الجمعة، 5 يونيو 2020

قصر في الجنة

الجمعة 5 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٢

(قصر في الجنة)

 

روى أحد علماء وفقهاء مدينة حماة السورية، رحمه الله، حكايةً غريبةً حدثت معه؛ يقول: خرجتُ في جمعٍ من حجاج بيت الله الحرام، وبعد إتمام مناسك الحج في مكة المكرمة توجهنا إلى المدينة المنورة، وصلنا قُبيل أذان العشاء، دخلنا المسجد النبوي الشريف، وبعد صلاة العشاء، والصلاة في الروضة الشريفة، ثمَّ الوقوف أمام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه والدعاء، ذهبنا إلى مكانٍ من المسجد لنرتاح ونستعد لصلاة الفجر. أخذني النوم، واستيقظتُ قُبيل الفجر على رؤيا في منامي هَزَّت كياني؛ فأخذتُ أُكثر من الصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. رأيتُ في منامي هذا رسول الله صلوات الله عليه، وهو يقول لي: "يا شيخ محمد، حين تصل مدينتك حماة بالسلامة إن شاء الله تعالى، فأتِ أولاً بيت فلان الإسكافي -وذكر اسمه- وقُل له: إن رسول الله يبشرك أنَّ الله تعالى قد قَبِل حِجَك وحج زوجتك، وقد بنى لكما قصراً في الجنة بجواري"، فجلستُ أفكر في الرجل الذي ذكر لي اسمه رسول الله صلوات الله عليه، وتذكرتُ أنه كان يريد الحج هو وزوجته، ولكنهما تخلفا لأمرٍ ما لا أعرفه، وقضيتُ يومي وأنا أُكثر من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إني نمتُ ليلتي ورأيتُ نفس الرؤيا وسمعتُ رسول الله صلوات الله عليه يقول لي نفس الكلام، واستيقظتُ فَرِحاً برؤية رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكني أخذتُ أفكر بالرجل وكيف قبل الله تعالى حجه، رغم أنه لم يحج! في الليلة الثالثة رأيتُ نفس المنام، وسمعتُ ذات الكلام من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ثلاث ليالٍ متتالياتٍ والرؤيا واحدةٌ، والوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ذاتها، فما كان مني رغبةٌ إلا أن أؤدي مناسكي، وأُسرع في العودة إلى حماة لأداء وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ البشرى إلى الإسكافي وزوجته، وبالفعل هذا ما كان. تم إخبار القافلة بيوم العودة إلى دمشق، وأخبر الجميع أهلهم، وخرج أهلنا في مدينة حماة في اليوم المحدد لملاقاة واستقبال أحبابهم من حجاج بيت الله الحرام، كما خرج أهلي وإخواني كذلك، ولكني تنفيذاً لوصية رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحتى يكون أول ما أفعله حين وصولي إلى حماة أن ألتقي بمن أمرني بلقائه وأُبشِّره بما قاله لي رسول الله صلوات الله عليه؛ لذلك انفردتُ عن القافلة، واستأجرتُ سيارةً خاصةً إلى حماة، وحين بلغتُ ضواحي المدينة رأيتُ الناس على مشارفها ينتظرون الحجاج، ورأيتُ من بينهم أهلي وخلاني، غير أني لم أتوقف ولم يلحظني أحد. أتيتُ بيت الرجل الذي أمرني رسول الله صلوات الله عليه بلقائه -وأنا أعرفه وأعرف منزله- وقرعتُ بابه؛ فنوديت من داخل البيت: "مَنْ؟"، قلتُ: "أخوكم الشيخ محمد الحامد"، فسمعتُ من يقول: "الشيخ محمد الحامد؟! أفي هذا الوقت والناس بانتظاره على مدخل البلد؟! سبحان الله"، قالها الرجل متعجباً وفتح الباب ورحب بي، وأدخلني بيته متعجباً من زيارتي في مثل هذا الوقت، فلما جلسنا نظرتُ إليه قائلاً: "إن لك بشارةً من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكني لن أذكرها حتى تقول لي ما الذي منعك من الحج هذا العام وقد كنتَ هيأتَ نفسك وزوجتك وأعددتما العدة للحج؟!"، أطرق رأسه هنيهةً ينظر إلى الأرض، ثم نظر إليَّ وتأوَّه وقال: "بالفعل كنتُ قد جمعتُ على مدى سنواتٍ عديدةٍ الليرة فوق الليرة حتى أتهيأ وزوجتي لأداء مناسك الحج، وحين اكتمل المبلغ بادرتُ وزوجتي لتسجيل اسمينا مع قافلة حجاج بيت الله الحرام لهذا العام، لكن ما منعني أن امرأتي ذات ليلةٍ أرادت فتح باب الدار لترمي نفايات البيت في حاوية البلدية فلمحت من شِق الباب امرأةً ملتحفةً بغطائها الأسود منكبةً على الأرض تجمع من حولها قشور البطيخ، فلما شعرت بأحدٍ يأتي خبأت ما جمعته تحت ملحفتها وأسرعت الخطا إلى بيتها؛ فتبعتها زوجتي بنظرها من شق الباب، فإذا هي جارتنا الأرملة التي سكنت منذ عامٍ في البيت الملاصق لبيتنا"، وتابع قائلاً: "تعجبت زوجتي من تصرف جارتنا، وبدافع الفضول صعدت زوجتي سطح دارنا لتنظر ماذا ستفعل جارتنا بقشر البطيخ، فقد ظنت أن لديهم غنمةً أو معزةً، فلما صعدت سطح الدار ونظرت إلى دار جارتنا، كانت المفاجأة الكبرى، رأت جارتنا -التي تُوفيَ زوجها منذ أكثر من سنة- وقد أخذت تقطع قشور البطيخ قطعاً صغيرةً، ثم جاءت بخبزٍ يابسٍ ففتته على القشور المقطعة، وخلطتهم بقليلٍ من الماء، وأيقظت صغارها -وأكبرهم في الثامنة من عمره- وأخذت تطعمهم مما جمعته، وتأكل معهم كأنها تُغريهم ليأكلوا"، يقول الإسكافي مخاطباً الشيخ: "وأنا كعادتي، كنتُ قد خرجتُ للصلاة في المسجد، ولما رجعتُ رأيتُ زوجتي تُجهش بالبكاء حتى ظننتُ أنها قد وقعت وتأذت فسألتها مصدوماً: خيراً ماذا أصابك؟ فازدادت في البكاء، ولما ألححتُ عليها مستفهماً حكت لي ما رأت من سوء معيشة جارتنا، فلم أتمالك نفسي؛ فبكيتُ مثلها وربما أكثر"، يقول الشيخ رحمه الله تعالى: "رأيتُ الإسكافي يُنهي قصته ودموع عينيه تجري على خديه؛ فتأثرتُ مثله وبكيتُ قائلاً: كم نحن مقصرون بحق إخوتنا؟!"، يتابع الإسكافي سرد قصته مع الأرملة محدثاً الشيخ قائلاً: "اتفقتُ أنا وزوجتي أن نعطي المبلغ الذي جمعناه لحجنا للأرملة المسكينة، سائلين الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا؛ فوضعنا المبلغ في كيسٍ صغيرٍ، وقرعتُ باب المسكينة وأيتامها الصغار، فلما سمعتُ صوت أقدامٍ من الداخل رميتُ الكيس من فوق باب بيتهم وابتعدت سريعاً. هذه هي حكايتي يا شيخ محمد، وسبحان من لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ونسأل الله تعالى القبول". بكى الشيخ ثم قال للإسكافي: "ببركة إحسانك لليتامى رأيتُ رسول الله صلوات الله عليه يبشرك أنَّ الله قد قبل حجك وحج زوجتك، وبنى لكما قصراً في الجنة بجواره صلى الله عليه وسلم"، بكى الإسكافي فرحاً، وسجد لله تعالى شكراً، وصلى على رسول الله عليه الصلاة والسلام. لِمَ لا؟ و(قصر في الجنة) في انتظاره هو وزوجته، ومجاورةٌ للحبيب المصطفى في الجنة لم يكن يحلم بها أو يتخيل إمكانية حدوثها.

 

أحبتي في الله .. إذا كانت هناك مصلحةٌ مؤكدةٌ للإسكافي وزوجته في أداء شعائر الحج، فقد كانت هناك في المقابل مفاسدُ مؤكدةٌ نتيجة احتياج هذه الأرملة وأطفالها إلى ما يقيم أودهم ويبعد عنهم شبح الموت جوعاً، الأمر الذي ذكرني بقاعدةٍ شرعيةٍ للمفاضلة بين جلب المصالح ودرء المفاسد، إذ استقر رأي الفقهاء على قاعدة: «درءُ المفاسِدِ مُقدَّمٌ على جَلبِ المصالِح»؛ فإذا حدث تعارضٌ بين المفاسد والمصالح، وكانتا في منزلةٍ ورُتبةٍ واحدةٍ، يُقدَّم درء المفاسد على الاعتناء بالمصالح، ومن باب أولى إنْ كانت المفسَدةُ أعظمَ من المصلَحةِ، درَأنا المفسَدةَ، ولا نُبالي بفَواتِ المصلَحة.

 

وذكرتني تلك الحكاية بموقفٍ حدث وقت استعداد المسلمين وتجهيزهم لغزوة تبوك، ونزل فيه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾، حيث تحدثنا الآية الكريمة عن هؤلاء النفر الذين أخلصوا نيَّاتِهم لله، وأرادوا أن يشاركوا في الغزوة، وأتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم -قلوبُهم تخفقُ شوقاً للقتال في سبيل الله- لكن النبي لم يجدِ ما يحمِلُهم عليه فعادوا إلى بيوتهم حَزَانَىٰ عيونهم دامعة. لم يشاركوا في الغزوة لعذرٍ خارجٍ عن إرادتهم، ورغم ذلك فقد حصَّلوا ثواب نيتِهم، وأعطاهم الله عزَّ وجلَّ من الأجر ما أعطى لإخوانهم الذين قاتلوا في سبيله، وربما كتب الله أن يكون لكلٍ منهم (قصر في الجنة).

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من سألَ الله الشهادةَ بصدقٍ، بلَّغَه الله منازلَ الشهداءِ، وإن ماتَ على فراشِه]، وقال صلى الله عليه وسلم -وكان في غَزَاة-: [إن أقوامًا بالمدينة خلفَنا، ما سلَكنا شِعْبًا ولا واديًا إلا وهُم معنا فيه، حبسَهم العذرُ]، وفي روايةٍ: [إن بالمدينة أقوامًا ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم]، قالوا: يا رسول الله، وهُم بالمدينةِ؟ قال: [وهُم بالمدينة، حبسَهم العذر].

هذا فيما يتعلق بالجهاد والقتال في سبيل الله، أما على وجه العموم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ الله كتبَ الحسناتِ والسَّيئاتِ، ثم بيَّنَ ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله عزَّ وجلَّ عنده عشرَ حسناتٍ إلى سبعِ مائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإنْ همَّ بسيئةٍ فلم يعملْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله سيئةً واحدةً]. يقول أهل العلم إنَّ المراد بالهَمِّ هنا العزمُ المصمِم الذي يوجدُ معه الحرصُ على العملِ، لا مجرَّدِ الخَطرة التي تخطرُ، ثم تنفسِخ من غيرِ عزمٍ ولا تصميمٍ؛ فالله عزَّ وجلَّ يكتبُ لعبدِه المؤمنِ الأجرَ على ما همَّ به من الخيرِ وإن لم يعملْه، وهذا إن كان قد نوى فِعلَه، لكن حالَ بينه وبين ذلك حائلٌ لم يستطعِ معه فعل هذا العمل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا مرِضَ العبدُ، أو سافرَ، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمَلُ مقيمًا صحيحاً]. وقال صلى الله عليه وسلم: [من أتى فراشَه وهو ينوي أن يقومَ يُصلِّي من الليلِ، فغلبته عيناه حتى أصبح، كُتِب له ما نوى، وكان نومُه صدقةً عليه من ربِّه عزَّ وجلَّ].

يقول العلماء إن الله سبحانه وتعالى يُعطِي الأجرَ كاملًا لمن كانت نيَّتُه صادقةً لعملِ شيءٍ من الطاعاتِ، لكن عرَض له عارضٌ منعه من هذا العملِ، كذلك من كان يعتَادُ عملًا إذا فاته لعذرٍ، فذلك لا يُنقِصُ من أجرِه.

 

هذا كرم الله سبحانه وتعالى مع مَن كان ينوي عمل الخير وحبسه حابسٌ أو حال حائلٌ أو عذرٌ دون إتمام العمل، فما بالنا بمن همَّ وعزم وأخلص النية لأداء فرضٍ من فروض الدين أو عبادةٍ من العبادات كالحج أو العُمرة، وأخذ بكل الأسباب اللازمة، ثم رأى أن هناك من أعمال الخير ما هو أولى، ولا يحتمل التأخير، فوَّجَه جهده ووقته وماله وعمله إليه يريد وجه الله، فكيف يكون كرم الله معه؟ إنه لا يكتب له ثواب أداء العبادة التي لم يؤدها فقط، بل ويضاعف له من الأجر والثواب ما لا يكون له لو أنه أداها؛ إنه كرم المولى عزَّ وجلَّ، وهل أفضل من (قصر في الجنة) ومجاورة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها؟

 

أحبتي .. عودةً إلى حكاية الإسكافي، أنهى راوي الحكاية ما كتب بالآية الكريمة: ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾، وقال: "اليوم ما أكثر أمثال تلك الأرملة وأيتامها، يراهم الجميع أمام أعينهم، فكم من فقيرٍ ومحتاجٍ يجمعون طعامهم لسد رمق صغارهم الجياع، وكم من يتيمٍ مقهورٍ، ومريضٍ يشكو، ومحتاجٍ يعف عن المسألة؟ فمَنْ لمثل هؤلاء؟ ما هي إلا تذكرةٌ في زمنٍ لا يخفى حاله على الجميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وختم بالآية الكريمة: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

وعن نفسي أخص الذين أخلصوا النية وصدقوا العزم على أداء فريضة الحج هذا العام، وممن جهزوا أنفسهم لأداء العُمرة، ولن يتمكنوا من ذلك بسبب الظروف الحالية، أقول لهم: بدلاً من الطواف ببيت الله الحرام طوفوا على بيوت الفقراء من حولكم، أعينوهم وسدوا حاجاتهم، ابدأوا بالأقارب ثم الجيران، ثم غيرهم، يتقبل الله منكم حجكم وعمرتكم، ويثيبكم على صدقاتكم وأعمالكم. وبدلاً من زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام اعملوا بسُنته في إطعام المساكين، وسد ديون الغارمين، وعلاج الفقراء، والإحسان إلى عابري السبيل، ومساعدة طلبة العلم، ومد يد العون إلى الأرامل والأيتام والمساكين.

وأُذَكِّر نفسي وإياكم بأن المال مال الله، وأننا مستخلفون فيه، مؤتمنون عليه، مسئولون عنه، وما نتصدق به لا يضيع بل هو ما يبقى، مصداقاً لقول رسولنا الكريم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبدٍ مِن صَدَقَةٍ].

اللهم قِنا شُح أنفسنا، ويسِّر لنا أعمال الخير، ولا تحرمنا من (قصر في الجنة) نجاور فيه نبينا الكريم. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/373ebMV