الجمعة، 24 سبتمبر 2021

يُمهل ولا يُهمل

 

خاطرة الجمعة /310


الجمعة 24 سبتمبر 2021م

(يُمهل ولا يُهمل)

 

كتبت تقول: أنا زوجةٌ وأمٌ لابنٍ وبنت، ومنذ أن بدأتُ حياتي مع زوجي ونحن نعيش حياةً رغدة، وقد استعنتُ طوال حياتي الزوجية على تربية أولادي بمربياتٍ عديدات، وكانت كل واحدةٍ منهن لا تمكث عندي أكثر من شهرين ثم تفر من قسوة زوجي العدواني بطبعه، فقد كان يتفنن في تعذيب أية مربيةٍ تعمل عندنا، ولا أنكر أنني شاركته في بعض الأحيان جريمته. ولما صارت ابنتي في السابعة من عمرها وابني في المرحلة الإعدادية، جاءنا مزارعٌ من معارف زوجي يصطحب معه ابنته الطفلة ذات الأعوام السبعة قال المزارع البسيط إنه أتى بابنته لتعمل عندنا مقابل عشرين جنيهاً في الشهر، فوافقنا. وترك المزارع طفلته فانخرطت في البكاء وهي تُمسك بجلباب أبيها، وانصرف الرجل دامع العينين. بدأت الطفلة حياتها الجديدة معنا، فكانت تستيقظ في الصباح الباكر لتساعدني في إعداد الطعام لطفلي، ثم تحمل الحقائب المدرسية وتنزل بها إلى الشارع وتظل واقفةً مع ابنتي وابني حتى تحملهما حافلة المدرسة، وتعود إلى الشقة فتتناول إفطارها، وكان غالباً من فولٍ بدون زيت، وخبزٍ على وشك التعفن، ثم تبدأ في ممارسة أعمال البيت من تنظيفٍ ومسحٍ وشراء الخضر وتلبية النداءات والطلبات حتى منتصف الليل؛ فتسقط على الأرض كالقتيلة وتستغرق في النوم، وعند أية هفوةٍ أو نسيانٍ أو تأجيل أداء عملٍ مطلوبٍ ينهال عليها زوجي ضرباً بقسوةٍ شديدة، فتتحمل الضرب باكيةً صابرة، ورغم ذلك فقد كانت في منتهى الأمانة والنظافة والإخلاص لمخدوميها، تفرح بأبسط الأشياء. ورغم اعترافي بأني كنتُ شريكةً لزوجي في قسوته على الخادمات وتفننه في تعذيبهن، إلاَّ أنه كانت تأخذني الشفقة في بعض الأحيان بهذه الفتاة، لطيبتها وانكسارها فأناشد زوجي ألاَّ يضربها، فكان يقول لي: "إنَّ هذا الصنف من الناس لا تجدي معه المعاملة الطيبة". واستمرت الفتاة تتحمل العذاب في صمتٍ وصبر، وحتى حين يأتي العيد ويخرج طفلاي مبتهجين تبقى هذه الطفلة المسكينة تنظف وتغسل دون شفقة. أما أبوها فلم نره إلاَّ مراتٍ معدودة عندما يأتي لأخذ الأجرة. وأنا أبكي الآن كلما تذكرت قسوة عقابنا لها إذا أخطأت أي خطأٍ، فقد كان زوجي يصعقها بسلك الكهرباء!! وكثيراً ما حرمناها من وجبة عشاءٍ في ليالي البرد القاسية فباتت على الطوى جائعة، ولا أتذكر أنها نامت ليلةً، عدة سنواتٍ طويلةٍ، دون أن تبكي!!

وحين قاربتْ الفتاة سن الشباب خرجتْ ذات يومٍ لشراء الخضروات ولم تعد، فسأل زوجي البواب عنها وعرف أنها كانت تتحدث لفتراتٍ طويلةٍ مع شابٍ يعمل لدى جزارٍ بنفس الشارع، وأنه من المحتمل أن تكون قد اتفقت معه على الزواج حتى ينتشلها من هذه الحياة القاسية. ولكن لم يمضِ أسبوعٌ حتى كان نفوذ زوجي قد تكفل بإحضارها من مخبئها، واستقبلناها عند عودتها استقبالاً حافلاً بكل أنواع العذاب، فقام زوجي بصعقها بالكهرباء وتطوع ابني بركلها بعنف، إلاَّ ابنتي فإنها كانت تتألم بما يُفعل بهذه الخادمة المسكينة. وعادت المسكينة لحياتها الشقية معنا واستسلمتْ لمصيرها، فإذا أخطأتْ أو أجلتْ عملاً لبعض الوقت يضربها زوجي ضرباً مبرحاً، وكنا نستمتع ونخرج في الإجازات ونترك لها بقايا طعام الأسبوع، ثم شيئاً فشيئاً بدأنا نلاحظ عليها أن الأكواب والأطباق تسقط من يديها وأنها تتعثر كثيراً في مشيتها، فعرضناها على الطبيب فأكد لنا أن نظرها قد ضعف جداً وأنها لا ترى حالياً ما تحت قدميها أي أنها أصبحتْ شبه كفيفةٍ، ورغم ذلك لم نرحمها وظلت تقوم بكل أعمال البيت وتخرج لشراء الخضر من السوق، وكثيراً ما صفعتها إذا عادت من السوق بخضرواتٍ ليست طازجة، فأشفقتْ عليها زوجة البواب فكانت تشتري الخضروات لها حتى تنقذها من الإهانة والضرب. واستمر الحال هكذا لفترةٍ من الزمن، ثم خرجت الفتاة ذات يومٍ من البيت بعد أن أصبحت كفيفةً تقريباً ولم تعد مرةً أخرى، ولم نهتم بالبحث عنها هذه المرة. ومضت السنوات فأُحيل زوجي للتقاعد وفقد المنصب والنفوذ. وتخرَّج ابني من الجامعة وعمل وتزوج وسعدنا بزواجه، اكتملت سعادتنا حين عرفنا أن زوجته حامل، وبعد مرور شهور الحمل وضعتْ مولودها، فإذا بنا نكتشف أنه كفيفٌ لا يبصر، وكانت صدمةً قاسيةً علينا، وتحولت الفرحة إلى حزن، وعرضناه على الأطباء ولكن بلا فائدة. واستسلم ابني وزوجته للأمر الواقع، وأدخلنا حفيدنا حضانةً للمكفوفين، وقررتْ زوجة ابني ألاَّ تحمل خوفاً من تكرار الكارثة، ولكن الأطباء طمأنوها وشجعوها على الحمل وشجعناها نحن أيضاً، وحملت وأنجبت طفلةً جميلةً، وزف الطبيب إلينا البشرى بأنها ترى وتُبصر كالأطفال، وسعدنا بها سعادةً مضاعفةً، وبعد سبعة شهورٍ لاحظنا عليها أن نظرها مُركزٌ في اتجاهٍ واحدٍ لا تحيد عنه، فعرضناها على أخصائي عيون، فإذا به يصدمنا بحقيقةٍ أشد هولاً وهي أنها لا ترى إلاَّ مجرد بصيصٍ من الضوء وأنها معرضةٌ أيضاً لفقد بصرها، فأصيب زوجي بحالةٍ نفسيةٍ فسدت معها أيامه وكره كل شيءٍ، ونصحنا الأطباء بإدخاله مصحةً نفسيةً لعلاجه من الاكتئاب.

وانقبض قلبي وتذكرتُ فجأةً الكسيرة التي هربت من جحيمنا كفيفةً بعد أن أمضت معنا عشر سنواتٍ ذاقت خلالها أهوال الصعق بالكهرباء والضرب والهوان والحرمان، وساءت نفسي من الجزع، هل هذا عقاب السماء لنا على ما فعلناه بها؟! وأصبحتْ صورة هذه الفتاة اليتيمة التي أهملنا علاجها وتسببنا في كف بصرها تُطاردني في وحدتي، وتعلَّق أملي في عفو ربي عما جنينا في أن أجد هذه الفتاة وأُكفِّر عما فعلناه بها. وبعد البحث والسؤال عنها علمنا أنها تعمل خادمةً بأحد المساجد، فذهبتُ إليها وأحضرتها لتعيش معي ما بقي لي من أيامي، ورغم قسوة الذكريات، فقد فرحتْ بسؤالي عنها وسعيي إليها لإعادتها، وحفظتْ العشرة التي لم نحفظها، وعادت معي تتحسس الطريق وأنا أمسك بيدها، استقرت الفتاة معنا وأصبحتُ أرعاها بل وأخدمها هي وحفيدي الكفيفين وأملي ودعائي لربي أن يغفر لي ما كان.

قالت صاحبة القصة ختاماً لروايتها: "أقول لمن انعدمت الرحمة في قلوبهم: إن الله حيٌ لا ينام؛ فلا تقسوا على أحدٍ، فسوف يجيء يومٌ تندمون فيه على ما فعلتم وقت قوتكم وجبروتكم".

 

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم إن من السنن الإلهية أن الظلم مهما طال أمده واشتد، فإن فجر ونور العدل والنصر يأتي ولو بعد حينٍ؛ فالله سبحانه وتعالى العدل الحكم (يُمهل ولا يُهمل)، ونهاية الظالمين أليمةٌ يراها المظلوم في الدنيا قبل يوم الحساب، فسبحان الذي يقصم ظهور الظالمين ويُشدد العقوبة عليهم؛ وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: {اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا غَيْرِي}، والله تعالى يغضب في حق خلقه بما لا يغضب في حق نفسه فينتقم لعباده بما لا ينتقم لنفسه؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾. إن رب العالمين لا يُهمل أحداً، ولا يحنث في وعده، ولا يتخلى عن المظلومين أياً كانت ملتهم، فهذه سنته في خلقه، وقانونه بين البشر، إنَّ أمْره إذا جاء لا يرده أحد، ولا يقوى على منعه بشر، ولا يتأخر عقابه ممن ظَلم، وثأره ممن بغى وتجبر.

ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يُمهل الظالم لكنه لا يُهمل، ولا ينسى ولا يدع، يتركه في غيه سادراً لا يعي ولا يتدبر، يصبر عليه ويتركه، ويحلم في التعامل معه ولا يعاجله، لكن إذا جاء الوعد وحان الحين، فإن أخذ الله أليمٌ شديدٌ، فهل من متعظٍ أو مدّكر؟

والله بحكمته البالغة يُمهل الظالم ليعتبر به من في الأرض ويعرفون أنّ له قصاصاً دنيوياً بجانب قصاص الآخرة. قد يغتر الظالم بظلمه شهوراً وسنواتٍ، فيظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له فيتمادى الظالم في غيه وجبروته وينسى أن الله (يُمهل ولا يُهمل)، وأنه سبحانه وتعالى يصبر على الظالمين رغم ظلمهم، ورغم كيدهم وطغيانهم، يُمهلهم ويُملي لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

إن الله يمهل الظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه لم يفلته: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والآخرة، وسيُعرض الخلائق كلهم عليه، فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور فلا يعذب أحداً بغير ذنب: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.

إنّ من لطف الله بعبده الظالم، أن يُمهله لعله يتوب، ويؤخره لعله يُقلع، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإذا استمر في ظلمه وتمادى فيه فربما أخَّره، ليزداد في الإثم، استدراجاً من الله المنتقم الجبار؛ يقول تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]. ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

وحتى نتصور هذا الألم وهذه الشدة دعونا نتفكر في قول الله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾، تُوصف هذه الآية بأنها "أبلغُ ما يُتصور في النّهي عن الظلم والتهديدِ عليه"؛ فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه إذا كان حال الميل إلى من وُجد منه ظلمٌ يُفضي إلى مساس النّار، فما الظنّ بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ثم ما الظن إذن بالظالمين أنفسهم، كيف سيكون عقابهم؟ إنّ في قوله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ نهيٌّ عن مجرد الركون، أي إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم بما هُم عليه من الظلم. قال المفسرون عن الركون إنه أفعالٌ بالقلب وأفعالٌ بالجوارح، أمّا أفعال القلب فمنها: الميل والمحبة والرضا، وأما أفعال الجوارح فمنها: السكون، والاشتراك بتزيين الظلم، والمداهنة للظالمين من زيارةٍ ومصاحبةٍ ومجالسةٍ والحديث عنهم بالفضل، والاعتماد عليهم. والمراد بالذين ظلموا هم مرتكبو الظلم فعلاً الذين جعل الله عقوبتهم معجلةً في الدنيا قبل الآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ما مِن ذنبٍ أجدَرَ أنْ يُعجِّلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ في الدُّنيا مع ما يدَّخِرُ له في الآخرةِ مِن البغيِ وقطيعةِ الرَّحمِ]، وعلى الباغي تدور الدوائر فيبوء بالخزي، ويتجرع مرارة الذل.

 

وقال الشاعر حاثاً على عدم الظلم:

لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مرتعهُ يُفضي إلى الندمِ

تنامُ عينُك والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ الله لم تنمِ

 

أحبتي .. عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللهِ تَبَاركَ وتعالى أنَّهُ قَالَ: {يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا ... يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ}. وقال عليه الصلاة والسلام: [... وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ]، وقال كذلك: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]، فليتقِ كلٌ منا الله ويتوقف فوراً عن ظلم أي إنسانٍ؛ فالظلم ظلماتٌ، عواقبه وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، والله سبحانه وتعالى (يُمهل ولا يُهمل). أفلا يفيق الغافلون قبل فوات الأوان؟ ألا يعتبر الظالمون قبل نزول العقاب الإلهي؟

اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غِرة، ولا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يركنون إلى الظالمين ولا حتى بقلوبهم، ولا من الغافلين.

 

https://bit.ly/3lSo8ol