الجمعة، 30 أغسطس 2019

عبادة على حرف!


الجمعة 30 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٢
(عبادة على حرف!)

يَحكي أحد الشيوخ الأفاضل قصة فتاةٍ كانت تحب ابن عمها حباً شديداً، وتدعو الله صباحَ مساء أن يكون زوجاً لها، وتُكثر من العبادة وقيام الليل والدعاء بأن يحقق لها المولى عزَّ وجلَّ أملها، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد تزوج ابن عمها ابنة عمٍ أخرى، فتغير حال الفتاة وأصابها الحزن والكآبة، وتركت العبادة والدعاء، واتصلت أثناء ذلك على ذلك الشيخ، وشكت له حالها وأنها تركت العبادة والدعاء وقيام الليل بسبب ترك ابن عمها لها، فقال لها الشيخ: "افتحي المصحف وانظري إلى الآية رقم 11 من سورة الحج، وستجدين فيها حلاً لمشكلتك"، وكان فضيلته يحيلها إلى الآية التي تذكر الناس الذين يعبدون الله (عبادة على حرف!).

أحبتي في الله .. يقول العلماء أن الله سبحانه وتعالى قد بَيَّن لنا أن الابتلاءات سنةٌ ربانيةٌ؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، وأمام هذه الابتلاءات ترى ضعاف الإيمان يسألون الله ويظلون في الدعاء المستمر ليكشف عنهم الله تعالى الغُمة والابتلاء، وعندما يأتي الله بالفرج وتنزاح غمتهم ينقطع ذلك الوصال الرباني، فما عرفوا الله تعالى إلا وقت حاجتهم، ونسوه وقت الرخاء، هؤلاء كانت عبادتهم لله (عبادة على حرف!)، أما المؤمنون حقاً فهم عندما يتعرضون للاختبارات والامتحانات والابتلاءات والفتن يزدادون قُرباً إلى الله، وليس بعداً أو انقلاباً.

يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ وعلى حرف هنا بمعنى على شرطٍ أو على شك؛ ذلك أنه كان ناسٌ من قبائل العرب ومَن حولهم مِن أهل القرى يقولون: "نأتي محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن صادفنا خيراً من معيشة الرزق ثبتنا معه، وإلا لحقنا بأهلنا"، وهؤلاء هم المنافقون، إن صلحت لهم دنياهم أقاموا على العبادة، وإن فسدت عليهم دنياهم وتغيرت، انقلبوا فلا يقيمون على العبادة إلا لما صلح من دنياهم، فإن أصابتهم فتنةٌ أو شدةٌ أو اختبارٌ أو ضيقٌ، تركوا دينهم ورجعوا إلى الكفر.
وقيل في سبب نزول هذه الآية أن رجلاً من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، وتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَقِلْني، فقال: [إن الإسلامَ لا يُقال]، فقال: إني لم أَصِب في ديني هذا خيراً؛ أَذْهَبَ بصري ومالي وولدي، فقال: [يا يهوديّ، إن الإسلامَ يَسْبِكُ الرِجالَ كما تَسْبِكُ النارُ خَبَثَ الحديدِ والفضةِ والذَهب]؛ فأنزل الله تعالى الآية.
وقيل أن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة ذلك أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره: ادعُ لي ربّك أن يرزقني مالاً وإبلاً وخيلاً وولداً حتى أومِن بك وأعدِل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه الله عزَّ وجلَّ ما تمنّى؛ ثم أراد الله فتنته واختباره - وهو أعلم به - فأخذ منه ما كان رَزَقه به بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام.

وقريبٌ من ذلك، لكن بغير رِدةٍ إلى الكفر ولله الحمد، ما يحدث في موسم الامتحانات المدرسية والجامعية كل عامٍ، حيث نرى الكثير من الطلبة يواظبون على صلاة الجماعة بالمسجد، ويحرصون على صلاة الفجر، ويتسابقون ليكونوا في الصف الأول، يُصَلُّون بخشوعٍ ويُمسكون بالمصاحف يقرأون ما تيسر من القرآن، تراهم يطيلون السجود يدعون الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم وييسر لهم طريق النجاح ويحقق أمانيهم، فإذا انتهت فترة الامتحانات لا ترى منهم إلا القليل! فقد كانت عبادتهم لله (عبادة على حرف!)،
وكذلك أي شخصٍ - أياً كانت مهنته أو وظيفته أو عمله - إذا هو عَبَدَ اللهَ سبحانه وتعالى حق عبادته وقت الحاجة فقط، أو إذا ترك العبادة كلها أو قَصَّر فيها وقَلَّل منها حين يتعرض لابتلاءٍ أو تصيبه مصيبةٌ أو ينزل به عارضٌ من عوارض الدنيا.
كلما رأيتُ شخصاً من هؤلاء تذكرتُ من الشعر هذا البيت المشهور:
صَلَّىٰ المُصَلّي لأمرٍ كَانَ يَطْلُبُهُ
لَمَّا انْقَضَىٰ الأمْرُ لا صَلَّىٰ وَلا صَامَا

يتساءل أحد الصالحين ويقول: في أي شريعةٍ يكون هذا الأمر؟ وفي أي ملةٍ ودين؟ هذا الأمر ضربٌ من ضروب الحيلة، ويمكن لك أن تتحايل على الناس، أما الله سبحانه وتعالى فلا يمكن لك أن تستخدم الحيلة معه، فهو كما وصف نفسه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾. عندما تعبد الله لتحقيق أمرٍ ما، وبمجرد أن يتحقق - أو لا يتحقق - تترك العبادة، هذا يعني أنك تعبده سبحانه على شرط، وهذا ما لا يجوز على الإطلاق، أيجوز أن يشترط العبد الضعيف على خالقه؟ لا شك أن من يفعل ذلك إنسانٌ منافقٌ ضعيف الإيمان.

أحبتي .. حذارِ ثم حذارِ من عبادة الله (عبادة على حرف!)، نعرفه ونسعى إليه وقت الشدة ثم ننساه إذا لم تتحقق حاجتنا أو نصل إلى مبتغانا، أو بعد انقضاء الشدة وتَحَقُق المصلحة وانتهاء الحاجة!
فلنراجع أنفسنا؛ ولنعبد الله لأنه أهلٌ للعبادة، ليس لأي سببٍ آخر. لنعبد الله في كل وقتٍ وحين، ولا ننساه أبداً حتى لا يتحقق وعيده فينسانا فنكون من المنافقين الفاسقين الذين يقول تعالى عنهم: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك. اللهم يَسِّر لنا أن نعبدك في السراء والضراء، في السر والعلن، وقت السرور ووقت الضيق، ولا تجعلنا من المنافقين ولا الفاسقين. تجاوز اللهم عن تقصيرنا، ورُدنا إليك وإلى دينك رداً جميلاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2ZoPJoM