الجمعة، 28 سبتمبر 2018

مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟


الجمعة 28 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٤
(مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)

أمضينا الأسبوع الماضي في مرسى مطروح، أجمل شواطئ مصر وأكثرها نظافةً وجمالاً. كنا نستعد لهذه الرحلة قبل شهور؛ أعددنا قائمةً بالأشياء الأساسية كلما توفر الوقت وضعنا شيئاً منها في حقائبنا، إلى أن اقترب موعد السفر، وانتهينا من وضع تلك الأشياء كلها في الحقائب، أضفنا أغراضاً أخرى قد نحتاجها؛ بدأت الرحلة إذن ونحن مستعدون لها استعداداً كاملاً.
غادرنا القاهرة نتطلع إلى الوصول لتلك المدينة الساحرة بفارغ الصبر. مَرَّ علينا الوقت بطيئاً متثاقلاً، ورغم إحساسنا بالتعب والملل فلم يكن يُصَبِّرنُا غير الأمل. عندما وصلنا ووقع نظرنا على بحر مرسى مطروح الذي ليس له مثيلٌ على طول الساحل الشمالي كله، لم يعد لإحساسنا بالتعب أو الملل وجودٌ؛ كأنما قد تبخر، وحل محله نشاطٌ دبَّ في أرواحنا قبل أجسادنا.

أحبتي في الله .. بعد وصولنا بيومين، وفي خطبة الجمعة إذا بالخطيب يذكر حديثاً شريفاً؛ حين سأل أعرابي الرسول: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟]، قَالَ: حُبُّ اللَّهِ ورسولِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ].
وإذا بي أتذكر كل ما سبق وأعددناه لرحلة المصيف، فتساءلت بيني وبين نفسي: وماذا أعددنا نحن للرحلة الأخرى، رحلة كل إنسانٍ إلى الدار الآخرة؟ هل استعددنا لهذه الرحلة كما نستعد لرحلاتنا في الحياة الدنيا؟ وهل استعداداتنا لها تتناسب مع كون هذه الرحلة تنقلنا إلى حياةٍ أبديةٍ دائمةٍ وليس إلى أيامٍ معدودات؟ هل جهزنا قائمة الأغراض الأساسية التي نصطحبها معنا في هذه الرحلة؟ وهل اهتمننا بالأغراض الأخرى الإضافية؟
نعلم لرحلات الدنيا مواعيد محددةً للمغادرة ثم العودة، أما الرحلة للدار الآخرة فموعد المغادرة غير معلومٍ لنا، ولا عودة منها، أفلا يكون هذا حافزاً إضافياً للاهتمام بالاستعداد لها؟ وإذا لم نستعد وأتى موعدها فماذا نحن فاعلون؟
عودةً إلى الحديث النبوي الشريف: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) كان سؤال الأعرابي عن الجنة. فليس لهذه الرحلة إلا وجهةٌ واحدةٌ هي الدار الأخرى، ولا مستقر للناس بعد الوصول إلا الجنة جعلنا الله من أصحابها، أو النار نعوذ بالله منها.
الجنة مكان الإقامة الدائم لمن استعد للرحلة فأحسن الاستعداد، أما النار فهي مكان الإقامة الدائم لمن لم يستعد للجنة بعملٍ يوجبها؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
فمن عرف الطريق إلى الجنة، وعمل لها، واستعد بالأساسيات التي هي الفرائض، وزاد في استعداده بالنوافل وأعمال الخير والبر وحُسن الأخلاق وطيب المعاملات؛ فأولئك يقول عنهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَعمَل مِنَ الصَّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمونَ نَقيرًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ يُرزَقونَ فيها بِغَيرِ حِسابٍ﴾.

يقول أهل العلم: تزودوا ليوم الميعاد، ولا تُلهكم دار الغرور والهوان، فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.
ومما يرقق القلوب التفكر في الموت وأحواله، وفي القبر وظلماته، فهلا تفكرنا يوماً ونحن نخرج من بيوتنا في الصباح أننا لن نرجع إليها مرةً ثانيةً؟ هل تفكرنا أن هذا اليوم هو آخر يومٍ لنا في الحياة؟ هل إذا أتانا ملك الموت في هذا اليوم هل نحن راضون عن أنفسنا؟ هل نحن راضون عن أعمالنا التي سنقابل بها الله؟ أم سنكون كالعبد الآبق يطلب الرجعة؟ نحن الآن في مهلةٍ فلنغتنمها؛ ما تزال أمامنا فسحةٌ وفرصةٌ للعمل قبل انقضاء الأجل؛ فلا ينفعنا أن نقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾.
الموت يأتي بغتةً ونحن لا نشعر؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ فهلَّا أصلحنا قلوبنا استعداداً للقاء الله؟ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. هلَّا طهرنا قلوبنا من الشرك والرياء؟! هلَّا طهرناه من الظنون الكاذبة والأماني الباطلة، ومن التعلق بغير الله، أو التوكل على غيره؟! هلَّا طهرناه من الخوف سوى من الله؟! هلَّا جردناه من كل محبةٍ سوى محبة الله؟! هلَّا طهرناه من أمراض الحقد والحسد والغل لإخواننا المسلمين؟!
فلنكن من أهل الإيمان الصادقين، الذين سلمت قلوبهم لله، وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، فنحب لهم ما نحب لأنفسنا، ونظن بهم الخير، ولا نظن بهم السوء، ولنكن من أهل القلوب السليمة، نقابل الإساءة بالإحسان، والخطيئة بالغفران، والغلظة بالرفق، والجهل بالحلم، والعبوس بالابتسامة، ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. ولنكن من أصحاب النفوس العالية الصابرة، الذين أراد الله لهم سعادة الدارين: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. صلاح القلوب هو أول عملٍ نستعد به لمفارقة هذه الدار، دار الهموم والغموم والأسقام، والرحيل إلى دار بقاءٍ بلا زوال، ودار نعيمٍ بلا هوان.
ثم علينا بالعمل؛ فلا نركن إلى الأمل بغير عملٍ صالحٍ يبلغنا جنات النعيم.
فلنُعِد ليوم الدين عدته، ولنتقي الله ونعمل صالحاً، فإن المولى عزَّ وجلَّ جعل الفوز لأهل التقوى؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾، وقال عز وجلّ: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾. ومن التقوى أن يستعد العبد ليوم القيامة والبعث والنشور والحساب، فالتقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، فلا يكن الاستعداد ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان؛ فالغفلة عن وقفة الحساب تقود أصحابها إلى الاستمرار في المخالفة، والتمادي في التفريط والإهمال، لا يذكرون مقامهم بين يدي الملك الديان؛ يقول سبحانه: ﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، في محكمة الله العادلة، التي لا يخاف المؤمن فيها ظلماً ولا هضماً؛ يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾؛ فلينظر كلٌ منا لحاله، ويسأل نفسه إذا أراد الجنة: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟). وليتذكر قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾.
آن للنائم أن يستيقظ من نومه، وحان للغافل أن ينتبه من غفلته، قبل أن تبدأ الرحلة إلى الدار الآخرة، فمالنا عن ذكر هذه الرحلة مشغولين؟ وعن الاستعداد لها متخاذلين؟ أوليس لمثل هذه الرحلة يعمل العاملون؟ ويستعد ذوو الألباب العاقلون؟ فلنعد الزاد، ونهجر العناد والفساد، ونتقي رب العباد؛ إن أيام العمر قليلةٌ، واللحظات محسوبةٌ، والأنفاس معدودةٌ، ولو أردنا الرجعة إلى هذه الدنيا، أو أن يمد الله في أعمارنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ فيا مضيع الصلوات، ما ظنك بربك إذا لقيته؟ كيف بك إذا حضر ملك الموت لقبض روحك وأنت لست من المصلين؟ لقد ذم الله قوماً فقال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾. وبعد الصلاة، يكون الحساب عن باقي الأعمال؛ فالصلاة عماد الدين إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدت رُد ما سواها. فلنحذر ونستعد ولا نغتر ونتعلق بالأماني دون العمل؛ قال تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾.

أحبتي .. (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) استراتيجيةٌ نبويةٌ وسُنةٌ شريفةٌ من تمسك بها نجا. من أدرك منا هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فأحسن العمل؛ فلا جزاء لعمله إلا الجنة، جعلنا الله من أصحابها، وأما من تغافل عنها أو أدركها ولم يعمل بها، أو أساء العمل واختار لنفسه طريق الشهوات والهوى وتعلق بحبال الأمل؛ فلا يلومن إلا نفسه وقت لا ينفع الندم، عندما يجد نفسه وقد انتهت به الرحلة التي لا عودة منها إلى النار، أعاذنا الله منها.
كلنا مقصرون، وباب التوبة مفتوحٌ دائماً قبل أن يحضرنا الموت، وما أروع البشرى للذين أسرفوا على أنفسهم في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ قال: [إنما الأعمال بالخواتيم]؛ فلنختم أعمالنا وأعمارنا بالعودة إلى الله والتوبة عن كل المعاصي؛ فلا يعرف أيٌ منا موعد رحلته التي لا مناص منها ولا عودة.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/bzGxK4