الجمعة، 19 فبراير 2021

تحصين الأموال


خاطرة الجمعة /279


الجمعة 19 فبراير 2021م

(تحصين الأموال)

 

حادثةٌ وقعت منذ زمنٍ بعيدٍ في سوريا عندما سلَّط الله تعالى الجراد على مزارع وزروع الناس، حتى لم يبقَ عود أخضر في البلاد؛ فلقد هجمت أسراب الجراد بأعداد كبيرةٍ جداً، ولكثافته كان يشكل سحابةً تحجب نور الشمس أثناء طيرانه وانتقاله من مكانٍ لآخر، فبدأ يأكل الأخضر واليابس حتى التهم لحاء الشجر، ونتيجة لذلك حدثت مجاعةٌ كبيرةٌ في البلاد بسبب فقدان المحاصيل والمواسم الزراعية. خلال هذه الفترة ذهب أحد المزارعين بقرية داريا قرب مدينة دمشق إلى ضابط الشرطة يشكو مزارعاً في بلدته أن بحوزته نوعاً من المبيدات القاضية على الجراد قضاءً مبرماً ولم يعطِ منه أحداً، أو يُعلم الدولة لتأمينه للمزارعين، ودليله على ذلك أن بستان ذلك المزارع أخضر وأشجاره مورقةٌ وارفة الظلال، لم يقربها الجراد، فهي ذات ثمارٍ متدليةٍ وفيرةٍ وأعنابٍ غايةً في الجودة وطيِّب المذاق؛ وهنا امتطى الضابط المسؤول حصانه، وتبعه عدد من شرطة الدرك للتحقيق في هذا الموضوع وللتأكُّد من صحة أقوال الشاكي، وانطلق الضابط مع الواشي إلى مكان البستان، وعند وصوله رأى الأشجار الخضراء والأثمار اليانعة، تماماً كما وُصفت له؛ فطلب صاحب البستان، وحين حضر ثار عليه والسوط في يده يبغي ضربه الضرب المبرح، قائلاً له: "لماذا تكتم هذا الدواء المبيد للحشرات عن المزارعين؟ ولماذا لم تُعلم الدولة كي تؤمِّنه للمزارعين؟ فقط يهمُّك أمر نفسك أيها الأناني! يا ويلك غداً بين يدي الله"، فأجابه صاحب البستان قائلاً: "سيدي؛ الدواء الذي أستعمله كلّهم يعرفونه ولا يستعملونه، بل يرفضونه بازدراء"، عندها خفض سوْطه وسأل صاحب البستان: "ما هو هذا الدواء"؟ فأجابه: "الزكاة سيدي؛ إني أتصدَّق بعشْر محصولي سنوياً طوال حياتي؛ فحفظه الله لي"، فقال له الضابط: "ماذا تقول"؟ فكرّر: "الزكاة، سيدي". وهنا سأل الضابط صاحب البستان مستنكراً: "وهل يفهم الجراد ويميِّز بين بستان مزكّى وآخر غير مزكّى"؟ فأجابه: "جرِّب، وألقِ الجراد على الزرع"، عندها قفز الضابط من على صهوة حصانه إلى الأرض بهمّةٍ ونشاط ٍوجمع بكلتا يديه عدداً كبيراً من الجراد من الأرض، وألقاه في البستان، وإذا بالجراد يرتطم بأرض البستان وزرعه قافزاً بجناحه مرتداً القهقرى خارجاً من البستان، ولم تبقَ جرادة واحدة في البستان، بل كان الجراد كله يرتطم ويعود إلى مكانه دون أن يقضم ورقةً واحدةً من البستان، وكرّر الضابط ذلك ثلاث مراتٍ، وفي كل مرةٍ يعود الجراد من حيث أتى وكأنه اصطدم بجدارٍ منيعٍ أو بنارٍ محرقةٍ قذفت به خارج البستان.

وهنا تأكد الضابط بنفسه بأن المال المزكى يحميه الله  من غوائل الأحداث، وأن في الزكاة (تحصين الأموال).

 

أحبتي في الله .. إنها الزكاة، الركن الثالث من أركان الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ].

ولأهمية الزكاة وعلو شأنها وعظيم قدرها جاءت مقرونةً بالصلاة في كثيرٍ من الآيات الكريمة في القرآن الكريم؛ في مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وقوله أيضاً: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.

وجاء اقتران الزكاة بالصلاة -التي هي أهم العبادات في الإسلام- في نحو ستة وعشرين موضعاً في كتاب الله، الأمر الذي يبين أهمية الزكاة.

والأحاديث النبوية الشريفة التي تُبين وجوب أداء الزكاة وفضلها وأنواعها ومقدار كل نوعٍ منها كثيرةٌ، منها قوله صلى الله عليه وسلم: [لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ رَجُلٍ لا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ حَتَّى يَجْمَعَهُمَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَمَعَهُمَا فَلا تُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا]، وعن فضل الزكاة قال ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠ: [حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزكاةِ].

أما الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- فقد ظهر حرصهم على التزام المسلمين بأداء الزكاة مبكراً في قول سيدنا أبو بكر الصديق أول خليفة للمسلمين: "واللهِ لا أفرّق بين شيءٍ جمع الله بينه، واللهِ لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه".

ومن أقوال التابعين عن الزكاة: "إنّ الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلّف عنها هلك".

 

والزكاة في اللغة معناها: النَمَاء، وتأتي أيضاً بمعنى: التطهير، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، وقد سُمِّيَت الزكاة بذلك الاسم لأنَّ في إخراجها نماءٌ للمال، ويَكْثُرُ بسببها الأجر، ولأنها تُطَهِر النفس من رذيلة البُخل.

 

يقول العلماء إن الإسلام جاء ليبني مجتمعاً إسلامياً متماسكاً ومتضامناً، يقف فيه القوي إلى جانب الضعيف، ويُعين فيه الغني الفقير؛ فكان أن فُرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، وهي الركن الاقتصادي والاجتماعي لهذا الدين. وللزكاة فوائد عظيمةٌ على المجتمع الإسلامي؛ فهي من جانب أداةٌ لتربية المزكّين على مقاومة الشحّ والبخل وتدريبهم على البذل والعطاء، وهي من جانبٍ آخر تساعد على تطهير نفوس المنتفعين من الفقراء والمحتاجين من شوائب الحقد والحسد والكراهية تجاه الأغنياء والموسرين الذين ينفقون جزءاً من أموالهم استجابةً لأمر الله، مما يُسهم في تحسين معيشة الفقراء وسد احتياجاتهم الضرورية وحمايتهم من الخصاصة والبؤس، وبذلك يتحقق مجتمع التراحم والتضامن والإخاء الذي أوصى به الإسلام. إن الزكاة واجبةٌ وهي حق الفقراء في مال الأغنياء؛ لأن المال هو مال الله والإنسان مستخَلفٌ فيه يتصرف فيه بمقتضى تعاليم الدين؛ يقول تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾. والزكاة ليست منّةً من الغني على الفقير بل هي فريضةٌ يؤديها؛ يقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ فحقّ على المسلم أن يبذل ممّا أنعم الله تعالى عليه من وفرة المال وأن يتصدق بجزءٍ منه مساهمةً منه في دعم التكافل بين المسلمين في السرّاء والضرّاء، وفي (تحصين الأموال) والأرزاق من التلف والهلاك، وتطهيرها من الخبث والنجس؛ قال الرسول: [ما خَالَطَتِ الزكاة مالاً قطُّ، إلا أهلكتْه] وقال أيضا: [ما تَلِفَ مالٌ في بَرٍّ ولا بحر إلا بحبْس الزكاة]. فالزكاة تنمي المال ولا تنقصه وتزيد في الأرزاق ولا تمحقها قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.

 

واشترط أهل العلم لوجوب الزكاة شروطاً منها: بلوغ النصاب، وحولان الحول بالتاريخ الهجري وليس بالتاريخ الميلادي، وحيث أن هناك فرقاً بين عدد أيام السنة الهجرية والميلادية قدره اثنا عشر يوماً تقريباً، فليسارع من كان أخرج زكاته عن سنواتٍ ميلاديةٍ إلى تحديد عدد تلك السنوات ويقوم بحساب فرق الأيام ويخرج ما فاته من زكاتها.

 

أحبتي .. لنتواصى جميعاً بالمبادرة إلى إخراج زكواتنا ولا نؤخرها؛ ففيها مرضاة الرب وحق الفقير ومصلحة المجتمع، كما أنها سببٌ في (تحصين الأموال). وما أقسى ما ينتظر مانع الزكاة من عذابٍ؛ يقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِن صاحِبِ كَنزٍ لا يُؤدي زكاتَه إلا أُحْمِي عَليه في نارِ جَهَنم، فيُجْعل صَفائح، فيُكْوَى بها جَنباه وجَبِينه، حتى يَحكمَ اللهُ بين عبادِه في يومٍ كان مِقْدَارُه خَمسين ألف سنة].

اللهم اجعلنا ممن يلتزمون بأداء الزكاة بمقدارها وأوقاتها وفي مصارفها. اللهم اقبلها منا خالصةً لوجهك الكريم بغير مَنٍ ولا رياء.

 

https://bit.ly/3qNJ7tP