الجمعة، 6 ديسمبر 2019

أخوك سندك


الجمعة 6 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٦
(أخوك سندك)

كتب يقول: هذه قصتي مع أخي أكتبها كما حدثت في الواقع، لعل البعض يتعظ منها، فلا يظل يحمل مشاعر الأسى والمرارة والندم كما أحملها أنا.
كنا أنا وأخي أعداءً في صغرنا، واستمر عداؤنا حتى عندما كبرنا وتزوج كلٌ منا استمرت عداوتنا، حتى أن زوجتينا كانتا حينما تجتمعان صدفةً في بيت أبي تحدث بينهما مشاكل! احتارت أمي كثيراً معنا، وكذلك أبي، وكانا يخافان أن يقفا مع أحدٍ منا في رأيٍ فيَغضب الآخر. استمرت العداوة وظل الخصام قائماً بيننا، لم يتغير الحال. ماتت أمي، وبعدها بخمس سنواتٍ مات أبي، كانت والدتي - رحمها الله - تقول لكلٍ منا دائماً: "يا ابني (أخوك سندك)". والوالد - رحمه الله - كان غاضباً منا لعدائنا المستمر، لا يكلمنا، وإذا كلمنا كان كلامه معنا رسمياً جداً كأننا أغراب، وكان يقول للوالدة: "عسى الله يهديهما، سيأتي اليوم الذي يعرفان فيه قيمة بعضهما، ويتذكران كلامنا: إن الأخ لا يُعوض؛ لو تألم الواحد منهما يقول «أخ»، لا يقول صاحبي أو صديقي".
بعنا أملاك أبي، وأخذ كل واحدٍ منا حقه ونصيبه من الميراث، وذهب كل واحدٍ منا في طريق، لم يعد بيننا أي اتصال، ولا ندري عن بعضٍ شيئاً! وكبر أبناؤنا ولم يتقابلوا أو يلتقوا أبداً، حتى أنهم لا يعرفون بعضهم بعضاً!
في واحدٍ من أسوأ أيام حياتي، دخلتُ في مضاربات سوق الأسهم وخسرتُ فيها كل ما أملك؛ فصارت أحوالي المعيشية صعبةً للغاية. مرضتُ بمرض السكري، ومع الضغوط، ومن كثرة التفكير في حالي وحال أسرتي وأبنائي، وندمي لأني ضيعتُ كل شيءٍ في لحظات طمع، أصابتني جلطةٌ أفقدتني عيني اليمنى.
في يومٍ آخر، كان من أحسن أيام حياتي، دعوتُ ربي وأنا أصلي الفجر وقلتُ: "اللهم ارحم ضعفي وقلة حيلتي، وعوضني خيراً مما ضاع مني"، وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل. في ذلك اليوم التقيت مصادفةً بصديقٍ قديمٍ لي كان جارنا ونحن صغار، سلَّم عليّ، وعرف مني كل شيءٍ عن: أسرتي، وعملي، ومكان سكني. بعد أسبوعٍ زارني في بيتي وقال: "لي طلبٌ عندك، لا تردني خائباً"، قلتُ له: "أبشر"، قال: "هذا مبلغٌ من المال، ابدأ به حياتك من جديد، اعتبره قرضاً وديْناً عليك، رده عندما يفرجها عليك الله"، أعطاني مبلغاً كبيراً فشكرته، وقدرتُ له جميله ومعروفه. بدأتُ بهذا المبلغ في تنفيذ مشروعٍ صغيرٍ كبر مع الأيام، والحمد لله، عوضني ربي به كل ما فقدته في بورصة الأسهم؛ فكنتُ دائم الشكر لله على فضله، وعلى أن رزقني ذلك الصديق الذي أخذ بيدي ووقف إلى جانبي وساعدني. في أحد الأيام تفاجأت بصديقي يزورني ويقول لي: "اعذرني؛ جئتُ إليك اليوم بغير ميعادٍ وذلك لأمرٍ ضروريٍ ومهمٍ لا يحتمل التأجيل"، قلت له: "خيراً إن شاء الله. إن كنتَ جئتَ تطلب مالك الذي أقرضتني إياه؛ فأبشر، ربنا - له الحمد - قد فرجها، أمهلني عدة أيام أرتب خلالها أموري وأرد لك ديْنك"، قال لي: "الأمر أهم بكثيرٍ من ذلك"، سألته وأنا قلقٌ: "أخبرني إذن، ما هو هذا الأمر الهام؟"، قال لي: "المال الذي أقرضتك إياه، لم يكن مالي أنا؛ بل هو مال أخيك"، قاطعته متعجباً: "تقول مال أخي، هل هذا معقول؟!"، قال: "نعم؛ علم أخوك بحالك فطلب مني أن أسلمك ذلك المال، وحلفني بالله أن يكون هذا الأمر سراً بيني وبينه. وقال لي بالحرف الواحد «ما أقدر أشوف أخوي محتاج وأتركه في هذه الحالة، خذ هذا المبلغ واعطه له كأنه منك أنت، ولا يدري أنه مني»"، كنت أستمع بذهولٍ لما يقوله صديقي؛ لم أكن أصدق أن أخي - الذي طالت بيني وبينه العداوة كل هذه السنين - هو الذي سارع إلى مساندتي والوقوف بجانبي في محنتي. أخرجني صديقي من حالة الذهول التي انتابتني إلى حالةٍ أخرى من القلق حينما قال لي: "ليس هذا هو الأمر المهم الذي جعلني آتي إليك بغير موعدٍ سابق"، قلتُ مستبقاً ما يود قوله: "ما الأمر إذن؟ أخبرني"، قال: "جئتُ إليك اليوم لأخبرك أن أخاك في المستشفى، يرقد في غرفة العناية المركزة بين الحياة والموت، أرجوك أن تزوره وتتسامح أنت وهو، وأنا أشهد أنه يحبك". وقع عليّ هذا الخبر كالصاعقة؛ فذهبتُ مسرعاً إلى المستشفى، ودموعي تسابقني، تغسل كره السنين الذي حملته لأخي، وشريط ذكريات خصامي أخي وعداوتي له يمر في مخيلتي، ثم مفاجأة تفضله عليّ بالقرض الحسن، كل تلك الأفكار كانت تؤجج مشاعري ولازمتني حتى  دخلتُ إلى غرفة الإنعاش، فرأيتُ أخي راقداً ممدداً على سريره دون حراك، وقد أوصل الأطباء جسمه بالعديد من الأجهزة، أمسكتُ بيده، ودموعي الحارة تغالبني، قبَّلتُ رأسه، وطلبتُ منه أن يسامحني، استطاع بالكاد أن يفتح عينيه فنظر إليّ وتساقط الدمع على وجنتيه، وارتسمت ابتسامةٌ خفيفةٌ على شفتيه، وضم يده إلى يدي وشدَّ عليها، لم ينطق بأية كلمةٍ، أرخى جفونه في سلامٍ ثم شهق شهقةً مات بعدها. كأنه كان ينتظر حضوري ليلفظ أنفاسه الأخيرة ويموت بين يديّ.
يعلم الله كم ندمتُ على كل يومٍ من أيام العمر مرَّ وأنا وأخي في خصامٍ. ما أشد إحساسي بالمرارة حينما أتذكر أنه لم يقف معي في شدتي إلا أخي، وأن روحه لم تفارق جسده إلا عندما رآني واطمأن عليّ. أحاول الآن إصلاح ما فسد، ولكن بعد فوات الأوان؛ فأذهب كل يوم جمعةٍ إلى قبر أخي وأبكي، وأتذكر كلام أمي: "يا ابني (أخوك سندك)".

أحبتي في الله .. الأخ لا يُعوض؛ فمهما زاد عدد الأصدقاء الذين يحيطون بنا لن يحلوا محل الأخ ولن يعوضوه إن هو غاب، الأخ للأخ عونٌ وسندٌ، قصدهما واحدٌ؛ يقول النحويون: "سُمي الأخ أخاً لأن قَصْدَه قَصْدُ أخيه، وأصله من وَخَىَ أي قَصَدَ".
الأخ هو الذي طلب سيدنا موسى من الله سبحانه وتعالى أن يجعله سنداً له يُعينه في أمر الدعوة؛ فقال عليه السلام: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾؛ فاستجاب له المولى عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾، وبقوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾. وهو الذي دعا له سيدنا موسى عليه السلام؛ فقال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
الأخ هو الذي ذكره تبارك وتعالى في سورة يوسف بقوله: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
والأخ هو الذي بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أَوْلَى الناس بالإحسان والبِر والإكرام، بعد الأم والأب والأخت؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ؛ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ].

يقول أهل العلم الشرعي إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بصلة الأرحام، وخصَّ الأخ بمزيدٍ من البِر والإحسان، فإن له منزلةً كريمةً، ومكانةً ساميةً عظيمةً؛ فهو عطيةٌ من الله تعالى، وهبةٌ منه سبحانه، فالأخ هو الحصن لأخيه، وهو مصدر العون والمنعة والقوة، يقف معه ويؤازره بكل ما استطاع، وهو ركنه الذي يلجأ إليه في مواجهة أعباء الحياة.
وبِرُ الأخ يكون بالسؤال عنه وعن أولاده وأهله، وتفقد أحواله، والتودد إليه، وزيارته وصلته، ومشاركته في أفراحه وأتراحه؛ فالدم الذي يسري في عروق الإخوة واحدٌ، فقد تربوا في بيتٍ واحدٍ، واجتمعوا على طعامٍ واحدٍ، تجمعهم ذكرياتٌ جميلةٌ في طفولتهم، ومواقف لا تُنسى في نشأتهم وصباهم وشبابهم، وتُوحدهم علاقات المحبة والتعاون طيلة حياتهم.
إن قوام العلاقة الصادقة بين الأخ وأخيه أن يحب له ما يحب لنفسه؛ فالأخ يحب لأخيه الخير، ويعمل على تحقيق نفعه. والأخ مرآة أخيه؛ إذا رأى فيه عيباً أصلحه، وإن وجد فيه نقصاً أكمله، وإذا نصحه أخلص النصيحة له، فينصحه بالفضائل، ويدله على المحاسن، ويستشيره فيما عرض له من الأمور، وصدق منقال: (أخوك سندك).

يقول علماء النفس والاجتماع إنه ليس هناك أفضل من وجود أخٍ لك، تعتمد عليه في شتى الأمور، تشكو له همومك، وتجده أوّل من يفرح لفرحك، فالإخوة هم نعمةٌ من الله مَنَّ بها علينا؛ إنهم سندنا وقوتنا في الدنيا، وهم مصدر عزتنا وفخرنا، يتحقق بقوة علاقتنا الترابط والانسجام للأسرة، والسعادة والاطمئنان للأهل، والتلاحم والسلام للمجتمع.

قال الشاعر:
إنّ أخاك الصّدق مَن يسعى معك
ومَن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا صَرْفُ زمانٍ صَدَّعك
بدَّد شملَ نفسِه ليجمعك
وقال آخر:
وليس أخي مَن ودّني بلسانه
ولكن أخي مَن ودّني وهو غائبُ
ومَن ماله مالي إذا كنت معدماً
ومالي له إن أعوزته النّوائبُ

ولنحذر من عداوة الأخ والخصومة معه، فإن فيها قطيعةً للأرحام التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أننصلها؛ يقول تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾، وقرن قطعها بالإفساد في الأرض؛ يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾، وينبهنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه: [لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، ويُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ] هذا للأخين في الدين والعقيدة، فما بالنا إذا كانا أخين شقيقين بالنسب تربطهما صلة الدم وصلة الرحم؟ ألا تقشعر أبداننا عندما نقرأ ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام حين قال: [لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ]؟!

أحبتي .. لا تكونوا - يرحمكم الله - من قاطعي الأرحام. احرصوا على تقوية علاقتكم بإخوانكم؛ مَن كانت صلته بأحد إخوانه مقطوعةً فليسارع إلى مصالحة أخيه، الآن الآن وليس غداً؛ فلا يدري في أية لحظةٍ يأتي الموت فيفارق أخاه أو يفارقه أخوه وهما على خصامٍ وقطيعةٍ فيكون الخسران وتكون الحسرة والندامة حين لا ينفع ندم. ومَن كانت علاقته مع أخٍ له فاترةً فليبادر إلى تحسينها وتقويتها؛ (أخوك سندك) وظهرك ونعمةٌ أنعم بها الله عليك، ليشد به عضدك. ومَن هداه الله فكانت علاقته مع إخوانه طيبةً فليعمل على تعزيزها؛ يقول تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾.
وما ينطبق على إخواننا في النسب، ينطبق على إخواننا في الدين، كما ينطبق أيضاً على أخواتنا.
اللهم احفظ لنا إخواننا، وبارك لنا في علاقتنا بهم، واجمعنا وإياهم على الخير دائماً، واهدنا إلى ما فيه رضاك، وابعدنا عن كل ما يغضبك ويسخطك يا رب العالمين.

http://bit.ly/38f9HCU