الجمعة، 19 أغسطس 2016

مسلم بطاقة!

الجمعة 19 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٥

(مسلم بطاقة!)

أحمد شابٌ عربيٌ مسلمٌ اُبتعث لاستكمال دراسته العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، تعرف على كريستين فتاة أمريكية غير مسلمة، أُعجب بها، وهام بها حباً، وبادلته حباً بحب، تمنى أن يتزوجها، لكن كان يؤرقه أنها على غير دينه. تردد كثيراً في هذا الأمر ثم حسمه؛ فاتصل بوالده هاتفياً في بلده البعيد وعرض الأمر عليه وطلب موافقته. فوجئ الأب بما يقوله ابنه ولم يسعه إلا أن يعبر عن رفضه التام بكل طريقة ممكنة قائلاً لابنه أن الأفضل له أن يتزوج فتاةً عربيةً مسلمة. لم يستسلم الابن وكرر الاتصال بوالده مراراً حتى لان أبوه قليلاً فوافق على شرط واحد أخبر ابنه أنه لن يتنازل عنه أبداً ألا وهو أن تُشهر صديقته إسلامها قبل أن يتزوجا فيكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد: تزوج الفتاة التي يحبها، وكسب ثواب هدايتها ودخولها في دين الله. وافق أحمد على شرط أبيه على مضض فلم يكن أمامه من سبيل غير ذلك، وأخبر كريستين بما دار بينه وبين أبيه، فلم تمانع وأخبرته بأنها هي الأخرى لها شرط واحد تصر عليه، وهو أن يحضر لها كتباً باللغة الإنجليزية عن الإسلام ثم يمهلها ثلاثة أشهر تقرأ فيها هذه الكتب قبل أن تخبره بموقفها ورأيها النهائي، على ألا يتقابلا أو يتحدث إليها هاتفياً طوال تلك المدة. وجد أحمد نفسه للمرة الثانية مضطراً للخضوع، فلا بديل أمامه غير الموافقة. أحضر أحمد مجموعةً من الكتب تشرح بشكل مبسط الإسلام من جوانبه كافةً عقيدة وسيرة وفقه ومعاملات، سلمها لكريستين وانتظر ثلاثة أشهر. أحس أحمد إنها أطول ثلاثة أشهر مرت به في حياته، مرت كأنها ثلاث سنوات، ولما كانت آخر ليلة من ليالي هذه الشهور الطوال جافاه النوم وظل مستيقظاً حتى الصباح تتقاذفه الأفكار ما بين هواجس الخوف وآمال الرجاء. مع تباشير صباح اليوم الموعود أعد لنفسه كوباً من الشاي وجلس قريباً من الهاتف مترقباً اتصال كريستين لتخبره رأيها وموقفها النهائي، احتسى الشاي سريعاً وظل ينتظر، مرت اللحظات طويلة بطيئة متثاقلة وخيم الصمت على المكان، لم يكن يسمع سوى صوت أفكاره لاهثةً متسارعةً لا تهدأ حتى قطع ذلك الصمت رنين الهاتف، أمسك بالسماعة وهو يدعو الله أن تكون هي المتصلة وأن يسمع منها ما يسره .. يا لها من لحظة .. إنها لحظة فارقة .. آهٍ لو يتحقق حلمه لكان أسعد إنسان على ظهر الأرض .. وضع السماعة على أذنه فإذا هي بالفعل كريستين الفتاة التي يحبها بجنون ويتمنى أن يتزوجها، سألها بلهفة عن أخبارها، أخبرته بصوت هادئ أنها بخير، وأن لديها خبرين له أحدهما حسن والآخر سيء، وسألته أيهما يفضل أن يسمع أولاً، قال أحمد فلنبدأ بالخبر الحسن، قالت كريستين إنها وفت بوعدها معه، وأنهت قراءة كل ما أعطاها من كتب، كما قرأت كتباً أخرى إضافية عرفتها أكثر على الإسلام، وأنها اتخذت قرارها بالفعل .. ثم سكتت لحظة .. كان أحمد يستمع إليها ويكاد قلبه أن يتوقف مع كل كلمة تنطق بها، إنه ينتظر القرار، مرت تلك اللحظة كأنها دهر، أحس أحمد أثناءها أن الزمن قد تجمد، إلى أن أخبرته كريستين بذات الهدوء والثقة أنها اقتنعت بما قرأت .. عادت له روحه وسمع ضربات قلبه تعلو على وقع ما سمع .. أكملت حديثها وقالت له إنها اعتنقت الإسلام بالفعل واختارت لنفسها اسم فاطمة .. لم يتمالك أحمد نفسه من الفرحة فهتف بصوتٍ عالٍ "الله أكبر، ما أروعك يا كريستين .. أقصد يا فاطمة!"، حمد الله كثيراً في نفسه، ومن إحساسٍ بالتوجس والترقب والخوف إلى شعورٍ لم يمر به في حياته من قبل، شعور بسعادة طاغية وفرحة غامرة، الغريب أنه وفي هذه الحالة أيضاً كاد قلبه أن يتوقف، لكن هذه المرة من شدة الفرح .. قال لفاطمة مبتهجاً: "الحمد لله، لم يعد هناك الآن ما يحول بيننا وبين أن نتزوج" .. ثم تدارك الأمر بينه وبين نفسه .. ما هو يا ترى الخبر السيء؟ ..  أحس أحمد بشيء مريب، يتسرب إلى نفسه .. إحساسٌ غامضٌ بدأ يتملكه ويستحوذ على فكره .. إحساسٌ بأن شيئاً ما حدث أو ربما سيحدث لكنه لا يعرف ما هو بالضبط .. عاوده شعوره بالقلق .. وأفاق على صوت فاطمة وهي تقول: "هذا للأسف هو الخبر السيء"، وأخبرته أن قرارها فيما يتعلق بزواجهما هو ألا ترتبط به؛ فهي لا تقبل به زوجاً! .. كادت سماعة الهاتف أن تقع من يد أحمد، دارت به الأرض، والتفت ساقه بالأخرى فهوى جالساً على أقرب أريكة، لم يكن يصدق ما يسمع، ولم يدرِ ما يقول، حاول أن يتكلم خانه لسانه واحتبست الكلمات في حلقه، أحس بلسانه ثقيلاً لا يطاوعه إذا أراد الكلام، وعندما أراد أن ينطق أحس بصوته مبحوحاً لا يكاد يُبين، ففضل الصمت مرغماً .. خطر على باله إنه ربما كان نائماً يحلم .. نظر إلى نفسه أمستيقظٌ هو أم نائم؟ .. وجد نفسه يقظاً .. إنه إذن حُلمٌ من أحلام اليقظة .. قرص نفسه وعندما أحس بوخز القرصة علم أنه لا يحلم .. لكن مستحيل أن يكون ما سمعه من فاطمة صحيح .. ربما أصابته حُمى غَيَّبَته عن وعيه للحظات أو أثرت على سمعه .. أخذ أحمد يكلم نفسه: "لا .. لا .. يبدو الأمر جدياً .. يا إلهي .. أكاد لا أصدق ما سمعته .. اللهم اجعله كابوساً ينتهي فأصحو على فرحة .. آه .. فهمت الآن ما حدث .. إنها تمزح .. نعم فاطمة تحب المزاح .. يا له من مزاح ثقيل .. ألم تجدي يا حبيبتي مجالاً للمزاح غير هذا؟ .. لكني لا ألومك .. فأنت كعهدي بك لطيفة رقيقة مرحة تحبين الحياة وتميلين للمزاح .. كان صوت ضحكاتك لا يفارقني طوال الشهور الثلاثة الماضية .. صورتك وأنت مبتسمة ظلت ترافقني طوال تلك المدة .. لم يخفف عني ألم البُعد لتسعين يوماً سوى ذكرياتي معك .. هذه هي الحديقة التي شهدت أول لقاء لنا .. هنا في هذا المطعم على هذه الطاولة كنا نجلس لنتناول غداءنا .. أتذكرُ كل كلمة .. كل لفتة .. كل ابتسامة .. كل مزحة .. أما مزحتك يا فاطمة الآن وفي هذا الموضوع فهي لا تُحتمل" .. اكتشف أحمد أنه كان يحدث نفسه، أما فاطمة فكانت قد بدأت في توضيح موقفها، قالت له إنها بدأت قراءة الكتب مرغمة، تحس أن ليس لها رغبة في قراءتها، لكنها وبالتدريج بدأت تحس برغبتها في القراءة تتزايد، وانتقل الأمر إلى اهتمام ورغبة في إتمام ما تقرأ، ثم إلى شغف جعلها تقرأ المزيد عن الإسلام في كتب أخرى، لم تعرف في البداية ما الذي كان يشدها على هذا النحو، وما الذي بدل حالها، لكنها كلما قرأت كلما أحست بشيء يتحرك بداخلها، كأنه شعور جديد يولد في أعماقها، لم تشعر بمثل هذا الشعور من قبل، لقد تملكها شعور بالطمأنينة وراحة نفسٍ لم تحس بهما من قبل أبداً، وجدت نفسها مع كل كلمة تقرأها تقترب من شيء كان ضائعاً منها، كانت كأنها تكتشف ذاتها الحقيقية للمرة الأولى .. أكملت فاطمة حديثها مع أحمد عبر الهاتف، بنفس الثبات الذي بدأت به، وقالت له أنها لم تر فيه من الإسلام الذي قرأت عنه وأحبته واعتنقته عن قناعةٍ سوى اسمه، لم تشاهده يوماً يصلي، لم تسمع منه أنه ذهب إلى مسجد، لم تعلم أنه صام يوماً، لم تر معه مصحفاً ولم يحدثها بآية من القرآن الكريم ولا بحديث من أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، لم تره يتصدق على فقير، لم تلمس بره بوالديه، لم .. ولم .. ولم .. استمرت فاطمة في عرض لائحةٍ كاملةٍ يبدو أنها كانت قد أعدتها سلفاً لهذه المحادثة الهاتفية، حتى وصلت للقول أنها لم تجد فيه الزوج المسلم المناسب لها الذي يأخذ بيدها ليدخلا معاً جنةً عرضها كعرض السموات والأرض أعدها الله سبحانه وتعالى للمتقين. ومع ما فيه أحمد من ذهولٍ ألجم لسانه، حاول أن يرد لكن فاطمة لم تترك له فرصة، أكملت كلامها بشكره على أن أتاح لها فرصة عمرها التي لم تكن تحلم بها أو تتصور أن تحدث معها حين كان سبباً في تعرفها على الإسلام، وأنهت مكالمتها بأنها لن تنسى له هذا الجميل طوال حياتها، وأنها تدعو له الله بالهداية!

أحبتي في الله .. كانت هذه قصة استمعت إليها ملخصةً، لا أعلم إن كانت حقيقية أم لا، سردها الخطيب في صلاة الجمعة الماضية، قمت بإعادة صياغتها وتصوير أحاسيس ومشاعر أطرافها وإضافة رتوش لها، وأحببت أن أعرضها عليكم عسى أن نستلهم منها العبرة؛ فيغير منا من كان مثل أحمد مجرد (مسلم بطاقة) أحواله ليكون مسلماً بحق؛ إيجابياً فاعلاً ومتفاعلاً يعايش واقعه وعصره ويتعامل مع معطياته المتغيرة المتجددة مع حفاظه على هويته الأصلية وثقافة مجتمعه وتمسكه بمرجعيته الإسلامية، ليكون سفيراً للإسلام وعنواناً على دين الله الحق، أسوةً وقدوةً لغيره من الناس .. فعندما يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ فلابد أن يرى الناس في كل مسلمٍ منا أسباب هذه الخيرية التي اختصنا الله بها، يرونها في أقواله وأفعاله ومعاملاته.

أحبتي .. يحكم غير المسلمين على الإسلام من خلال ما يرونه من واقع المسلمين وأحوالهم .. إذن فهي مسئوليتنا نحن، وليست مسئولية غيرنا، أن نقدم للآخرين الصورة الصحيحة عن الإسلام، وأن يكون المسلمون الأولون قدوة لنا حين كانوا خير سفراء لخير دين، فلا يكتفي أيٌ منا بأن يكون (مسلم بطاقة)، بل علينا جميعاً أن نرتقي بواقعنا وأحوالنا لنكون خير مثال لهذا الدين العظيم الذي أكمله الله لنا وأتم به نعمته علينا ورضاه لنا وللبشرية جمعاء ديناً، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/QeBF7u