الجمعة، 8 نوفمبر 2024

سُبحانه يُدبر الأمر

 

خاطرة الجمعة /472

الجمعة 8 نوفمبر 2024م

(سُبحانه يُدبر الأمر)

 

يقول مَن رَوى القصة: كُنا في شهر رمضان المبارك، وقررنا -أنا وصديقٌ لي- أن نذهب إلى شاطئ البحر، في نُزهةٍ بعيدٍة نتناول السحور هناك، ثم نُصلي الفجر، ونبقى نُسبح حتى موعد شروق الشمس؛ فنُراقب كيف تبدأ الشمس في نشر أشعتها الذهبية على مياه البحر في صورةٍ بديعةٍ، ثم نعود من حيث أتينا. كان الطريق الموصوف لنا للوصول إلى ذلك المكان أبعد مما كُنا نظن، واستغرق وقتاً أكثر مما كًنا نعتقد؛ فأدركنا أذان الفجر في الطريق قبل وصولنا لمقصدنا، فتوقفنا وصلينا الفجر، وترددنا؛ هل نعود، أم نُكمل حتى نصل إلى وجهتنا؟ وجدنا أنفسنا نميل إلى المواصلة، وكأننا كُنا مدفوعين إلى ذلك؛ فواصلنا مسيرنا حتى بلغنا الموقع، فترجلتُ وصاحبي من سيارتنا، وتمشينا قليلاً فإذا بسيارةٍ قريبةٍ، بها عائلةٌ كاملةٌ، قد تعلقت في الرمل مُنذ مُنتصف الليل، وكأنما كانوا ينتظروننا؛ فقد جاؤوا مُسرعين يطلبون المُساعدة. لم يكن الأمر صعباً فقد تيسر لنا سحب سيارتهم في دقائق معدودةٍ، ولم نتركهم إلا وقد انطلقوا بسيارتهم. مكثنا بعد ذلك لوقتٍ قليلٍ، لم ننتظر شروق الشمس، وقررنا العودة.

في الطريق تعجبتُ مما حصل؛ فقد خرجنا في وقتٍ ليس من عادتنا الخروج فيه للنزهة، واخترنا موقعاً للنزهة لم نقصده من قبل، والغريب أننا رجعنا قبل الوقت المُحدد لرجوعنا وهو شروق الشمس! تدبرتُ ما حدث؛ فلم أجد سوى أن الله (سُبحانه يدبر الأمر) جعلنا سبباً لإنقاذ تلك الأسرة.

 

أحبتي في الله.. نعم إنه تدبير الله العزيز الحكيم، المُطلع على أحوال عباده، المجيب لدعائهم؛ فلربما كان لأحد أفراد تلك الأسرة دعوةٌ دعاها واستجاب لها الله سُبحانه وتعالى؛ فأرسلنا لهم كي نكون سبباً في إنقاذهم مما كانوا فيه.

نحن في أشد الحاجة لتعظيم اليقين في قلوبنا بأن لا شيء في هذه الحياة اسمه صدفةٌ، وإنما هو (سُبحانه يدبر الأمر).

 

تصديقاً لذلك هذا شخصٌ آخر يحكي لنا حكايته؛ فيقول: كان لديّ صديقٌ يعيش في محافظةٍ أخرى، علمتُ أنه مريضٌ، فقررتُ أن أعوده، وأنا أعلم كم لعيادة المريض من ثوابٍ عظيم. كانت تكلفة المواصلات التي سأحتاجها للعودة إلى منزلي أربعين جنيهاً، ولم يكن في محفظتي وقتها سوى خمسين جنيهاً، تكفي لركوب مواصلتين للعودة إلى المنزل. ركبتُ أول حافلةٍ، وعندما أوشكتُ على دفع الأجرة، فوجئتُ بظهور صديقٍ لي لم أره منذ خمس سنواتٍ يركب في ذات الحافلة، أصرّ على دفع الأجرة لي، عانقنا بعضنا وتبادلنا الأحاديث حول أمور الحياة حتى وصلتُ إلى محطتي التي أركب منها الحافلة الثانية، عندما هممتُ بركوب الحافلة، إذا بشخصٍ -يقف بسيارته بجوار الحافلة- يُناديني؛ نظرتُ إليه، فإذا به جاري الذي يسكن معنا في نفس المنزل، رآني فطلب مني الركوب معه؛ فهو عائدٌ إلى المنزل، ركبتُ معه، وأنا أتعجب مما حدث! أنزلني أمام المنزل ثم تركني وذهب للبحث عن مكانٍ يترك سيارته فيه. وبينما كنتُ واقفاً، تلقيتُ مكالمةً من زوجتي تُخبرني بأن دواءها قد نفد، وهي بحاجةٍ ماسةٍ له، شعرتُ بالانزعاج، ورفعتُ بصري إلى السماء، داعياً الله: "يا رب، أنت تعلم ظروفي، ليس معي الآن سوى خمسين جنيهاً". ذهبتُ إلى الصيدلية لأشتري الدواء؛ فتفاجأت بأن سعر عُلبة الدواء قد زاد وصار يبلغ 200 جنيه، ولأن العُلبة تحتوي على أربعة شرائط فقد طلبتُ من الصيدلي شريطاً واحداً، أخذتُه وكنتُ أسأل نفسي: "كيف كنتُ سأُدبِّر أمر دواء زوجتي لو أنني كنتُ قد دفعتُ ثمن المواصلات؟" لقد أيقنتُ أن الله (سُبحانه يُدبر الأمر). وعلى الرغم من سعادتي لأنني تمكنتُ من شراء الدواء لزوجتي، إلا أنني كنتُ أفكر في الطعام الذي سنأكله في اليوم التالي، حيث أنني صرفتُ كل ما معي. وبينما كنتُ عائداً إلى المنزل، رنَّ هاتفي، وإذا بأحد العملاء الذين ألغوا مشروعاً كنتُ سأقوم بتنفيذه له قبل ثلاثة أشهر، يُقرر استكمال المشروع، ويعدني بإرسال أول دفعةٍ من الحساب لي في الصباح! لم أتمالك شعوري؛ ووجدتُ نفسي أبكي من عناية الله عزَّ وجلَّ بي وكرمه معي، وتدبيره لأمري. عندما فتحت لي زوجتي باب الشقة، لاحظت أن عينيّ مغرورقتين بالدموع؛ فسألتني بدهشةٍ: "لماذا تبكي؟" لم أستطع الرد إلا بقولي: "هذا هو شريط الدواء، وغداً بإذن الله ستصلك العلبة كاملة".

 

يقول أهل العلم إن عبارة ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ تكررت في كتاب الله أربع مراتٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾. ويقول جلَّ جلاله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.

 

يقول المفسرون في معنى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ إن الله (سُبحانه يُدبر الأمر) لجميع المخلوقات، في السماوات وفي الأرض، وهو يُحكم الأمر، ويوجد الأشياء على هذا النحو الحكيم الذي نُشاهده؛ فالله-تبارك وتعالى- هو الذي يُدبِّر شئون الدنيا وشئون جميع خلقه إلى أن تقوم الساعة، وهو الذي يجعلها على تلك الصورة المُحكمة والبديعة المُتقنة.

 

يقول الشاعر:

لا الأمرُ أَمْري وَلا التَّدْبيرُ تَدْبيري

وَلا الشُّؤونُ التي تَجْري بِتَقْديري

لِي خَالِقٌ رازِقٌ ما شاءَ يَفْعَلُ بي

أَحاطَ بي عِلْمُهُ مِنْ قَبْلِ تَصْويري

 

أحبتي.. أختم بعباراتٍ مُعبرةٍ لأحد العُلماء؛ كتب يقول: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ ذكِّر بها قلبك كلما خشيتَ أمراً أو اعتراك هَمٌ أو أصابك كربٌ، فإن أيقنتَ بها اطمأنت روحك، وكفى بربك هادياً ونصيراً. إن الله يعلم كل شيءٍ في صدرك، يعلم كل شيءٍ تتعثر في التعبير عنه، ﻻ تقلق، فقط قُل "يا رب" يُدبِّر أمرك ويُصلح حالك ويعتني بشؤونك، ويكشف عنك غمك، ويُسخِّر لك من تُحب، ويفتح لك أبواباً مُغلقةً، ويُعوضك ما كان فَقْدُه يُؤلم قلبك. ثِقْ بالله؛ فاﻷمر الذي يؤرقك، والشيء الذي تتوجس منه، يُدبِّره الله، كُن مطمئناً وﻻ تقلق. أتظن أن الله لا يعلم الأمنية التي تسكن زاوية قلبك؟ حاشاه!! رب العزة يعلمها، ولكن يُدبِّر لك الأمر حتى تأتيك أمنيتك في الوقت المناسب. لا تجزع إن لم يتحقق لك أمرٌ أنت راغبٌ فيه؛ مع الوقت ستُدرك أنه لم يكن خيراً لك؛ فعندما يُغلق الله من دونك باباً تطلبه فلا تحزن وﻻ تعترض؛ فلربما الخير لك في غلقه، وثِقْ أن باباً آخر سيُفتح لك يُنسيك همك الأول، وقتها ستُدرك معنى قوله تعالى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ هذه الآية كفيلةٌ بأن تُضفي على نبضك هدوءً وخشوعاً مهما ضاقت بك الدنيا.

اللهم لا تدعنا لأنفسنا طرفة عينٍ فإنا لا نُحسن التدبير، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. دبر اللهم لنا أمورنا كلها؛ فأنت سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/4hHshHC