الجمعة، 10 يناير 2020

الغافلون


الجمعة 10 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢١
(الغافلون)

كنت أتصفح بعض المجلات والدوريات الإسلامية فلفت انتباهي قصةٌ غريبةٌ وردت في إحدى المجلات الدينية التي تصدر في مونتريال بكندا. يقول كاتب القصة: صدف أن زرتُ إحدى العوائل المسلمة الميسورة هنا في كندا، وأصابتني الدهشة عندما وجدتُهم في سُباتٍ عميقٍ بعيدين عن الخالق عزّ وجلّ؛ حيث لا صلاة ولا دعاء ولا يعون شيئاً من الإسلام ولا السيرة، وكأنهم لم يسمعوا شيئاً عن الدين في حياتهم. وعندما طلبتُ منهم إحضار مصحفٍ فوجئتُ بأنّه لا يوجد لديهم أية نسخةٍ من القرآن الكريم! وبما أن زيارتي لهم كانت من أجل حل مشكلةٍ اعترضتهم، فقد انتهزتُ الفرصة لنصحهم وإرشادهم، وقلتُ بأنّ الله -سبحانه وتعالى– عندما يحب عبداً يبتليه ليعود إليه، وأنتم فإنّ الله ابتلاكم لتنتبهوا وتستيقظوا من سُباتكم وغفلتكم عنه سبحانه وتعالى. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، فلابدّ أن تبدءوا بالصلاة وتحاولوا أن تقرءوا بعض الأدعية وتقرءوا القرآن الكريم لتكون حياتكم سعيدةً مع الله، ولا سعادة من دونه. فهل توجد غفلةٌ أكثر من هذه؟ مسلمون خلا بيتهم من القرآن الكريم! وإن وُجد فهو للحفظ والزينة لا للتعلم والتدبر والقراءة! ولا صلاة يؤدونها! وإن أُديت فهي لإسقاط الواجب لا أكثر! وقد صدق سبحانه وتعالى حين قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

أحبتي في الله .. نعم إنهم (الغافلون)، رأيتُ كثيراً منهم لكن ليس إلى هذه الدرجة من الغفلة؛ رأيتُ مِنَ الغافلين مَنْ يسعون بهمةٍ ونشاطٍ لمكاسب ومغانم الدنيا الفانية، وعندما يأتي وقت العمل للدار الباقية دار الخلود يكون الكسل وفتور الهمة، إن لم يكن النأي والإعراض! وجدتُهم مهتمين بأمر الرزق غافلين عن الرزاق ذي القوة المتين! الأولوية للعمل يخصصون له معظم وقتهم، أما الصلاة فلا وقت لها! يؤجلونها قليلاً ثم يؤجلونها كثيراً ثم يكتفون بصلاة الجمعة ثم يهملونها تماماً، وإن نصحتَ أحدَهم طلب منك أن تدعو له بالهداية! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد كل الوقت للهو وتوافه الأمور؛ ولا وقت لديه لتحصيل ثواب صلاة الجماعة بالمسجد، ولا لحفظ أو تلاوة ولو القليل من القرآن الكريم، ولا لقيام الليل وإنْ بركعتين، يترك ذلك ليشاهد فيلماً أو حلقةً من مسلسلٍ أو مباراةً للكرة، تراه مشغولاً بمواقع الإنترنت وواتس آب وفيس بوك وغيرها! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد سعةً من المال لرحلةٍ سياحيةٍ أو امتلاكِ منزلٍ أوسع أو شراءِ سيارةٍ أحدث، ولا يفكر في أداء فريضة الحج ويتعلل بقوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾؟! ورأيتُ مِن الغافلين مَن ينفق المال على تغيير هاتفه المحمول كلما ظهرت نسخةٌ حديثةٌ منه، أو ينفق المال على تربية قططٍ أو كلابٍ أو أسماكٍ أو طيورِ زينةٍ لمجرد المتعة، وكان الأولى إنفاق المال في إطعام الفقراء والمساكين ومساعدتهم أو كفالة الأيتام! أما أعجب حالات الغفلة التي رأيتُها فهم (الغافلون) عن ذِكر الله؛ فما أسهلها وما أيسرها من عبادةٍ عظيمةِ الثواب لا تُكلف شيئاً، لا تتطلب مالاً ولا تحتاج جهداً ولا تستهلك وقتاً، والكثير منا عنها غافلون!
أما تلك الأسرة المسلمة في كندا فلم أرَ في حياتي أكثر غفلةٍ منها!

كيف يغفل المسلم، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾، لقد ظلم (الغافلون) أنفسهم بغفلتهم التي كانوا فيها؛ فيقولون يوم القيامة: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾، فهل من مردٍ يومئذٍ أو عودةٍ أو سبيلٍ إلى توبةٍ؟ لا، فيومئذٍ يكون الأمر قد قُضي، فلا ينفعهم الندم ولا تفيدهم الحسرة؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، فمن هم (الغافلون)؟
وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾.
و(الغافلون) أشار إليهم رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حين قال: [لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ]، وحين قال عليه الصلاة والسلام للمهاجرات: [عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفَلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ].

يقول أهل العلم إن من أعظم أسباب الغفلة؛ الجهل بالله عزَّ وجلَّ وأسمائه وصفاته، والاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها، وصحبة السوء، وحضور مجالس اللغو واللهو. وإن السبيل إلى وقاية النفس من الغفلة ومخاطرها يكون بذِكر الله تعالى؛ يقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾. وبقراءة القرآن؛ فبه تزكو النفوس، وتزول الغفلة والغشاوة عن القلوب، وتكون الذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، فيه هدىً ونورٌ، وموعظةٌ وشفاءٌ لما في الصدور. وبحضور مجالس العلم والذكر ومجالسة من يذكّرك بالله؛ فيَحُثك على ذِكره ويُسْمِعك كلامه، ويُحدثك عن رسول الله. وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى؛ فما أحوجنا إلى أن ندعوَ الله أن يُذَكِّرنا إذا نسينا، وأن يُنبهنا إذا غفلنا، وأن يرزقنا قلوباً طاهرةً وألسُناً ذاكرة. وبالمحافظة على الصلوات الخمس في جماعةٍ؛ فالغفلة تكون بترك الصلاة وتضييعها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن حافظَ على هؤلاءِ الصَّلَواتِ المَكتوباتِ لَم يكُن مِن الغافلينَ]. وبالحرص على قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ]. وبالإكثار من ذكر الموت؛ فكفى بالموت واعظاً، وكفى به مُنبّهاً ومُذكراً.
يقول أحدهم: إن المرء لو نظر لأحوال الناس لوجدهم في غفلةٍ عظيمةٍ وجرأةٍ عجيبةٍ على الله، يسيرون في طريق المعاصي والشهوات، ويتهاونون بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وُعدوا بالنجاة من النار وكأنها خُلقت لغيرهم؟
يقول الشاعر:
يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ
وَغَرَّهُ طولُ الأَمَلْ
الموتُ يأتي بَغْتَةً
والقبرُ صُندوقُ العَمَلْ
ويقول آخر:
أما واللهِ لو عَلِمَ الأنامُ
لِمَ خُلقوا لَما غَفلوا وناموا
لقد خُلقوا لِما لو أبصرتْهُ
عيونُ قلوبِهم تاهوا وهاموا
مَماتٌ ثم قَبرٌ ثم حَشرٌ
وتوبيخٌ وأهوالٌ عِظامُ
ويقول ثالث:
إنَّ للهِ عِباداً فُطُنا
طَلَّقوا الدُنيا وخافوا الفِتَنا
نَظَروا فيها فَلَمَّا علِموا
أنها ليستْ لِحيٍ وَطَنا
جَعَلوها لُجَّةً واتخَذوا
صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنا

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن بيَّن لنا سبيل الهدى والرجوع عن حالة الغفلة؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، كما فتح لنا النبي صلى اللهُ عليه وسلم باب الأمل بقوله: [مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ].

ليست هذه دعوةً إلى ترك الدنيا وعدم الانشغال بالرزق والتفرغ للعبادة، فهذا أمرٌ نهى عنه رسولنا الكريم، لكنها دعوةٌ للموازنة في الاهتمام ما بين: الدنيا مع الزهد فيها، والآخرة مع الاستعداد لها؛ ورد في الأثر قولهم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، يقول العارفون إن في ذلك دعوةٌ إلى الأخذ بالأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق، والاهتمام بعمارة الأرض فيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، مع الحث على العمل للآخرة، ودوام الاستعداد لها، وللقاء الله بالعمل الصالح الخالص لوجهه الكريم، وحُضُور النّيَّة والقَلْب في العباداتِ والطاعات، والإكْثار منها، فإِنّ من يَعْلم أنه يموت غَداً يُكْثر من عبَادَته، ويُخْلِص في طاعتِه.

أحبتي .. كلنا غافلون بدرجةٍ أو أخرى، مقصرون في حق الله وفي حق أنفسنا. لذلك أقول لنفسي ولكم: أفيقوا يرحمكم الله، أنقذوا أنفسكم، تداركوا ما فاتكم من خيرٍ، وسارعوا إلى حجز أماكنكم في الجنة، التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ؛ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]، وينقل لنا وصف المولى عزَّ وجلَّ لها بقوله: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾]. فلا تُضَيِّعوا أوقاتكم فيما لا يفيد. الدنيا مزرعةٌ للآخرة؛ اتعبوا الآن في الزراعة لتهنأوا وقت الحصاد، وأبشروا بما وعدكم الله به، ليس فقط بالعفو عن السيئات، بل وبتبديلها حسنات؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، فلا تُفَوِّتوا على أنفسكم هذه الفرصة!
اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

http://bit.ly/2NdlkRU