الجمعة، 6 مارس 2020

تدبير الله


الجمعة 6 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٩

(تدبير الله)

العم مصطفى سائق سيارة أجرة بالقاهرة، متزوجٌ ولديه طفلةٌ مريضةٌ بالقلب، ركب معه ذات يومٍ شابٌ أسمر اللون، نحيفٌ، يرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً أسود، ركب من ميدان رمسيس قاصداً ألماظة. العم مصطفى مريض سكرٍ، ويُعالَج بالأنسولين، أحس أثناء القيادة أن السكر قد ارتفع في جسمه، بدأ يحس باضطرابٍ في بصره، ثم بدوارٍ شديدٍ؛ حيث أنه لم يتناول دواءه ذلك اليوم؛ إذ لم يكن معه من النقود ما يكفي لشراء الدواء، فقرر أن يؤجل الجرعة لآخر اليوم حتى يتوفر له ثمن الدواء. تمكن بصعوبةٍ بالغةٍ من إيقاف السيارة بجانب الطريق. لم يحس بنفسه إلا وهو نائمٌ على سريرٍ بمستشفى. سأل عما حدث له، أخبره العاملون بالمستشفى بأن شاباً أحضره وهو في غيبوبة السكر، وتركه ومشى، ووصفوا له ذلك الشاب، هو إذن الشاب الذي كان آخر من ركب معه، لكنه لا يتذكر أي شيءٍ بعد إيقافه السيارة. حمد الله أنَّ هذا الشاب كان معه وقت غيبوبة السكر، وأنه لم يتركه بل أوصله إلى المستشفى لتلقي العلاج. ومع استعادة وعيه، بحث السائق عن هاتفه فلم يجده، وبحث عن حافظة نقوده لم يجدها، ثم بحث عن السيارة خارج المستشفى فلم يجدها! عاد أدراجه إلى المستشفى وطلب بيانات الشاب الذي أوصله، فوجئ بأنه ترك لهم بيانات السائق من واقع بطاقة إثبات الشخصية التي كانت بحافظة نقوده، لكن الأمر الغريب أنه دفع حساب المستشفى قبل أن ينصرف! إذن هي عملية سرقةٍ مكتملة الأركان؛ استولى فيها الشاب على سيارة الأجرة، والهاتف، وحافظة النقود، لكنه كان صاحب قلبٍ رحيمٍ فقام بدفع تكاليف العلاج! وربما فعل ذلك ليبعد عن نفسه شبهة السرقة! خرج العم مصطفى من المستشفى كالمجنون، وتوجه فوراً إلى أقرب مخفر للشرطة، وقدم بلاغاً بسرقة سيارة الأجرة، ضمَّنه مواصفات الشاب الذي كان يركب معه وقت أن فاجأته غيبوبة السكر، والمكان الذي ركب منه، وترك لهم صورة ذلك الشاب التي حصل عليها بعد مراجعة كاميرات المستشفى.
من شدة الصدمة، لم يستطع عم مصطفى أن يعود إلى بيته، ظل يلف في الشوارع وهو يبكي من حسرته على نفسه، وعلى ابنته المريضة، وعلى فقدان سيارته التي كان يتكسب منها والتي هي كل ما يملكه في هذه الدنيا. ويا للعجب؛ قبل حدوث هذه الواقعة بشهرٍ واحدٍ فقط، كان قد دفع آخر قسطٍ من أقساط السيارة، ولا يعلم إلا الله كم تعب وتحمل من أجل ذلك، ثم ها هو يجد نفسه وقد ضاعت منه سيارته في لحظة! ظل يبكي ويصرخ قائلاً: "أيرضيك يا ربِ، بعد كل هذا التعب، يضيع مني مصدر دخلي الوحيد؟ كيف أصرف الآن على أسرتي وعلى علاج ابنتي؟ ليس مهماً علاجي أنا، لكن ما ذنب ابنتي؟ ماذا أفعل؟ هل أدور في الشوارع حاملاً ابنتي أتسول بها؟". كان يكلم الله سبحانه وتعالى وهو يبكي بكاءً شديداً في الشارع، حتى أنَّ بعض الناس سارعوا إلى تهدئته وأحضروا مقعداً له ليجلس عليه وأحضروا له ماءً ليشربه. وكان ممن تأثروا بحاله سائق سيارة أجرةٍ أشفق عليه؛ فسأله عن عنوان بيته، وقام بتوصيله إليه. عندما وصل إلى منزله نزل من سيارة الأجرة مثل المجنون، وكأن ماساً كهربائياً أمسك به؛ فما رآه كان غير معقولٍ أبداً، رأى آخر ما يمكن أن يتوقع رؤيته، رأى سيارة الأجرة الخاصة به واقفةً أمام باب بيته! توجه مسرعاً إلى شقته فوجد ابنته نائمةً على السرير ومُعلقٌ لها جهاز تنفس، وبجوارها زوجته التي رحبت بعودته سالماً حيث فوجئ أنَّها كانت تعلم أنه محجوزٌ في المستشفى! سأل عما حدث، قالت له زوجته: "اشتد تعب البنت أمس؛ فاتصلتُ بك فرَّد عليّ شابٌ وأخبرني بحالة غيبوبة السكر التي حدثت لك، وأنه قام بنقلك إلى المستشفى، وعرف عنوان البيت فأتى إلينا بسيارة الأجرة الخاصة بك وأوصلنا إلى المستشفى، وبعد أن اطمأننتُ عليك، كان لابد من سرعة علاج البنت، فقام هذا الشاب بكل ما يلزم لعلاجها واشترى لها جهاز التنفس الذي تراه، وأعادنا إلى البيت، وسلمني هاتفك وحافظة نقودك ومفاتيح سيارتك. ولولا هذا الشاب لكانت البنت قد ماتت، جزاه الله خيراً لم يترك لي فرصةً لصرف أية نقود، قام بتحمل كل النفقات الخاصة بعلاج البنت!"، كان عم مصطفى يستمع إلى كلامها وهو مندهشٌ، كما لو كان يستمع إلى قصةٍ من نسج الخيال، لولا أن رأي بأم عينيه سيارته، وجهاز التنفس الواصل بابنته، وها هي متعلقاته الشخصية كلها بين يديه لم ينقص منها شيء. شَعر عم مصطفى بالندم الشديد، واكتشف كم كان مخطئاً حينما أساء الظن بذلك الشاب، الذي أرسله الله له في الوقت المناسب لينقذه، ولولا عودته بالسيارة إلى البيت ومسارعته إلى علاج البنت لكانت ماتت. سأل نفسه: "ماذا كان سيحدث لو لم يرسل الله لي هذا الشاب في ذلك الوقت وفي ذلك المكان؟!" وأيقن أن كل ما تم كان من (تدبير الله). ذهب بسرعةٍ إلى مخفر الشرطة وتنازل عن المحضر، وظل يبحث عن ذلك الشاب في كل مكانٍ، لكنه لم يجده أبداً!

أحبتي في الله .. تذكرني هذه القصة بقصةٍ أخرى لأحد القضاة بالشام؛ كتب يقول: ذهبنا في المساء عند أحد الأصدقاء، فشعرتُ بضيقِ نفسٍ، واختناقٍ شديدٍ، فاستأذنتُ أصدقائي للرحيل، فأصروا على أن أُتم السهرة معهم، ولكني لم أستطع، وقلتُ لهم: أريد أن أتمشى لأستنشق هواءً نقياً؛ فخرجتُ أمشي وحدي في الظلام، وبينما أنا كذلك، إذ سمعتُ بكاءً ونحيباً وابتهالاً، آتياً من خلف تلةٍ، فنظرتُ فوجدتُ امرأةً تبدو عليها مظاهر البؤس، وكانت تبكي بحُرقةٍ، وتدعو الله،
اقتربتُ منها، وقلتُ لها: "ما الذي يبكيكِ يا أختي؟"، قالت: "إن زوجي رجلٌ قاسٍ وظالمٌ، طردني من البيت، وأخذ أبنائي، وأقسم ألا أراهم يوماً، وأنا ليس لي أحدٌ، وليس لي مكانٌ أذهب إليه"؛ فقلتُ لها: "ولماذا لا ترفعين أمرك للقاضي؟"، فبكت كثيراً وقالت: "كيف لامرأةٍ مثلي أن تصل للقاضي؟". يقول الشيخ وهو يبكي: والمرأة تقول هذا، وهي لا تعلم أن الله سبحانه وتعالى قد جَرَّ القاضي -يقصد نفسه- من رقبته ليُحضرهُ إليها!
فسبحان مدبر الأمر، سبحان من جعل القاضي يخرج في ظلمة الليل، ليقف أمام هذه المرأة بقدميه، ويسألها هو بنفسه عن حاجتها، إنه من يعلم السر وأخفى. لماذا أحس القاضي بالضيق؟ ولماذا خرج وحده في الظلام؟ ولماذا في هذا الوقت وفي هذا المكان دون غيره؟ كل ذلك لم يكن ليكون لولا أنه من (تدبير الله) سبحانه وتعالى.

يقول الله جلَّ شأنه: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.
يقول المفسرون: التدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود. ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ أي يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويُهيئ الأسباب لإنفاذ مشيئته؛ فالله سبحانه وتعالى يدبر أمر الخلائق ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ ولا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، ولا تُعجزه المسائل: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ و﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
ويقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [... إِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ...].

أما أهل العلم فيقولون إن من أركان الإيمان الستة، الإيمان بالقضاء والقدر؛ خيره وشره، فالمؤمن يعتقد أن الله تعالى يدبر الأمر كله، وتدبير الأمر يعم تقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حال وأحمد عاقبة. و"المدبر" يعني أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الفاعل الحقيقي في هذا الكون، وأنَّ ما نظنه هو الفاعل من البشر أو غيرهم ما هو إلا سبب، فلو لم يُرد الله أمراً لن يحدث أبداً. و"المدبر" يعني -أيضاً- أن الله -سبحانه وتعالى- يدبر شؤون عباده المؤمنين بما هو أصلح لدينهم ودنياهم.
‏‏
ويقول أحد السلف: "لو علم العبد كيف يدبر الله له أموره؛ لعلم يقيناً أنّ الله أرحم به من أمه وأبيه، ولذاب قلبه محبةً لله".

ويقول الشاعر:
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ
أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِهِ
لا تَيْئَسَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً
لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ
إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ
فحَسْبُك اللهُ في كُلٍّ لكَ اللهُ

تتكرر قصة عم مصطفى وقصة قاضي الشام في حياتنا بأشكالٍ وصور وتفاصيل مختلفةٍ؛ نتساءل في أول الأمر: "لماذا يحدث هذا؟!"، أو "كيف حدث هذا؟!"، أو "لماذا أنا يا رب؟"، ثم عندما يتبين لنا أن ما حدث هو من (تدبير الله) سبحانه وتعالى، لا نملك سوى أن نقول: سبحانك ربنا، رضينا بما قسمتَ لنا، والحمد لله رب العالمين. قد ندرك نعمة الله علينا وتلطفه بنا ورحمته لنا بما كنا نظنه شراً -بعد وقتٍ قصيرٍ أو طويلٍ- حينها نخجل من أنفسنا، ونستحي من الله سبحانه وتعالى، وندرك أننا كأننا نطالع لأول مرةٍ الآية الكريمة: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقد تمر الأيام والسنون ولا ندرك حكمته سبحانه فيما جرت به المقادير فنسَلِّم بعدها بأن ما حدث هو من (تدبير الله) عزَّ وجلَّ؛ خفف عنا به ضُراً لم نكن نعلمه، أو أنه ادخر لنا ثواباً وأجراً في الآخرة لم نكن لنستحقه لولا وقوع ما نحسبه شراً أو بلاءً.

أحبتي .. إن (تدبير الله) خيرٌ من تدبيرنا لأنفسنا. وصدق مِن الصالحين مَن قال: إذا أردنا الفلاح في الدنيا والآخرة فلندعو الله أن يدبر لنا؛ فنحن ليس بأيدينا شيءٌ إلا السعي والأخذ بالأسباب، والله ولي التدبير لنا وللمخلوقات جميعاً، وقد ندعو الله بما نحب، فإذا وقع لنا ما نكره علينا الرضا والتسليم بما قدَّر الله؛ فان اختيار الله لنا أفضل وأكمل. وقد تتأخر استجابة الدعاء، فلنثق بالله ولا نستعجل.
سبحان مُدَبِّر الأمر، سبحان العليم بخلقه، اللطيف بهم؛ يسمع دعاءهم وشكواهم، ويُفَرِّج كروبهم وهمومهم، فيا مَن تشعر بالبؤس والضيق، ويا مَن تشعر بالظلم، ويا مَن تظن أن الدنيا قد أظلمت في وجهك، فقط ارفع يديك إلى السماء، وتضرع لمن يسمع الدعاء، ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وكُن على يقينٍ أن الله يُدَبِّر الأمر، ويأتي بالفرج بعد الضيق، وباليسر بعد العسر؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
اللهم دَبِّر لنا فإنّا لا نُحسن التدبير، وأعِنّا على ما أردته بنا مِن تغيير، واكتب لنا في كل خطوةٍ التيسير، إنك بنا يا ربنا لطيفٌ خبير.

http://bit.ly/3axdZWF)