الجمعة، 31 يناير 2020

يا جبار اجبر كسري


الجمعة 31 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٤
(يا جبار اجبر كسري)

تقول إحدى الأخوات: تزوجتُ ثم شاء الله أن أتطلق من زوجي؛ فعشتُ مع أمي وأبي، وكانا وحيدين بعد زواج إخوتي وأخواتي، واحتسبتُ الأجر وصبرتُ وكنتُ أقوم على خدمتهما فأشعر بلذةِ الطاعة.
في يومٍ من الأيام ذهب والداي إلى منطقةٍ أخرى لزيارة أحد أقاربنا، وشاء الله -سبحانه وتعالى- أن يُتوفيا في حادث مرور؛ فكانت فاجعة فقدان الوالدين هي أكبر الآلام التي عشتُها في حياتي. ثم انتقلتُ للعيش مع إخوتي، وكنتُ أتنقل بينهم؛ بين كل فترةٍ وفترةٍ أذهب إلى منزل أحدهم، ولكن زوجات إخوتي لم يكنّ يرغبن بوجودي معهن ويَرين أن وجودي يُقلل من راحتهن ويُقيد من حريتهن. ذهبتُ في مرةٍ إلى منزل أحد إخوتي، وكلما عاد من عمله نقلت له زوجته كلاماً عني وأنني أضايقها وأتدخل في شؤونها هي وأبنائها؛ فيقتنع أخي بكلامها ويغضب مني، وكم كنتُ أسمع من إهانةٍ وتجريحٍ بسبب ما يُنقل عني زوراً وبهتاناً. ويتكرر الأمر مع جميع زوجات إخوتي؛ أتنقل من منزلٍ إلى آخر لا أملك إلا دمعتي أمامهم. كنتُ أعاني من ظلم إخوتي وظلم زوجاتهم، ولم يكن لي إلا الدعاء وتفويض أمري إلى الله سبحانه وتعالى؛ فما كنتُ أجلس ولا أقوم ولا أعمل إلا وأنا أدعي بهذا الدعاء موقنةً به مفوضةً أمري إلى الله جلَّ شأنه: (يا جبار اجبر كسري).
انتقلتُ للعيش الدائم عند أحد إخوتي، فجعل لي غرفةً مخصصةً وحدوداً بمنزله لا أتعداها؛ فلا أرى أبناءه ولا أخالطهم! وكلما تذكرتُ مصيبتي أردد: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام طرق باب أخي رجلٌ يكبرني بعشرين عاماً -وكان متزوجاً وعنده سبعةٌ من الأبناء- طالباً يدي للزواج، وافق أخي على الفور دون أن يستشيرني؛ فقد أراد أن يتخلص مني لأني أصبحتُ ثقيلةً عليه، ولا أنسى ما قاله لي أخي يومها: "كفانا اللهُ شَرَّك"! كنتُ أبلع الكلام وأتحمل التجريح منه لأنني لو تكلمتُ فسيتم طردي من بيته ولا يهمه أين أذهب! كنتُ صابرةً محتسبةً، ودمعتي على خدي؛ فلا سندٌ لي سوى الله سبحانه، وكنتُ أردد دائماً: (يا جبار اجبر كسري).
تم عقد الزواج، ولم أرَ زوجي إلا مرةً واحدةً عندما ذهبنا إلى المحكمة الشرعية لإتمام العقد، واتفقنا على أن يتم الزواج بعد أسبوعين، لم يتكلف إخوتي عناء السؤال عن زوجي، فقد كان همهم الوحيد -هم وزوجاتهم كذلك- أن أتزوج، فقد كانوا كلهم يريدون فقط الخلاص مني. ذهب الرجل، ولم نكن نعرف عنه شيئاً سوى ذاك اليوم الذي أتى فيه، ومرَّت أيامٌ وأسابيع، ومرَّت شهورٌ دون أن نعلم عنه شيئاً. ازداد ظلم إخوتي لي، وكنتُ أسمع منهم كلماتٍ جارحةً؛ يقولون إن وجهي شؤمٌ، وعتبتي فقر. وظننتُ أن هذا الرجل الكبير قد غيَّر رأيه وتركني معلقةً، فلم أجد سوى الدعاء: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام -بعد مرور أربعة أشهر- إذا بطارقٍ يطرق باب بيت أخي يسأل عني! كان شاباً في الثلاثين من عمره، عرَّف نفسه بأنه ابن زوجي الغائب، أدخله أخي إلى غرفة استقبال الضيوف، ثم ناداني وطلب مني أن أقابل ابن زوجي، ولما دخلتُ عليه بالغرفة أنا وأخي قام وسلم عليّ، وكان مظهره يدل على أنه شابٌ خلوقٌ ووقورٌ، تبدو عليه سمات الصالحين، ثم جلسنا، قال الشاب: "أنا ابن فلانٌ -وذكر اسم والده- وقد صار لوالدي حادثٌ تُوفي على إثره، ووجدنا بسيارته وثيقة عقد زواجٍ تثبت أنه قد تزوج منكِ، ولم أستطع القدوم إليك إلا بعد انتهاء واجب العزاء لوالدي"، سكت للحظات وكأنما يترحم على والده ثم قال: "كان والدي ثرياً، وبعد وفاته تم تقسيم أملاكه بعد أن حصرناها جميعها، وأنتِ من ضمن ورثة والدي، وقد ورثتِ عنه منزلاً فخماً ورصيداً في البنك بالملايين، وقد أتيتُ إليكِ اليوم كي أسلمك هذه الأمانة، وأسألك عمن سيكون وكيلاً لك على أملاكك"، أُصبنا بالذهول أنا وأخي، نظر أخي إليّ وكأنه يقول: "اجعليني وكيلك"، أعاد الشاب عليّ السؤال: "مَن ستوكلين حتى تستلمي نصيبك من الميراث؟"، قلتُ له دون تردد: "أنت، نعم أنت مَن سأوكله"، قلتُ ذلك وأنا مازلتُ في حالة صدمةٍ وذهول. انصرف الشاب بعد أن قال بأنه سيأتي اليوم التالي لأذهب معه إلى منزلي الجديد. تركنا الشاب وأنا وأخي مازلنا في ذهولٍ مما سمعنا منه. لمّا سمع باقي إخوتي وزوجاتهم بما جرى صاروا يتسابقون كلهم في الاتصال بي وتقديم التهاني لي؛ لقد تغيروا تماماً، سبحان الله؛ غيَّر المال نفوسهم!
حزمتُ أمتعتي وانتظرتُ في اليوم التالي، وعندما أتى الشاب ذهبتُ معه أنا وإخوتي، دخلتُ منزلي الجديد، واللهِ لم أصدق ما رأته عيناي، كان المنزل فخماً جداً، وكان مجاوراً لمنزل زوجته الأولى وأبنائه.
مرت عدة أيامٍ وإذا بزوجته تأتي لزيارتي وتقول: "أنا مريضةٌ، وأنا مَن طلبتُ منه أن يتزوج؛ فما عدتُ أستطيع أن ألبي احتياجاته، وقلتُ له تزوج امرأةً تصغرك سناً"، وقالت لي أيضاً: "سنكون أنا وأنتِ أخواتٍ من الآن، وأولادي هم أولادك، وابني الكبير اعتبريه أخاً لكِ".
فواللهِ ثم واللهِ إني أعيش في سعادةٍ معهم؛ أبدلني الله خيراً من منازل إخوتي، وعشتُ مع أسرتي الجديدة في سعادةٍ، وكان أبناؤه وبناته يغمرونني بحنانهم وبِرهم بي، بِراً بوالدهم المتوفى، وكانت زوجته نِعم الأخت لي، وتذكرتُ دعائي لربي: (يا جبار اجبر كسري). أراد الله أن يجبر كسري، فجبره بدعائي هذا، وهو يعلم مدى إخلاصي ويقيني.

أحبتي في الله .. إن اسم الله “الجبار” من أسماء التعظيم والتنزيه، يدل على معاني العظمة والكبرياء، وهو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار؛ فهو سبحانه جبارٌ يقهر الجبابرة؛ فكل جبارٍ هو تحت قهر الله عزَّ وجلَّ وجبروته وفي يده وقبضته. ومن بين معاني اسم الله "الجبار" أنه هو الذي يَجبُرُ الضعيف وكل قلبٍ منكسرٍ؛ فيَجبُر الكسير، ويُغني الفقير، ويُيسر على المعسر كل عسيرٍ، ويُجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوضه عن مصابه أعظم الأجر، وإذا دعا الداعي فقال: (يا جبار اجبر كسري) فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته دفع المكاره عنه.
وقد ورد اسم "الجبار" في القرآن الكريم في موضعٍ واحدٍ، هو قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده مسبحاً: [سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ]، وكان يدعو بين السجدتين يقول: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي].
و"الجبر" يكون مداواةً للكسر، وتأتي منه الجبيرة التي تداوي كسر العظام. إن كلمة "الجبر" من الجبيرة التي نضعها على العظم المكسور حتى يلتئم. و"الخاطر" هو القلب أو النفس؛ فيُقال "أخذ على خاطره" بمعنى حزن وتأثر قلبه.

يقول العلماء: لمن يذهب المكسور إلا لربه الجبار؟ ولمن يشتكي المظلوم إلا للجبار الرحيم؟ ولمن يلجأ اليتيم الضعيف إلا للجبار؟ ولمن يعود المريض الذي ضاقت به الحيل إلا إلى الجبار سبحانه؟! الحياة كلها آلامٌ وانكساراتٌ وابتلاءاتٌ وصراعاتٌ لكن "الجبار" سبحانه يرحم عباده، فيرأب الصدع ويلم الشمل ويُغني الفقير ويجبر الكسير ويُعطي المحروم، لذلك كلما جئناه من باب الخضوع والتذلل والانكسار جبر كسرنا ولمَّ شعثنا ورأب صدعنا وأعزنا؛ فهو المصلح إنْ جبَر الفقير أغناه، وإنْ جبَر المريض شفاه، وإنْ جبَر الذليل أعزه، وإنْ جبَر الضعيف قواه، وإنْ جبَر الخائف أمّنه، فالجابر هو المصلح و"الجبار" كثير الإصلاح. إذا انكسرتَ ولجأتَ إلى الله مخلصاً متذللاً فلن يُرجعك خائباً، قد يؤخر الجبر لحكمةٍ يعلمها، لكنه لن يُضيعك أبداً، لابد وأنْ يُجبرك، قد يكون ذلك تدريجياً، لكنه -سبحانه وتعالى- سيجبر خاطرك ويأخذ لك حقك ممن ظلمك ولو بعد حين؛ فهو جبارٌ للمظلومين والمنكسرين، جبارٌ على الظالمين.

وإذا كان الله -بقوته وقدرته- يُجبر كسر الضعيف منا، ألا يجدر بنا أن نجبر -نحن الضعفاء- كسر أنفسنا؟
يقول أحد العارفين: “ما رأيتُ عبادةً يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.
ويقول آخر: ‏جبر الخواطر خلقٌ إسلاميٌ عظيمٌ يدل على سمو نفسٍ وعظمة قلبٍ وسلامة صدرٍ ورجاحة عقلٍ، يُجبر المسلم فيه نفوساً كُسرت وقلوباً فُطرت وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها؛ فجبر الخواطر يجعل القلوب تشرق من جديدٍ على بستان الحياة.
وليكن من جبرك للخواطر كلمةٌ طيبةٌ أو همسةٌ في أذنٍ؛ فكما قال الشاعر:
لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ
فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ

يقول عالمٌ فاضلٌ: قد تكون العبادات قليلةً، قد تكون الطاعات غير كثيرةٍ، قد لا يكون هذا المسلم ممن يقوم الليل أو ممن يتهجد أو يصلي النوافل، قد لا يكون متحلياً بشيءٍ من ذلك، لكنه ممن وفقه الله عزَّ وجلَّ إلى أن يكون جباراً للخواطر الكثيرة، وماسحاً عن الأفئدة المكلومة قتام الحزن، يجلو عنها الشعور بالآلام والمصائب، مع قصده بذلك رضا الله، إذا كان كذلك فليعلم أنه محبوبٌ من قبل الله -سبحانه وتعالى- وأنه ذو حظٍ عظيم.

أحبتي .. إذا كنتم مظلومين فلا تنسوا هذا الدعاء (يا جبار اجبر كسري) ولن يُخيب الله سبحانه وتعالى ظنكم؛ فهو مَن يجبر كسر المظلومين. وإذا كنتم ظالمين -ولو ظلماً بسيطاً هيناً من وجهة نظركم- فلا تنسوا أن الجبار سبحانه وتعالى يتوعد كل ظالمٍ، يُمهل ولا يُهمل، وإن أخذه للظالمين ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾، فبادروا إلى رفع الظلم بالرجوع إلى جادة الصواب ورد المظالم إلى أهلها أو طلب إبرائكم منها. وإذا لم تكونوا مظلومين ولا ظالمين فاحمدوا الله أن عافاكم مما ابتلى به غيركم، واحرصوا على كسب المزيد من الأجر بعبادةٍ سهلةٍ ميسرةٍ ألا وهي جبر الخاطر لكل شخصٍ مكسورٍ ولو بكلمةٍ طيبة.
اللهم يا جبار السماوات والأرض اجبرنا جبراً يليق بك، جبراً أنت أهله ووليه. يا ناصر المستضعفين انصرنا، يا جابر المنكسرين اجبر كسرنا، الله أعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.