خاطرة الجمعة /471
الجمعة 1 نوفمبر 2024م
(ارحموا من في الأرض)
يقول رجلٌ فاضلٌ: رأيتُ شاباً يُصلي على يساري ونحن نُصلي صلاة العشاء
بالمسجد، وعقب انتهاء الصلاة صافحني بحرارةٍ ومودةٍ، لمحتُ في عينيه طِيبةً
مُختلطةً بالحُزن والأسى، أحسستُ بأن بداخله شيءٌ يُريد أن يبوح به لي، عرَّفني
بنفسه دون أن يذكر اسم أبيه، برغم أنني اكتشفتُ بعد ذلك أنني أعرف أباه. كان
طالباً يَدْرُس بالجامعة، تبدو عليه ملامح النبوغ والتفوق برغم إعيائه الشديد، ومن
باب الأدب مع أبيه أخفى عليّ اسم أبيه حرصاً على عدم تشويه صورة أبيه عند من
يعرفه. قال لي الشاب في نبرةٍ مليئةٍ بالحُزن والانكسار: "طردني والدي من
البيت منذ أُسبوع!"، سألتُه: "لماذا؟"، فأجابني: "لأنه قاسٍ،
عفواً يا عمي، أعلم أنه أبي، وله فضلٌ كبيرٌ عليَّ، فاعفني من ذِكر اسمه، لأنك
تعرفه وهو يعرفك، ولكن مهما وصفتُ لك قسوته فلن يصل وصفي إلى الحقيقة؛ فقسوته تمتد
إلى أُمي وجميع إخواني وأخواتي، ليس لديه لغةٌ سوى الشتم والسب والإهانات والضرب
والطرد، وكثيراً ما يحبسنا في غُرفةٍ مُنعزلةٍ فوق سطح البيت، ويُغلق علينا بابها،
وبرغم هذه القسوة -وخاصةً عندما كان يحبسنا ونحن أطفالٌ صغارٌ ولا يرحم بكاءنا
البريء- فإني ووالدتي وإخوتي وأخواتي نُقدِّره ونحترمه، لكنني أشعر بأن رصيده من
الحُب في قلبي يتناقص، وخاصةً عندما يُهين أُمي ويشتمها ويضربها أمامي برغم أنني
كبرتُ وصرتُ أدرس بالجامعة. لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي وإخوتي
وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف يُطلِّق
والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي
وإخوتي وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف
يُطلِّق والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد بدأتُ أشعر بالنفور من أبي، وفي
الوقت ذاته أنا حريصٌ على بِره وطاعته، إرضاءً لله وخشيةً منه، مما جعلني أعيش
صراعاً نفسياً يكاد أن يُمزقني، ولا أدري ماذا أفعل؟ كيف أبر والدي وهو يحول بيني
وبين رؤيته؟ وكيف تراني أُمي التي تتقطع شوقاً لرؤيتي وأنا مطرودٌ خارج البيت؟!
وهي تسأل: {هل يجوز لها أن تراني دون علم أبي؟ وهل في ذلك خيانةٌ كما قال أبي؟
وكيف توفق بين طاعة زوجها والتواصل مع ابنها الذي تشتاق لرؤيته ولا تتحمل
فراقه؟}".
سألتُ الشاب: "وأين تنام الآن؟ وكيف تعيش؟"، فأجابني: "أنام
حيناً عند بعض أصدقائي، لكنني إن نمتُ ليلةً عند أحدهم لا أُريد أن أُثقل عليه
أكثر من ليلةٍ، فأبحث عن ملاذٍ آخر، وقد بِتُ ليلتين تحت سُلّم في مدخل عمارةٍ،
وكنتُ أحرص ألا يراني أحدٌ؛ كي لا يحسبني لِصّاً، كما عانيتُ في هاتين الليلتين من
قسوة البرد، وفي كل ليلةٍ كنتُ أتصل بوالدي وأتوسل إليه أن يردني، وأشكو إليه شدة
البرد، وأنا أرتجف ولكن قلبه لم يَرقّ لي، فكنتُ أطلب وساطة بعض مَن أتوسم أنهم
يؤثرون فيه كأعمامي أو عماتي أو بعض أصدقائه، فكان يرفض وساطتهم بشدةٍ، ويُعنفني
ويوبخني ويتوعدني بالعقاب؛ لأنني -على حد قوله- أُقحمهم في أمورنا الخاصة، وأكشف
لهم أسرار بيتنا!"، قلتُ له: "الزم بِر والدك مهما صنع؛ وعامله
بالحُسنى، عسى أن يَرقّ قلبه، وأكثِر من الدعاء له بالهداية، ولا تيأس من التودد
إليه، واختر رجلاً من الحُكماء المؤثرين الذين يحفظون أسرار البيوت ويمتلكون
مهارات التأثير واجعله وسيطاً بينك وبين أبيك، فربما الأعمام أو العمات لا يمتلكون
هذه القُدرات حتى وإن لم يستجب والدك لهذا الوسيط، فلا تيأس، وبادِر بالرجوع إلى
البيت، وتحمَّل ما تلقاه من أبيك واستعدّ لذلك بالصبر، وأظهِرْ له منك كل قولٍ
حسنٍ وتعاملٍ راقٍ، واضرب على أوتار عواطفه، كأن تقول له: {أنا ابنكَ يا أبي، وليس
لي في حياتي أَحبَ منكَ، لو كنتُ تدري كيف كنتُ أنام في الأيام الماضية لما تركتني
خارج البيت لحظةً} وتحكي له ما عانيتَه، وعاهده على طاعته وإرضائه -طبعاً فيما لا
يختلف مع شرع الله عزَّ وجلَّ- واستعن بذِكر الله تعالى والدعاء، وتذكَّر بلاء
الناس عسى أن يُخفف الله عنكَ بلاءك.
أنا أُدرك يا بُني نفسية الشخصية القاسية، وأعلم أنه لا يُعير الآخرين
اهتماماً، ولا يُقدِّر إنسانيتهم، ولكنك إذا ذكَّرتَ نفسكَ بأجر الصبر على والدك
وبِره رغم قسوته لبادرتَ إلى ذلك ولسارعتَ، ولوجدتَ في ذلك لذةً في تلك الطاعة
التي تحتسبها عند ربك، وترجو ثوابه وأجره العظيم، واعتبر ذلك بلاءً واصبر
عليه".
وقلتُ له أما عن أسئلة والدتك؛ فأقول لها: "اصمدي فأنتِ على الحق، ولن
يُخيِّب الله جهدكِ، ولن يُضيِّع أجر صبرك، كوني شامخةً للحفاظ على أولادكِ، ولا
بأس أبداً من أن يراكِ ابنكِ المطرود من البيت، وأن تحظي برؤيته دون علم أبيه،
وليس في ذلك حرجٌ شرعيٌ، ولا تُثيري هذه القضية مع زوجكِ القاسي؛ لأن ذلك سيُسبب
لك مُشكلاتٍ. احرصي على ضبط المعادلة العاطفية مع أولادكِ -وخاصةً البنات- فكثيرٌ
من الآباء يُخطئ عندما يقسو على أولاده وزوجته، ويستقي ذلك من ميراثه الاجتماعي
الذي عاشه في أُسرته الأولى، ظناً منه أنه بهذه القسوة سيُحافظ على زوجته وأولاده
من الانحراف، وهو في الوقت ذاته يملك قلباً رقيقاً حنوناً، ولكن ذلك قد يأتي
بنتائج عكسيةٍ؛ فكثيرٌ من الأبناء والبنات عندما تُتاح لهم الفرصة خارج البيت
للحصول على الحُب والعاطفة واللين التي افتقدوها في البيت فإنهم يقعون في المحظور،
وكثيرٌ من الخيانات الزوجية، والانحرافات السلوكية للأبناء والبنات يكون سببها
قسوة الزوج والأب، فاحرصي أيتها الأُم العظيمة على منح أبنائكِ وبناتكِ حُباً
يُعوِّض قسوة هذا الأب المُتسلط؛ حتى تحميهم من الانحراف، واصبري ولك الأجر العظيم
من رب العالمين. يُمكن أن تُوسطي مَن يؤثر فيه مِن الحكماء أو الدُعاة أو
المُصلحين دون أن يُعْلِمَه بأنكِ طلبتِ وساطته؛ لأن الشخصية المتسلطة القاسية لا
يهمها إلا مصلحتها الشخصية، ولا يُقدِّر الآخرين وخاصةً أفراد أسرته، وأكثِري من
الدُعاء له بالهداية، فكثيرٌ من الأزواج والآباء القُساة يظنون أنهم بقسوتهم هذه
سيحمون أُسرتهم، وربما يحملون -رغم قسوتهم- قلوباً رحيمةً ودودة".
أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الرحمة في أبسط معانيها، أن تملك قلباً
رقيقاً عطوفاً ودوداً مُحباً للآخرين، وما كان رسولنا العظيم لينجح في إيصال
رسالته -رغم ما لاقاه من تعنتٍ وصدود- إلا لكونه يملك قلباً رحيماً؛ يقول تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، ومن أجل الرحمة بالعالمين أرسله الله:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمونَ يرحمُهُمُ الرَّحْمَنُ.
ارحَموا مَن في الأرضِ يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ منَ
الرَّحمنِ فمن وصلَها وَصَلَهُ اللَّهُ ومَن قَطَعَها قَطَعَهُ اللَّهُ]. يقول
شُرَّاح الأحاديث: "الرَّاحِمونَ"، الذين يرحمون مَن في الأرض مِن
إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيره؛ شفقةً ورحمةً ومواساةً. "يرحمُهُمُ
الرَّحْمَنُ"، برحمته التي وسعت كل شيءٍ، فيتفضل عليهم بعفوه وغُفرانه وبِره
وإحسانه، فالله عزَّ وجلَّ مُتصفٌ بالرحمة، وهو سُبحانه الرحمن الرحيم، الموصل
الرحمة إلى عباده. (ارحموا من في الأرض)، أي: جميع مَن في الأرض مِن أنواع الخلق.
"يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ"، وهو الله تعالى العلي بذاته، المُستوي
على العرش فوق سماواته. "الرَّحِمُ شُجْنَةٌ"، الشجنة في الأصل: عروق
الشجر المشتبكة، والمُراد بها القرابة المشتبكة كاشتباك العروق؛ فمن الرحم جاءت
الرحمة. "فمن وصلها"، أي: الرحم. "وَصَلَهُ اللَّهُ"، أي:
أوصل الله إليه رحمته وإحسانه وإنعامه. "ومَن قَطَعَها"، أي: الرحم،
"قَطَعَهُ اللَّهُ"، أي: قطع الله عنه الرحمة والإحسان والإنعام.
ويقول العلماء عن الرحمة والتراحم: أكثر ما يحتاج له الناس هذه الأيام هو
التراحم فيما بينهم، فالرحمة والتراحم أجمل شيءٍ في الحياة، لو دخلت قلوبنا
وأدخلناها في حياتنا وبيوتنا صلُحت أمورنا كُلُّها. والتراحم هو وصفٌ للمجتمع
المسلم، وصف الله به أهل الإيمان؛ يقول تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. كما أنها
مخرجٌ مما نحن فيه من الهموم والمصائب والأزمات، وملجأٌ من الغموم والفتن
والنكبات. والمُجتمع المُسلم كله يقوم على الرحمة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
[مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا
اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]. والله
عزَّ وجلَّ أرحم الراحمين؛ فهو الرحمن وهو الرحيم، لو فتح سُبحانه باب رحمته لأحدٍ
مِن خَلقه، فسيجدها في كل شيءٍ، وفي كل موضعٍ، وفي كل حالٍ، وفي كل مكانٍ، وفي كل
زمانٍ، فرحمته وسعت كل شيءٍ، كما أنه لا مُمسك لرحمته؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ
ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا
مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ﴾. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة
الحسنة؛ فقد كان أرحم الناس؛ وهبه الله قلباً رحيماً، يرق للضعيف، ويحن على
المسكين، ويعطف على الخَلق أجمعين. ومن علامات سعادة العبد أن يكون رحيم القلب؛
فالرحيم أولى الناس برحمة الله، وهو أحب الناس إلى الناس، والأقرب إلى قلوبهم، وهو
الأحق بالجنة لأنها دار الرّحمة لا يدخلها إلّا الرّاحمون؛ يقول رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ]. أما حين تنعدم الرحمة من القلوب فإنها تُصبح مثل
الحجارة أو أشد قسوةً؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ
فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إن
أبعدَ الناسِ من اللهِ القلبُ القاسِي]، أي: ذو القلب القاسي. ويقول صلى الله عليه
وسلم: [لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلا مِن شَقِيٍّ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [خَابَ
عَبْدٌ وَخَسِرَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْبَشَرِ]. إن هذه
القسوة التي تُصيب القلوب هي في حقيقتها عقوبةٌ من الله تعالى لبعض عباده جزاء ما
اقترفوه؛ قال أحد التابعين: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، وما
غضب الله على قومٍ إلا نزع الرحمة من قلوبهم".
وعن معنى (ارحموا من في الأرض) قال الشاعر:
إِنْ كُنتَ لَا تَرحَمُ المِسكِينَ إِنْ عَدِمَا
وَلَا الفَقِيرَ إِذَا يَشكُو لَكَ العَدَمَا
فَكَيفَ تَرجُو مِنَ الرَّحمَنِ رَحمَتَهُ
وَإِنَّمَا يَرحَمُ الرَّحمَنُ مَنْ رَحِمَا
أحبتي.. لا أجد وصفاً لبيان كيف يُلزم كلٌ منا نفسه بمبدأ (ارحموا من في
الأرض) أفضل مما ذكره عالمٌ فاضلٌ بقوله: كُن رحيماً مع جميع الخلق، لطيفاً مع كل
عباد الله، وإن لم تستطع نفع إنسانٍ فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم
تمدحه فلا تذمه، وإن لم تقف معه فلا تُعِن عليه، وإن لم تفرح بنعمته فلا تحسده،
وإن لم تمنحه الأمل فلا تُحبطه. لا تكن جاف المشاعر، قاسي القلب، ولكن كُن رحيماً
فالراحمون يرحمهم الرحمن، وبقدر الرحمة التي تُعطيها لمخلوقات الله من بشرٍ
وحيوانٍ وطائرٍ ونباتٍ وجمادٍ يرحمك ربُ الأرض والسموات، في الدنيا والآخرة.
اللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك؛ فكما يقول الحبيب المُصطفى
عليه الصلاة والسلام: [ليس آدَميٌّ إلَّا وقَلبُه بين أُصبَعَينِ مِن أصابعِ
اللهِ]؛ فليكن دعاؤنا: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾، وأنعِم علينا
بصفتيّ: الرحمة واللين، وانزع من قلوبنا الفظاظة والغلظة والقسوة؛ إنك على كل شيءٍ
قدير.