الجمعة، 8 مايو 2020

يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً

الجمعة 8 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٨

(يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً)

 

قصتنا اليوم حدثت في روسيا، الاتحاد السوڤيتي سابقاً، أواخر أربعينيات القرن الماضي. يقول «نيكيتا خروتشوف» -السكرتير العام للحزب الشيوعي السوڤيتي وقتها- في مذكراته:

اتصل بي الرفيق «جوزيف ستالين» رئيس الدولة، وقال لي: "تعال إلى مكتبي بسرعة يا «نيكيتا».. هناك مؤامرةٌ كبيرة". وصلتُ وكان معي مجموعةٌ من الوزراء، قال «ستالين»: "يا رفيق «نيكيتا»، لدينا معمل إطارات سيارات -كان هديةً من شركة فورد الأمريكية- ينتج الإطارات منذ سنواتٍ بشكلٍ جيد، ولكن فجأةً، ومنذ ستة أشهرٍ بدأ هذا المعمل ينتج إطاراتٍ تنفجر بعد أن تسير حوالي ١٠٠ كلم، ولم يعرف أحدٌ السبب. أريدك أن تذهب إلى المعمل فوراً وتكتشف ما هو السبب".

وصلتُ إلى المعمل، وباشرتُ التحقيق فوراً، وكان أول ما لفت نظري هو حائط الأبطال على مدخل المعمل، على هذا الحائط تُوضع صور أفضل العمال والإداريين الذين عملوا بجدٍ ونشاطٍ كل شهر. بدأتُ التحقيقات مباشرةً مع جميع العاملين، من مسئولي الإدارة حتى أصغر عامل؛ ولا أحد منهم يعرف سبب انفجار الإطارات. قررتُ النوم في المعمل حتى أحل هذا اللغز. استيقظتُ في صباح اليوم التالي مبكراً، وقفتُ في أول خط الإنتاج، وقمتُ بمتابعة أحد الإطارات وسرتُ معه من نقطة البداية حتى خروجه من المعمل، وأُصبتُ بالإحباط؛ فكل شيءٍ طبيعيٍ، وكل شيءٍ صحيحٍ، وكل شيءٍ متقنٍ، ومع ذلك انفجر الإطار بعد عددٍ قليلٍ من الكيلومترات! جمعتُ المهندسين والعمال والإداريين، وأحضرتُ المخططات، وقمتُ بالاتصال بالمهندسين الأمريكيين، لكننا لم نصل إلى معرفة السبب! قمتُ بتحليل المواد الخام المستخدمة في صناعة ذلك الإطار؛ أثبتت التحاليل أنها جميعها ممتازةٌ جداً، ومعنى ذلك أنها ليست السبب في انفجار الإطار! فما هو سبب انفجار الإطار يا تُرى؟ يستحيل أن ينفجر الإطار بدون سبب!

أصابني الإحباط، وأحسستُ بالعجز. وبينما أنا أمشي في المعمل لفت نظري -مرةً أخرى- حائط الأبطال في مدخل المعمل؛ ولاحظتُ تكرار اسم أحد المهندسين لستة أشهرٍ متتاليةٍ ووضعه بالمرتبة الأولى، أي منذ بدأت هذه الإطارات بالانفجار بدون سبب، لم أستطع النوم، وقمتُ باستدعاء هذا المهندس إلى مكتبي فوراً، وقلتُ له: "أرجوك اشرح لي يا رفيق كيف استطعتَ أن تكون بطل الإنتاج لستة أشهرٍ متتالية؟"، قال: "لقد استطعتُ أن أوفر الملايين من الروبلات للمعمل والدولة"، قلتُ: "وكيف استطعت أن تفعل ذلك؟"، قال: "ببساطةٍ، قمتُ بتخفيف عدد الأسلاك المعدنية في الإطار، وبالتالي استطعنا توفير مئات الأطنان من المعادن يومياً". هنا أصابتني السعادة الكبيرة لأنني عرفتُ حل اللغز، وعرفتُ أخيراً السبب وراء انفجار الإطارات. لم أصبر على ذلك؛ فاتصلتُ ب«ستالين» فوراً، وشرحتُ له ما حدث. وبعد دقيقة صمتٍ قال لي بالحرف الواحد: "والآن.. أين دفنتَ جثة هذا الغبي؟"، كان ردي: "في الواقع لم أعدمه يا رفيق.. بل سأنفيه إلى «سيبيريا»، لأن الناس لن تفهم لماذا نعدم بطل إنتاج لستة أشهرٍ متتالية"!

 

أحبتي في الله .. ما إن انتهيتُ من قراءة هذه القصة إلا وتذكرتُ على الفور قوله تعالى: ﴿قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأَخسَرينَ أَعمالًا . الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾. نزلت هذه الآية في الكفار عبدة الأوثان الذين أضلتهم شياطينهم فزينت لهم أعمالهم وحسبوا أنهم مهتدون، لكن كما تقول القاعدة الفقهية: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب".

 

يقول المفسرون عن هذه الآية: ﴿قُل هَل نُنَبِّئُكُم﴾ أي نخبركم ﴿بِالأَخسَرينَ أَعمالًا﴾، الأخسرون: اسم تفضيلٍ من خاسرون، فالأخسرون هم الأكثر خسارة، وفسرهم سبحانه فقال: ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا﴾ أي عملوا أعمالاً باطلةً غير مشروعةٍ ﴿وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾ أي يعتقدون أنهم على شيء، وأن عملهم مقبول. وفي ذلك دلالةٌ على أنَّ مِن الناس مَن يعمل العمل وهو يظن أنه محسنٌ، وقد حبط سعيه، وبَطُلَ عمله.

واستخدم القرآن الكريم تعبير ﴿بِالأَخسَرينَ أَعمالًا﴾ وليس "الأخسرين عملاً"؛ حيث أنَّ التمييز يكون عادةً مفرداً، ليبين أنّ هؤلاء لم يخسروا في عملٍ واحدٍ معين، بل إِنَّ جهلهم كان سبباً للخسران في جميع أعمالهم، وهذا هو الخسران المبين. ويكون الجهل مُركباً عندما يجهل الإنسان ويجهل أنه يجهل؛ ذلك أن الإنسان إذا علم بجهله فإنه يسعى إلى إزالة جهله بالتعلم، أما الإنسان الذي يجهل بأنه جاهلٌ فهذا لا يُتصوَر أن يزيل جهله يوماً لعدم علمه به أساساً؛ فيستمر في خسرانه؛ فمن يخسر نتيجة عملٍ ما ويبقى مُصراً عليه فلا يُصلحه ولا يُقوِّمه فضلاً عن أن يغيره ويبدله يكون في خسارةٍ دائمةٍ؛ لذلك سمى القرآن الكريم هؤلاء الأشخاص بالأخسرين، ووصفهم بأنهم (يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً)، إنهم أُولئك الذين يرون ذنوبهم عبادةً، وأعمالهم السيئة أعمالاً صالحةً، وانحرافهم استقامةً!

 

يقول أحد العلماء إنه يمكن أن تنطبق هذه الآية أيضاً على المسلم حين يُخطئ أو يرتكب معصيةً وهو يظن أنها خيرٌ؛ مثل مَن ينصب على الناس ويخدعهم ليأخذ أموالهم ظناً منه أنَّ هذه شطارة وفهلوة وذكاء، ومثل مَن تخلع الحجاب بحُجة أنه رجعيةٌ وتخلفٌ وأن السفور تقدمٌ ورقي، ومثل مَن يرى في المَشاهد الإباحية والرقص والعُري فناً ورسالةً، ومثل الصحفي الذي ينشر فضائح الناس ويتتبع عوراتهم ويشوه سمعتهم بحُجة أنَّ ذلك خبطةٌ صحفيةٌ، وأنه ينشر الحقائق والواقع. هؤلاء وأمثالهم لا يختلفون عن «فرعون» الذي رأى كفره شيئاً جميلاً وعظيماً فقال لقومه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.

هؤلاء يقول تعالى عنهم: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾، هذا هو مفتاح الشر كله؛ أنْ يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حَسناً؛ فيُعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها، ولا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثقٌ من أنه لا يُخطئ! متأكدٌ أنه دائماً على صواب! معجبٌ بكل ما يصدر منه! لا يخطر على باله أن يُراجع نفسه في شيءٍ، ولا أن يحاسبها على أمر، وهو -بطبيعة الحال- لا يطيق أن يُراجعه أحدٌ في عملٍ يعمله أو في رأيٍ يراه؛ لأنه حَسنٌ في عين نفسه، مُزينٌ لنفسه، لا مجال فيه للنقد ولا موضع فيه للنقصان!

 

إن الخسران المبين هو أن يظن الإِنسان أنَّهُ يُحسن العمل وهو في الواقع يُفسده؛ فهو لا يتعلم من أخطائه؛ لأنه ببساطةٍ لا يدرك أصلاً أنه يُخطئ! إنه -فوق ذلك- لا يشك للحظةٍ فيما يعمل، وهو متأكدٌ ومتيقنٌ من أن ما يعمله هو عين الصواب فيكرره مراتٍ ومرات، وتجده لا يتقبل النقد أبداً، ولا يُقَرِّب منه إلا الحمقى الذين يوافقونه، والمنافقين الذين يمدحونه، والمنتفعين المتكسبين من وراء أخطائه، وهذا هو الغباء بعينه!

 

يكلف الغباء صاحبه خسارةً شخصيةً كبيرةً، تتضاعف الخسارة وتتزايد وتتحول إلى خسارةٍ عامةٍ عندما يكون العمل الذي يُنفذ بغباءٍ مؤثراً على عددٍ كبيرٍ من الناس، وتصل الخسارة إلى ذروتها عندما يكون العمل مؤثراً على قومٍ بأكملهم، رغم أنَّ مَن يقومون بهذه الأعمال (يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً) كما في قصة «فرعون»؛ يقول تعالى: ﴿... وَما أَمرُ فِرعَونَ بِرَشيدٍ . يَقدُمُ قَومَهُ يَومَ القِيامَةِ فَأَورَدَهُمُ النّارَ وَبِئسَ الوِردُ المَورودُ﴾.

ويُذَكِّرنا التاريخ الحديث ببعض الأغبياء الذين تولوا مسئولية العمل في مواقع مهمةٍ ومؤثرةٍ فتسببوا بقراراتهم الغبية في خساراتٍ، ليتها كانت لأنفسهم فقط، وإنما -وللأسف- تعدت ذلك وتأثر بها كثيرون غيرهم؛ فكان الخسران المبين؛ كما حدث في الحرب العالمية الثانية -على سبيل المثال- حيث قُدِّر إجمالي عدد ضحاياها بما يتراوح ما بين 62 و78 مليون قتيل!

 

أحبتي .. علينا أن نبدأ بأنفسنا؛ نخطط لأي عملٍ قبل أن نشرع في تنفيذه -سواءً على المستوى الشخصي أو على مستوى يؤثر على الآخرين- ندرسه جيداً، نحلل الواقع، نستفيد من تجارب غيرنا وتجاربنا السابقة، نرجع إلى المختصين، نستفيد من آراء الخبراء، نتشاور، ثم نتوكل على الله ونقوم بالتنفيذ، ونهتم بالتقييم الذاتي أثناء التنفيذ، ونستمع بصدورٍ رحبةٍ إلى النقد الذي يساعدنا على تصحيح وتقويم العمل حتى يصل إلى منتهاه محققاً أهدافه، ثم ننهي ذلك بتقييم ختامي نستفيد منه كتغذية راجعة، ويستفيد منه غيرنا عند تخطيطهم لأعمال مشابهة.

قد يقول قائل: "انتهيتَ إلى نصائح منهجيةٍ علميةٍ أكثر منها دينية!"، أقول: "ديننا دين الفكر والتدبر واستخلاص العبر ومراجعة النفس والتشاور وسؤال أهل العلم والأخذ بالأسباب، وهو دين الفطرة السليمة وصلاة الاستخارة والاستعانة بالله والتوكل عليه؛ ولا صدام بين ذلك كله".

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلنا ربنا ممن يرتكبون الأخطاء بجهالةٍ وهُم (يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً).

https://bit.ly/2Wfqke3