الجمعة، 15 أبريل 2022

أمانة الكلمة

 

خاطرة الجمعة /339


الجمعة 15 إبريل 2022م

(أمانة الكلمة)

 

يقول راوي القصة: بعد خروجي في اليوم الأول من البرنامج التدريبي بتلك المؤسسة التي كنتُ سأقدم لها هذا البرنامج مدة ثلاثة أيامٍ متواصلةٍ، وكانت المؤسسة بجانب مبنى المحكمة، الساعة تُشير إلى الواحدة والربع ظهراً، الوقت صيفاً، درجة الحرارة من بين 40 -45 مئوية، فجأة سيارةٌ خارجةٌ من مبنى المحكمة بها شابان دخلتْ الشارع الرئيسي بطريقةٍ غريبةٍ؛ دون توقفٍ أو تريثٍ أو النظر للشارع لمعرفة هل هو خالٍ من السيارات؟! وكأنما تسوقهما سيارتهما إلى الموت! شاحنةٌ مقبلةٌ من الاتجاه الآخر ترتطم بسيارة الشابين؛ فتسحبها مسافة 600 متراً من قوة الصدمة، ثم تستقر بين أنياب الشاحنة ومخالب عمودٍ للكهرباء، فتحترق على الفور!

أوقفتُ سيارتي على حافة الطريق، وهُرعتُ كما هُرع جمعٌ من السائقين الذين كانوا في تلك اللحظة قريبين من الحادث. السيارة تلتهمها النيران. الشابان يصرخان. يستغيثان. سيارتهما ناشبةٌ في أظفار عمود الكهرباء، وبين فكي الشاحنة. محاولات الإنقاذ كلها كانت دون جدوى، الكل لا حول له ولا قوة. درجة الحرارة عاليةٌ، والسيارة بين قبضتي وحشين كاسرين، وكأنها فريسةٌ تنعي حتفها! والنيران سريعة الاشتعال. وأنا في هول الموقف اخترق أذني صوتٌ من خلفي: "أليس هذان الشابان اللذان أقسما يميناً قبل قليلٍ في المحكمة؟!" ردّ عليه أحدهم: "نعم، إنهما هما". النار التهمت الشابين مع سيارتهما. لا حول ولا قوة إلا بالله. في المساء التقيتُ بأحد المنظمين للبرنامج التدريبي، على موعدٍ مسبقٍ للعشاء معه، قال لي: "عندما خرجتَ اليوم بعد البرنامج وقع حادثٌ شنيعٌ لشابين بجانب مؤسستنا"، قلتُ له: "نعم رأيته، فعلاً كان مؤلماً وشنيعاً؛ لقد تفحما في سيارتهما، وهما يستغيثان، والناس من حولهما ينظرون لا يستطيعون لهما حيلةً ولا هُم ينصرون"، قال لي: "للأسف كانا قبلها في المحكمة!"، قلتُ له: "نعم سمعتُ أحدهم يقول هذا"، قال: "لقد شهدا زوراً في قضية تملك أرضٍ لصالح رجلٍ له نفوذٌ ضد رجلٍ فقير!". لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال لي: "تصور

يُخبرني ابن عمي -الذي يعمل في المحكمة- أنه بعد نُطق القاضي بالحكم لصالح الرجل صاحب النفوذ -بعد أن سمع شهادة الشابين- نظر الرجل الفقير إلى الشابين قائلاً: "الله ينتقم منكما، وتذوقان نار الدنيا قبل نار الآخرة، كما أشعلتما قلبي ناراً على ضياع حقي". وسبحان الله، ما كان بين الدعوة والاستجابة إلا دقائق معدودة!

يا الله، صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: [اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حجابٌ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم: الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ]. وصدق الشاعر إذ يقول:

تنامُ عيناكَ والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ

 

أحبتي في الله .. تنتهي قصتنا بالحديث عن دعوة المظلوم، لكن لو أنّا رجعنا خطوةً واحدةً إلى وراء ما حدث من ظلمٍ لوجدنا أنه ما كان ليقع لولا شهادة الزور في المحكمة. وشهادة الزور هي حالةٌ خاصةٌ من قول الزور الذي يتناقض مع (أمانة الكلمة) التي يجب على المؤمن الالتزام بها.

ويقول أهل العلم إنّ قول الزور هو قول الكذب، وهو القول المجافي للحقيقة، أي الإخبار بالشيء بخلاف حقيقته على وجه العلم والعمد لتحقيق هدفٍ ماديٍ أو اجتماعيٍ أو نفسيٍ أو غيره، وهو من أبشع وأشنع الذنوب عند الله. وقول الزور اصطلاحٌ عامٌ يشمل الشهادة وغير الشهادة، بينما تختص شهادة الزور بالقضاء وغيره من المجالات التي تتطلب الإدلاء بشهادة، وهي أن يشهد المرء بما لا يعلم أو بخلاف الحقيقة التي يعلمها عالماً عامداً.

 

ويرى العلماء أنه يترتب على قول الزور وشهادة الزور مفاسد كبيرةٌ، ومظالم خطيرةٌ، تنخر جسد المجتمع، تضيع بها حقوق الناس ويُضلَّل بها القضاء وتُزرَع البغضاء والأحقاد بين الناس، مما قد يؤدي الى ارتكاب الجرائم وانتهاك المحارم.

ونظراً لأضرار ومخاطر الزور -شهادةً كان أم قولاً- على الأفراد والمجتمعات فقد ورد ذمه في كتاب الله؛ يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، ويقول عزَّ وجلّ: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً﴾.

كما ورد ذم قول الزور في السُنة المشرفة؛ فقد سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليُعَلِّمَهم: [أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟] قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: [الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ] وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فقالَ: [ألَا وقَوْلُ الزُّورِ]، فَما زالَ يُكَرِّرُها حتَّى قال الصحابة: لَيْتَهُ سَكَتَ. يقول العلماء إن جملة "وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ" تُشعرنا باهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بأمر الزور، ويُفيد ذلك تأكيد تحريم الزور وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بهما أكثر، فإن الإشراك بالله ينبو عنه قلب المسلم، وعقوق الوالدين يصرف عنه الطبع السليم، أما قول الزور وشهادة الزور فالدوافع إليهما كثيرةٌ؛ كالعداوة والحسد وغيرها، فوقع الاهتمام بتعظيم أمرهما.

وحذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول الزور؛ في أحاديث أخرى من بينها حديثه عن الصيام: [مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ].

لقد بلغت الاستهانة وقلة التقوى بالبعض أنه يقف بأبواب المحاكم مُستعداً لأن يشهد شهادة الزور مقابل قروشٍ معدودةٍ؛ بحيث تحولت الشهادة عن وظيفتها في استجلاء الحقيقة فأصبحت سنداً للباطل ومُضللةً للقضاء، يُستعان بها على الإثم والبغي والعدوان. إن شهادة الزور نوعٌ خطيرٌ من الكذب، شديد القبح سيئ الأثر، يتنافى مع (أمانة الكلمة) يُتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفسٍ أو أخذ مالٍ أو تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ؛ لذا فقد أجمع الفقهاء على أن شهادة الزور كبيرةٌ من الكبائر.

 

وعن (أمانة الكلمة) يقول علماؤنا الأفاضل إنّ على المسلم إذا بلغه عن أخيه شيءٌ سيءٌ أن يكتمه، وألا يُشيعه حتى ولو كان صِدقاً، ولو كان ما نُقِلَ إليه صدقٌ وفيه مضرةٌ على أخيه فإنه يستر أخاه ويناصحُه فيما بينهما، ولا يُشيع عنه الأخبار السيئة ولو كانت واقعةً، لأن هذا أيضاً يدخل في الغيبة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾، والنبي صلى الله عليه وسلم فسَّر لصحابته -رضي الله عنهم-الغيبة بأنها [ذِكرُكَ أَخَاكَ بما يَكرَهُ]، قال أحدهم يا رسول الله: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟، قال: [إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغتَبتَهُ، وَإِن لم يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَد بَهَتَّهُ]، {بهته أي كذبت عليه بالبُهتان}، فأنت آثمٌ على كل حالٍ، سواءً كان فيه ما تقول أو ليس فيه ما تقول، لأنك لا تخرج إما عن الغيبة وإما عن الكذب، وكلاهما جريمةٌ، سواءً في حق الأفراد أو الجماعات أو الأعراق أو المجتمعات والدول.

 

ويسأل سائلٌ: "شهدتُ زوراً وندمتُ فماذا عليّ أن أفعل؟"، يقول أهل الاختصاص إنّ كفارة شهادة الزور -كغيرها من المعاصي- التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، والاستغفار، والندم عليها، والعزم ألا يعود لها. ولأن شهادة الزور معصيةٌ قوليةٌ يُشترط فيها القول، فعليه أن يقول: "شهادتي باطلةٌ، وأنا نادمٌ عليها، ولا أعود إليها". وإذا ترتب على شهادة الزور ضررٌ في حق أحدٍ فلابد أن يتحلل منه وأن يرد الحقوق إلى أهلها.

وعن الندم على شهادة الزور، هذه قصةٌ واقعيةٌ حدثت في غزة من قرابة خمس سنواتٍ، حين ارتفعت الأصوات من مكبرات الصوت في مساجد مدينة غزة، لم تكن إيذاناً بموعد الأذان ولا لإقامة الصلاة، لكنها انطلقت بالتكبير ثم الإعلان عن براءة رجلٍ وامرأةٍ بعد اتهامهما بالزنا ومرور سبع سنواتٍ على الحادثة الأليمة التي أضرت بهما؛ فقد لجأت المرأة -وهي أرملةٌ- إلى الرجل الذي له مكانته ومحبته بين الناس، لكي تأتمنه على مصاغها، ولم يَرُقْ الأمر لعائلتها فلفقوا لها جريمة الزنا، وجاءوا بشاهد زورٍ لكي يستردوا مصاغ ابنتهم، وتم فصل الرجل من عمله، وطالت السمعة السيئة الرجل والمرأة معاً. وحسبما قال شاهد الزور إنه لم يذق طعم النوم طيلة هذه السنوات، وتوالت الأمراض المستعصية على اثنين من أولاده، فذهب وأظهر براءة الرجل من على مئذنة الجامع، حيث اجتمع الناس على صوت المكبرات وهي تعلو مرددةً حقيقة البراءة، وتوافدوا على بيت الرجل لتهنئته.

 

وإذا كانت الشهادة بالزور مذمومةً ينأى عنها كل من كان له قلبٌ أو ألقى السمع و هو شهيدٌ، فشهادة الحق محمودةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾.

 

أحبتي .. الكلمة أمانةٌ، والأمانة حملها الإنسان وألزم نفسه بالوفاء بها. وخيانة (أمانة الكلمة) بالكذب والافتراء وفُحش القول والبذاءة والسُخرية والنفاق والغيبة والنميمة وقول الزور وشهادة الزور من الكبائر التي لا يكاد أحدنا أن يبرأ منها، فلنُطّهر أنفسنا من تلك الآفات التي تأكل حسناتنا، بل وربما أدخلتنا -والعياذ بالله- النار؛ قال صلى الله عليه وسلم رداً على سؤال أحد الصحابة: [وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم -أو على مَناخرِهِم- إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم؟]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ]، ولنلزم أنفسنا بتوجيهات نبينا الكريم: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، ولنتذكر في كل لحظةٍ وجود ملَكين يُسجلان كل كلمةٍ ننطق بها؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾؛ فلنُمسك ألسنتنا عن أي قولٍ باطلٍ كي نقي أنفسنا سوء العاقبة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشهداء بالحق، القائمين بالقسط، الذين يُراعون الله في الكلمة فيحرصون على الوفاء بأمانتها والالتزام بقول الصدق والعدل، إنه سبحانه وليّ ذلك والقادر عليه.

 

https://bit.ly/3viSncB