحقيقة: "أبداً ما أخطأتَ في حقي، بل صرفكم الله عني، وأبدلكم خيراً مني"، فيرد عليّ على وجه التواضع: "بل صرفك الله عنا، وأبدلك خيراً منا، نحن لا نستحقك"، واسترسل في الثناء عليّ قاصداً تطييب خاطري، ظن صاحب القلب الطيب أن في نفسي شيئاً عليه، كان الحديث يدور بيننا، والدموع تتقاطر مني ومنه، وربما كان تقاطرها مني أكثر، وكنتُ كلما نظرتُ إلى وجهه ورأيتُ دموعه كررتُ تقبيل يده ورأسه؛ أُهدئ من روعه وأطمئن قلبه وأقول: "والله ما في النفس شيء"، ثم قال لي: "أنا الآن في عمري هذا أزور كل من بيني وبينه خصومةٌ، أبحث عنهم لأطلب منهم السماح؛ أريد أن ألقى الله وما بيني وبين أحدٍ خصومةٌ، سامحني لعلي أموت قريباً"، وأنا أرد عليه: "بل أنت سامحني". كل ذلك كان مؤثراً: أموت قريباً، ألقى الله، أستعد للرحيل، أطلب العفو، المسامحة. وهو في الثمانين يستشعر قرب الرحيل ولقاء الله يتكبد المشاق ليستقين من صفاء قلوب من اختلف معهم يوماً، وما كنتُ أظن أنه بعد كل تلك السنين يذكر اسمي أو يتذكر تلك الخِطبة، ولا كنتُ أظن أن يسأل عن مكاني ويتكلف المجيء لأجلي. وما تركنا بعضاً إلا وكأننا طيورٌ من خفة الروح وسعادتها.

عدتُ إلى بيت والدي بعدها مباشرةً، التقيتُ به وقلتُ له وأنا في سرورٍ بالغٍ: "أبي .. أتدري من صلي معي العشاء الليلة؟"، قال: "من؟"، قلتُ: "العم فلان"، تذكره الوالد تماماً، ثم قلتُ لوالدي: "جاء ليعتذر، وقصصتُ للوالد ما حصل بالتفصيل فما كان منه إلا أن وضع كفيه على وجهه وأُجهش في البكاء، وهذه من المواقف النادرة التي أذكرها لوالدي والتي لم يملك فيها دموعه، رحمه الله.

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ واقعيةٌ عن رجلٍ ورعٍ يتقى الله شعر بدنو أجله؛ فسعى إلى (رد المظالم) وطلب الصفح والمسامحة ليقف بين يدي الله سبحانه وتعالى خالياً من مظالم لم يردها.

 

وعند الحديث عن (رد المظالم) أتذكر على الفور ما رُوي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدحٌ {أي: سهم} يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مُستَنْتِلٌ {أي: مُتقدم} من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح، وقال: [استوِ يا سواد]، فقال: يا رسول الله! أوجعتَنِي، وقد بعثَكَ الله بالحق والعدل فأقدني {أي: مَكِّنِّي من القصاص لنفسي}، فكشفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: [استَقِدْ] {أي: اقْتَصَّ}، فاعتنقه سواد وانكبَّ عليه فقبَّل بطنه الشريفة؛ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: [ما حملك على هذا يا سواد؟] قال: يا رسول الله! حضر ما ترى {يقصد الجهاد} فأردتُ أن يكون آخرُ العهد بكَ أن يمسَّ جِلدي جِلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له: [استوِ يا سواد]، فلم يتردَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- في إعطاء سواد رضي الله عنه حقه في القصاص حين طالب به، مع أنه -صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن يقصِد إيذاءه وإيجاعه، ليَضرب بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً رائعاً للعدل والقود من النفس.

 

والمظالم جمع مظلمة، والتي هي كل فعلٍ جائرٍ يقوم به ظالمٌ تجاه طرفٍ آخر يكون هو المظلوم. سواءً كان هذا الفعل باغتصاب مالٍ أو إتلافه أو حبسه أو منع الانتفاع منه، أو تضييع حقٍ أو سلب اعتبارٍ، أو غير ذلك سواءً باشر ذلك أو تسبب فيه بحيث تسبب للمظلوم في خسارةٍ ماديةٍ أو معنويةٍ، ففعله هذا مظلمة، وللمظلوم المطالبة بحقه من الظالم. ويكون معنى (رد المظالم) هو أن على الظالم ردّ المظلمة إلى المظلوم؛ بإرجاع مالٍ مسلوبٍ أو حقٍ مغتصبٍ، أو تقديم تعويضٍ عنه، ورد الاعتبار والمكانة الاجتماعية في المظالم الأدبية، والعمل على إرضاء المظلوم بأي طريقةٍ تؤدي إلى الصفح عنه والتحلل من وزر الظلم.

 

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ فَقالَ له رَجُلٌ: وإنْ كانَ شيئًا يَسِيرًا يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه]، كما قال: [من ضَرب بسوطٍ ظلمًا، اقتُصَّ منه يومَ القيامةِ].

 

ولا يكاد يوجد من بيننا واحدٌ إلا وقد ظلم غيره، ظُلماً يسيراً أو كبيراً، فنحن خطأون كما وصفنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: [كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ]، وأول طريق التوبة هو (رد المظالم).

وأوضح العلماء لنا طريقة (رد المظالم) فقالوا: إن المظالم التي تكون بين العبد والعبد إما أن تكون معنويةً؛ كأن تكون بغيبةٍ أو نميمةٍ أو سُخريةٍ ونحو ذلك؛ فالخلاص منها يكون بالتحلل من صاحب المظلمة حال حياته إن علم بها، وأما إن لم يعلم فالأولى أن تتحلله تحللاً عاماً ولا تذكر له اغتيابك إياه لئلا تُغضبه، وعليك بالإكثار من الحسنات لتُكاثِر بها السيئات وتُسدد ببعضها ما عليك من الحق، وينبغي أن تُكثر من الدعاء للمسلمين الذين اغتبتهم والثناء عليهم بما علمته فيهم من الخير. وإما أن تكون المظالم ماديةً وهي المتعلقة بالمال كالغصب أو السرقة منهم مثلاً؛ وهذه لا بد من ردها إليهم أو طلب السماح والعفو منهم، ولا يُشترط إخبارهم بأنها سرقةٌ أو غصبٌ، بل المطلوب هو ردها إليهم بأي وجهٍ أو الاستحلال منهم؛ أي طلب المسامحة، إن كانوا أحياءً بردها إليهم، أو كانوا أمواتاً بردها إلى ورثتهم، فإن لم تستطع ذلك فعليك بالإكثار من الاستغفار والأعمال الصالحة والتصدق عنهم بقدر المظلمة.

 

أحبتي .. أختم بما ختم به راوي القصة؛ قال: أناسٌ من غير إساءةٍ تعتذر وتطلب المسامحة لرقة قلوبها واستشعارها قُرب لقاء الله عزَّ وجلَّ، وأناسٌ تظلم وتُسيء وتؤذي وتجرح ولا تعتذر ولا تتأسف ولا تطلب العفو بل لا تزال تمضي في ظلم العباد؛ قلوبٌ قاسيةٌ وعن حساب الله غافلةٌ. كم نسمع ونردد: "الدنيا ما تسوى شي" ثم تجدنا لأجلها تقاتلنا تقاطعنا تهاجرنا تدابرنا ظلمنا غيرنا واعتدينا. أيها الأحبة؛ اعتذروا وتسامحوا واعفوا، والله إن حساب الدنيا أهون من حساب الآخرة. هيئوا قلوبكم ليوم غدٍ ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

واستحضروا أحبتي معنى هذه الآية الكريمة؛ يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

كم منا يا ترى سوف يُغمض عينيه قليلاً الآن ليُحاسب نفسه ويتذكر من لديهم مظالم لديه، ثم يُبادر فوراً إلى ترتيب مسألة (رد المظالم)؟ يبدو أن العدد سيكون قليلاً، لكني أثق أنك أنت أحدهم بفضل الله ثم بهمتك وعزيمتك .. نعم أنت واحدٌ منهم .. واحدٌ من هؤلاء الذين يسعون إلى التخفيف من أوزارهم بغير كِبرٍ ودون تردد، ويحمدون الله أن أنعم عليهم بأن مكنهم من (رد المظالم) في حياتهم قبل أن يُحاسبوا عليها يوم الحساب.

اللهم طهِّرنا وطهِّر قلوبنا، اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا تجعل لمخلوقٍ مظلمةً عندنا أبداً ما أحيَيْتَنا يا رب العالمين.

https://bit.ly/3qXj5a1