الجمعة، 12 مايو 2023

هو الحكيم الخبير

 خاطرة الجمعة /395

الجمعة 12 مايو 2023م

(هو الحكيم الخبير)

تحت عنوان "عندما يكون السارق شريفاً" كتب الشاعر والكاتب الباكستاني "أديب مرزا" المتوفي سنة 1999م في كتابه "المصباح" يقول:

ذهبتُ إلى «دلهي» في الستينات للعمل.. وفي أحد الأيام نزلتُ من الحافلة؛ ثم فتشتُ جيوبي لأتفاجأ بأن أحدهم قد سرقني، وما كان في جيبي حين نُهبت سوى تسع روبياتٍ، ورسالةٍ في مظروفٍ كنتُ قد كتبتها إلى أمي أقول في الرسالة: "أمِّي الحنون، فُصلتُ من عملي، لا أستطيعُ أن أُرسل لكِ هذا الشهر مبلغ الخمسين روبية المعتاد". وكنتُ قد وضعتُ رسالتي هذه في جيبي منذ ثلاثة أيامٍ على أمل أن أُرسلها في وقتٍ لاحقٍ بما يتوفر من روبيات، وبالرغم من أن الروبيات التسع التي سُرقت لا تُساوي شيئاً؛ لكن الذي فُصل من عمله؛ وسُرق ماله تساوي في نظره 9000 روبية! مضت أيامٌ ثم وصلتني رسالةٌ من أمي.. توجستُ خوفاً، وقلتُ في نفسي: "لا بد أنها طلبت المبلغ الذي اعتدتُ إرساله إليها"، لكني عندما قرأتُ الرسالة احترتُ كونها تحمل شكرها ودعواتها لي، قائلةً: "وصلتني منك 50 روبية عبر حوالتك المالية، كم أنت رائعٌ يا بني، تُرسل لي المبلغ في وقته ولا تتأخر بتاتاً، رغم أنهم فصلوك من عملك، أدعو لك بالتوفيق وسعة الرزق..".

عشتُ مُتردداً مُحتاراً لأيام.. مَنْ يا تُرى الذي أرسل هذا المبلغ إلى أُمي؟!! وبعد أيامٍ وصلتني رسالةٌ أُخرى بخط يدٍ بالكاد يُقرأ، كتب فيها صاحبها: "حصلتُ على عنوانك من ظرف الرسالة، وقد أضفتُ إلى روبياتك التسعة، إحدى وأربعين روبيةً كنتُ قد جمعتها سابقاً، وأرسلتها بحوالةٍ ماليةٍ إلى أُمك حسب العنوان الذي في رسالتك.. وبصراحةٍ فإني قد فكرتُ في أُمي وأُمك، فقلتُ في نفسي: لماذا تبيت أُمك أيامها طاويةً على الجوع وأتحمل ذنبك وذنبها؟ تحياتي لك.. أنا صاحبك الذي سرقك في الحافلة.. فسامحني"!

 

أحبتي في الله.. سبحانه وتعالى يدبر أمور الكون كله ويصرف شئون العباد و(هو الحكيم الخبير). انظروا كيف دبّر الله أمر تلك المرأة كبيرة السن، لا تعمل ولا عائل لها، ويبعد عنها ابنها الذي يكفلها آلاف الكيلومترات! وانظروا كيف تم التدبير! لقد سخّر المولى عزَّ وجلَّ سارقاً لإيصال رزقه إلى تلك المرأة عندما عجز ابنها عن ذلك! فسُبحان من رقّق قلب هذا السارق لها! سُبحانه وتعالى يُدّبر الأمر من حيث لا نحتسب؛ أليس (هو الحكيم الخبير)؟!

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى بطلها هو الآخر لص! قصةٌ تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي تقول إن شخصاً اتصل بأحد البرامج الإذاعية الصباحية الذي يُبث يومياً على إحدى الإذاعات الأردنية، وعرّف المتصل بنفسه على أنه حرامي يقتات من السرقة! ولديه قصةٌ يُريد أن يقولها عبر الإذاعة ليُعرِّف الناس بها علهم يجدون حلاً للغزٍ حيَّره. لم يُصدق المذيع أن أحداً يُعرِّف بنفسه على أنه حرامي واعتقد بأنّ في الأمر دُعابةً، إلا أنه سمح للحرامي أن يقص قصته ويسرد وقائعها! قال الحرامي إنه دأب على مراقبة ڤيلا في إحدى أرقى ضواحي العاصمة الأردنية بمنطقة «عبدون» لمدةٍ تقرب من الشهر؛ لأنه كان ينوي سرقة الڤيلا لمعرفته بأنها شبه خاويةٍ من أهلها، لكنه وأثناء مراقبته لاحظ أمراً عجيباً؛ فبين كل يومٍ ويومٍ يأتي رجلٌ وامرأةٌ ومعهما شابٌ أو فتاةٌ أو أكثر، وبعد مُضي بعض الوقت يخرج الرجل والمرأة ولا يخرج من كان معهما أبداً؛ فبدأ بالمراقبة الحثيثة للڤيلا عله يعرف متى ستكون خاويةً لينقضّ عليها ويسرقها، لكنه كان يرى ذات الشيء يتكرر؛ الرجل والمرأة يخرجان ولا يخرج من كان بصحبتهما! ومما زاد من حيرته واستغرابه كيف يبقى كل هؤلاء الشباب والفتيات في ظُلمةٍ بغير أي ضوءٍ وبلا حركةٍ تظهر من أيٍ منهم؟! راقب كل منافذ الڤيلا والأسوار المحيطة بها عله يرى باباً سحرياً أو منفذاً يخرج منه هؤلاء، فلم يرَ شيئاً! الأمر الذي دعاه للاتصال بالبرنامج لأنه لا يستطيع أن يلجأ إلى الشرطة مُعرّفاً بنفسه أنه حرامي يريد أن يسرق تلك الڤيلا! فما كان من القائمين عن البرنامج الإذاعي إلا التأكد من كلام ذلك الحرامي والاتصال بالأمن ليكتشف المجتمع الأردني واحدةً من أبشع جرائم العصر؛ إذ اكتشف رجال الأمن أن الڤيلا كانت مقبرةً جماعيةً وسوقاً للأعضاء البشرية، واكتشفوا أن الرجل والمرأة هما من سماسرة الأعضاء البشرية، يُحضران الشباب والفتيات ويُخدِّرونهم ثم يقتلونهم بعدما يأخذون الأعضاء المُناسبة من أجسامهم كالنخاع الشوكي والكليتين والقلب وكل ما يلزم، ثم يدفنون موتاهم في الڤيلا المجهزة بالثلاجات وكافة الوسائل لحفظ الأعضاء البشرية!

جريمةٌ كشفها لصٌ، ما كانت لتخطر على بال أحد، في وسط أرقى أحياء «عمّان» وفي وضح النهار! وهكذا أسدل هذا الحرامي الستار عن واحدةٍ من أبشع الجرائم!

ورغم نفي الجهات المسئولة صحة هذه الواقعة، فإنه لا يوجد ما يمنع حدوثها بالفعل، وهي تُبين لنا أن الله إذا أراد لشيءٍ أن يكون فإنه يُسّخر من يشاء لفعل ما يشاء وقت ما يشاء وكيفما شاء أليس (هو الحكيم الخبير)؟

 

يقول أهل العلم إن اسم الله (الحكيم) ورد في القرآن الكريم إحدى وتسعين مرةً، واقترن بـ(الخبير) أربع مراتٍ، وورد اسم الله (الخبير) في القرآن الكريم خمساً وأربعين مرةً. والآيات التي اقترن فيها الاسمان هي: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.

فالله عزَّ وجلَّ حكيمٌ، موصوفٌ بكمال الحكمة، وبكمال الحُكم بين المخلوقات؛ فهو واسع العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، تام القدرة، يضع الأشياء مواضعها، ويُنزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، حكيمٌ فيما أمر به ونهى، وأثاب وعاقب، وفيما خلق وقدّر، وفي تدبيره شئون جميع خلقه، لا يخفى عليه عواقب الأمور وبواديها، ولا يقع في تدبيره خلل.

وهو سُبحانه خبيرٌ مُطلعٌ على الظواهر والبواطن، والسرائر والضمائر وخفايا الأمور، أحاط علمه بالماضي والحاضر والمستقبل، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، لا يجري في مُلكه وملكوته شيءٌ إلا ويكون عنده خبره، عالِمٌ بدقائق الأمور، عالِمٌ بما كان وما سيكون وما هو كائنٌ وما لم يكن لو كان كيف يكون.

يُدبر سُبحانه وتعالى الأمر؛ بتقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حالٍ وأفضل عاقبةٍ، يُقدِّر أمر جميع الكائنات والمخلوقات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويُهيئ بقدرته أسبابها لتجيء محمودة العاقبة.

سُبحانه وتعالى (هو الحكيم الخبير) المدبر لشئون خلقه، لا يكون من أمرٍ صغيرٍ أو كبيرٍ إلا بعلمه وتقديره.

 

أحبتي.. قدرة الله لا حدود لها؛ فهو عزَّ وجلَّ ﴿بَالِغُ أَمْرِهِ﴾، وهو ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾، كما أنه ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ وهو ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾، وهو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ و(هو الحكيم الخبير)، وهو ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ لا شيء يُعجزه؛ فلنُحسن الظن به، نلجأ إليه، ونتوكل عليه، وندعوه ونُلح في الدعاء ونحن موقنون بالإجابة، ونأخذ بالأسباب، حينها تتنزل علينا رحمته؛ فيستجيب دعاءنا، ويُحقق رجاءنا، ويُدهشنا ليس فقط بكرم عطائه بل وبالطريقة التي يصل لنا عطاؤه بها!

أنصح نفسي وإياكم بتقوى الله، والإخلاص له، والثقة فيه، وحُسن الظن به، ثم علينا الأخذ بالأسباب التي لا تُخالف الشرع إلى مداها، ولا نحمل بعد ذلك هّم الإجابة؛ فسيُدّبر لنا الله برحمته وقدرته ما فيه نفعٌ لنا، ولو عن طريق عدوٍ، أو بواسطة شخصٍ نستبعد تماماً أن يكون مصدر خير!

أهم ما يتوجب علينا فعله أحبتي هو التقرب إلى الله بالمُحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: {...وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...}.

اللهم ثبّتنا على الهُدى، وزِد إيماننا، وقوِ عزائمنا، وأعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/3MjhWmD